بيروت وأعمال مؤرِّخيها (1) المدينة في سياقي التأريخ والتاريخ

الدكتور وجيه فانوس* 

ما من شكَّ في أنَّ «سِتّ الدُّنيا»، «بيروت»، كما يقول عنها شاعر العرب الكبير نزار قبَّاني، تحتل مطرحاً شديد الأهميةِ في ذاكرة أبنائها وروادها العرب والعالميين، منذ أن كانوا وكانت. لقد ارتبطت حياة «البيارتة» بهذه المدينة، على امتداد دهور مديدة؛ بدأت من ما قبل العهد الرُّوماني، الذي حفظ التَّاريخُ بعضاً من معالِم أحداثِهِ وطبيعةِ أمورهِ، بمحطات عديدة؛ وها هي، الآن، ما برحت تشقُّ عُباب القرونِ، وتحطُّ عند شواطئ السِّنين، وتختالُ مَزْهُوَّةً بين العهود، مُعايِشَةً تَبَدُّلَ الأحوال، فراشةَ حياةٍ وعصفورةَ عطاءٍ وفلذةَ وجدان.

اقترن البيارتة، منذ القدم وإلى اليوم، بالمناطق المتعددة والمتمايزة، فيما بينها، لمدينتهم هذه؛ فلطالما سلكوا شوارعها المتنوِّعة، ولكلِّ واحد منهم لقاءَهُ التَّاريخي والعاطفي بأحيائها؛ بل ما برح، لكثيرين من ناسها، عِشْقٌ مُقَدَّسٌ لِما تعبق به أزقَّتها ووزواريبها من ذكريات وتطلُّعات. والحال لا يختلف، على الإطلاق، مع أسواقها؛ إذ يتلاقى القومُ فيها، ساعين في مناكب العيشِ، على ما في كلِّ منهم من تفاوت عن الآخر؛ ولا يختلف الحال مع معاهد العلم فيها، التي ما برح الدَّهر يَشْهَد لتفوّقها، في العلم وإنارتها للعقول؛ وكذلك هو الأمر، مع سائر مؤسَّساتها؛ وكيف لا، وقد شهد عالَمُ الأعمال والتِّجارة والإدارة، عبر منعطفات العصور وتوالي أحداثها، لريادتها وإبداعها. لا شكَّ، كذلك، أنَّ بيروت، رغم كلِّ ما صارت تعانيه من مآسٍ في الزَّمن الراهن، ما برحت تحتل صدارة كبرى في ضمير ناسها، من بيارتة وسائر اللّبنانيين، بل وكثير جداً من العرب والأجانب؛ وما انفكَّت تشكِّل منهلاً ثرَّاً للتَّعمُّق في عديد من منطلقات أحداث التَّاريخ، قديمه ووسيطه وحديثه وراهنه؛ بل ما انفكَّت بَيْضَةْ قبَّان أساسٍ تدور حولها، ومن أجلها وفي سبيلها، سياسات دُوَلٍ تسعى إليها، عبر حروبٍ ومعاهداتٍ وتحالفاتٍ لا حصر لها ولا لاكتناه كثير من غوامضها أو أسرارها.

كثر انهمكوا في الكتابة عن بيروت، ولبيروت؛ منهم من نَظَم الأشعار في مراتعها، ومنهم من لَحَّن الأغاني لاسمِها وذِكرها، ومنهم من وضع القصص والرِّوايات عن أحداثها وشخصياتها، ومنهم من دبَّج الخُطب والمقالات، عن حالاتها وأوضاعها، ومنهم، كذلك، من سعى إلى البحثِ في بعض أحداث تاريخ المدينةِ والغَوْصِ، إلى ما استطاع إليه وصولاً، مِن أعماقِ هذه الأحداث؛ عارضاً أو شارحاً أو محلِّلاً وكذلك مستنتجاً.

