في صبيحة كلّ يوم أحد أتجوّل حاملةً كاميرتي في شوارع وأحياء بيروت، قديمها قبل جديدها، متفرعاتها قبل الرئيسي منها، وأحياناً أزقتها المقفلة قبل الكبيرة والتي أخرج منها بتحفة تراثية مهملة أحظى بتصويرها وتوثيق ذكريات أصحابها او ساكينيها الحاضرين أحياناً أو غالباً المهجّرين منها قسراً.
وفي أحدٍ من الآحاد قررتُ أن أذهب إلى وسط بيروت المسمّى حديثاً «داون تاون»، فاتخذت ساحة رياض الصلح وجهتي، حطّ بيَّ المسير أمام مبنى مسيّج بألواح الحديد ولوحات ممنوع الدخول، حاولتُ استراق النظر من بين السياج، فلم اكتفِ، وانحدرتُ يميناً إلى خلف المبنى لأجد فتحة صغيرة؛ تمكنتُ من الدخول عبرها فإذا بي أكتشف أنني في حضرةِ التياترو الكبير.. في المكان قططٌ شاردة، وطيور زائرة ومستوطنة بأعشاش بين المقاعد والجدران. تحرّك في حنايا نفسي شعور غريب أصفه بكلمتين اثنتين: اختراق الماضي! أنا لم أعش فترة ما قبل الحرب، ليس لي ذكريات في هذه الأمكنة لكن عندما تقف أمام صرح كهذا لا يسعك إلا أن تطلق العنان للمخيّلة مدعومة ببعض الوقائع التاريخية الموثّقة، أعرف أنه من صروح ثلاثينيات القرن الماضي، وصمّمه المهندس المعماري يوسف بك أفتيموس، بشكل كلاسيكي لخدمة عروض فرق الأوبرا المستقدمة من أوروبا، ويتميّز ببهوٍ فسيح يتفرّع منه درجان عريضان يؤديان إلى مقصوراته الفخمة وغرف الممثلين الفسيحة، وقد بدأت العروضُ فيه عام 1929 بالمسرحية الغنائية الأَميركية «لا… لا يا نانيت» مباشَرةً بعد نجاحها الـمُدَوِّي على أَحد أَرقى مسارح برودواي بنيويورك. كان لهذا المسرح إسهام في الحياة الفنّية اللبنانية بين الثلاثينيّات والأربعينيّات من القرن العشرين، حيث كان مجهّزاً بآلية خاصة للديكورات المتحركة تساعد على السرعة في تغيير المناظر والخلفيات، وفيه فتحة في وسط الخشبة تستعمل للخِدَع المسرحيّة، وستارة ثانية تقسّم الخشبة إلى نصفين لتساعد في تجهيز ديكورات المشهد التالي خلفها. لعقدين من الزمن 1930 – 1950 ازدهر خلالهما التياترو الكبير بما أوجد من أجله، واعتلى مسرحه أهمّ الفنانين من ممثلين ومطربين وعازفين موسيقيين وفرق أوبرا واستعراض، فبقيت ذاكرة أجيال تلك السنين تتحدّث بفخر عن صولات عمالقة الغناء والتمثيل داخل التياترو، أمثال أم كلثوم، ومحمد عبدالوهاب، وصباح، وكذلك أمسيات شعرية لبشارة الخوري الملقب بـ «الأخطل الصغير»، في أجواء من الرقيّ والأناقة والذوق الرفيع، في الأداء، وفي التلقّي من جمهور بيروت وكلّ لبنان من متذوّقي الفنون على اختلافها. مع بداية العام 1950 تحوّل التياترو الكبير إلى صالة عرض سينمائي وظلّ هكذا إلى أن اندلعت حرب الآخرين على أرض بيروت ولبنان عام 1975.. فدمّر وسط بيروت، وهجره أهله ورواده والعاملون في مقار كبرى الشركات والمصارف العربية والإقليمية والدولية. مبنى التياترو الكبير الصامد لم تهزّه أصوات المدافع ولم تنل منه قوتها التدميرية. غبار وحطام في الداخل، ونيّة معلنة بالترميم وإعادة التأهيل توحي به الأسياج في الخارج، وعندنا يبقى تساؤل مشروعٌ ومُلحٌّ: لماذا رُمّمت أو أعيد بناء معظم مباني وسط بيروت باستثناء التياترو الكبير؟ هل تتكتّمون على مفاجأة ما للبنانيين؟ أم ماذا عساكم تدبّرون؟