سأحدثكم عن بيروت (٤).. الكشتبنجيّة!

زياد سامي عيتاني*

“الكشتبنجي” كلمة كثر إستخدامها عند العامة في هذه الفترة العصيبة، كتوصيف تطلقه للدلالة على دناءة الساسة والتجار والمصارف وفئات مجتمعية أخرى، تعبيراً عن سخطها للمستوى المتدني الذي وصلت إليه البلاد والعباد.

فمن هو هذا “الكشتبنجي”؟ وما هي علاقته بسلسلة “سأحدثكم عن بيروت”؟

“الكشتبنجي” هو من يدير لعبة قمار مبتذلة في الشارع بواسطة “الكشتبان” (أداة يضعها الخياط على إصبعه للحماية من وخز الإبر)، وهي من ألعاب الإحتيال والنصب غير الشرعي(!)، التي تحتاج إلى المهارة والخفة، (عملاً بالمثل الشعبي المصري القائل: “الرزق يحبّ الخفّية”).

أما لماذا الحديث عنه ضمن سلسلة “سأحدثكم عن بيروت”، فلأن لعبة “الكشاتبين” كانت شائعة ورائجة بشكل شبه سري في بعض الأرصفة والأسواق الضيقة، في وسط بيروت التجاري، حيث كان “الكشتبنجية” يتخفون بين زحمة و”عجقة” الناس والباعة، مستفيدين من الإختلاف الإجتماعي والطبقي والثقافي وحتى الأخلاقي بين رواد “المدينة” التي كانت مقصداً لكل الناس ومن مختلف الأجناس.

وعادة ما كان “الكشتبنجية” يتنقلون بشكل سريع من مكان إلى آخر، هرباً من مطاردة رجال الأمن لهم، فتارة يتواجدون على رصيف “اللعازارية” وتارة قرب مقاهي “ساحة رياض الصلح” وتحت “ساعة العبد” وتارات عديدة في محيط “ساحة البرج” التي هي محطة لا بد منها للوافدين إلى “البلد” من خارج العاصمة، لا سيما الأرياف، بواسطة “البوسطات” و”السيرفيسات”، فيكونون صيداً سهلاً وضحايا للنصابين من “الكشتبنجية”، شأنهم شأن صغار السن من المراهقين الذين لا يعلمون خطورة وسط المدينة…

عند كل محطة كانوا يفرشون على الأرض قطعة من “الكارتون” و”عدة النصب”، مرددين لازمتهم وهم يمارسون إحتيالهم:

“ليرتك بعشرة، وعشرتك بمية”.. “هيدا بوش، وهيدا بوش، وهيدا مليان”.. “الثلاثة تربح”.. جرب حظك..

ويتحلق حولهم عدد من الناس، هم في الواقع شركاؤهم وأعوانهم، الذين يقامرون ويراهنون صورياً فيربحون، ضمن عملية الإحتيال المنظمة التي تهدف لإصطياد المغفلين. وحينما يقع مراهن ساذج في الفخ، يستخدم “الكشتبنجي” ثلاثة “كشاتبين” و”حصاة” يضعها على “الكارتونة”، ويقوم بتحريك “الحصاة” من تحت “كشتبان” إلى آخر بسرعة وخفة وبشكل عشوائي، ويطلب إلى المراهن أمامه مبلغاً محدداً من المال، ويطلب منه معرفة موضعها تحت أيّ من الثلاثة، ثمّ ما إنْ يشير المراهن إلى الموضع، حتى يكشف المحتال عنه، وحتى يرفع الغطاء عن سواه بخفّة وسرعة، فتظهر الحصاة تحته، ثمّ يدسّ المبلغ في جيبه!!!

وغالباً ما كان “الكشتبنجية” ينشرون كشافين لهم على مسافات تبعد عنهم بعض الشيء لمراقبة المكان عن بعد، فإذا ما لاحظوا إقتراب رجال الأمن أو الشرطة البلدية، عمدوا إلى إرسال إشارة متفق عليها، بالأغلب صافرة أو كلمة معينة، فيغادر وشركاؤه المكان مع “عدة الشغل” للنجاة قبل أن تدهمهم “الدورية” متلبسين بالنصب والإحتيال…

________

*باحث في التراث الشعبي. عضو جمعية تراثنا بيروت.

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website