واقعُ الحال، إنَّ تاريخ بيروت، بِحَدِّ ذاته، عتيقٌ عريقٌ وحديثٌ حي، كبيرٌ ومتنَوِّعٌ، غنيُّ ومتشعِّب، معلوم ومجهول، في آن. ظلَّت كثير من محطات تاريخ بيروت، ولربما مغاليقه، عَصِيَّةً على التَّمكُّن من الوصول إلى جَمْعٍ متنامٍ ومتكاملٍ لها؛ كما ظلَّ كثير من الدِّراسات المتفرِّقة عن بيروت، متمرِّداً على محاولات عديدة للضمِّ بين أشتاتها، والعمل على ربطِ ما تفرَّق أو تنافر من شذراتها، ولمِّ شملِ ما تناثر من كنوز معارفها. واقع الحال، لقد اختار كثيرون من الباحثين، في مجالات التَّأريخ لبيروت، المنصرفين إلى الكشف عن فضاءات تاريخها، أن يَقْصُرَ كلٌّ منهم، جهده المركَّز، في العمل على جانب من مجالاتها، أو أن يحصر اهتمامه بزمنٍ محدِّدٍ من أزمنتها، أو أن يركِّزَ جهوده على واحد من موضوعاتها الغزيرة وشؤونها الوفيرة؛ ولا بدَّ من الإشارةِ، ههنا، إلى أنَّ هذا الاختيار هو اختيار طبيعي وعملي وواقعي، تفرضه سياقات البحث، وتدعوه مسارات المنطق العلمي في العرض والدَّرس والاستنتاج.

وكيف ما دار الأمر، فإنَّ لكلِّ من سعوا إلى وضع تاريخ عام أو محدَّد عن هذه المدينة، أن حازوا، كلٌّ بناءً على ما قدَّم من جهد، وأبدى من مقدرة، وتوصَّل إليه من نتائج، فوزاً نالوا به خير العِلم، وتنافساً فيما بينهم، لنوالِ فضل السَّعي في الحصولِ على إحدى مراتب سموِّ المعرفة. ومن هنا، فلم يكن السعيًّ إلى تأريخٍ ما لبيروت، ليخذل أحداً ممن اهتمُّوا بتأريخ ما وقع من أحداث على أرضها، وما عاشه ناسها وعايشوه من أمور. ولم يكن الغوصُ في تاريخ بيروت، كذلك، ليتخلَّى عن من أحسنوا التَمسُّكَ بتلابيب موضوعيَّته وأجادوا التَّمسَّك بقوَّة حقائقه؛ فعاشوا، جميعاً، مؤرِّخين، يسعون وراء الحدث والواقع، وتاريخيين، يدرسون الحدث ويتبعونه عرضاً وتحليلاً واستنتاجاً، بفيضٍ مِن نِعَمِ هذا الاهتمام؛ وباتوا وقد إِسْتَحْوَذَ كلاَّ منهم، ما استطاعه أو استحقَّه من شهرةٍ وفضلٍ؛ فانتشر ذِكْرُهُ، عَبْرَ الحقب، مؤرِّخاً لبيروت، وواحداً من سدنة ذخائر أيامها وأحداثها.

تحوي مكتبة تأريخ بيروت وتاريخها، اليوم، ذخائر أساس ودراسات لن يمكن إغفالها، وهذه جميعها ممَّا يساهم، إلى حد كبير وفعَّال وبما يمكن من موضوعية التَّاريخ، في تكوين صورِ وجود المدينة وتشكيل عوامل تفاعلها مع العيش وفهم عديد من قيم ناسها وتطوُّر هذه القيم بين السلب والإيجاب. نعم، مكتبة تاريخ بيروت وفيرة المحتويات، عمل كثيرون في إغناء فضاءات وجودها؛ وسعوا، كلٌّ وفاق قدراته واستناداً إلى رؤاه ومنطق عمله، إلى إضافة ما أمكنه من لبنات المعرفة إلى بناية هذه المدينة.

ليس الغرض من هذه السلسلة الموجزة، استعراض جميع ما قدَّمه المؤرخون، ودارسو التَّاريخ، من توصيفات وتحقيقات وشروحات وتحليلات واستنتاجات؛ بقدر ما هو سعي إلى استعراضِ، ولو موجز ومبستر، لبعض ملامح من مناهج هؤلاء، في التعامل مع بيروت.

(وإلى اللقاء مع الحلقة الثَّانية: بين الأهميَّة الأساس والتَّشتُّت)

8 أيلول/ سبتمبر 2021

_____

*رَئيسُ المَرْكَزِ الثَّقافِيِّ الإِسْلامِيِّ
رَئِيسُ نَدْوَة العَمَلِ الوَطَنِيّ

صديق جمعيّة تراثنا بيروت

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website