من منا لا يتذكر الكانون النحاسي الحنون الجميل؟
وصفته بالحنون لأنه كان يجمع العائلة في ليالي الشتاء الباردة، وينشر الدفء في أرجاء الغرفة، ويصغي صامتاً لحكايات الأم والجدّة، ويرسل أريج أطيب العطر عندما كان أحدنا يلقي في جمراته المتوهجة قشرة ثمرة ليمون أو بعض بخور اللبان الأصلي المميز.
وفي بيروت، وكعادة البيارتة في معظم شؤونهم، كان الكانون أيضاً مدعاة للفخر والتباهي! فكلما كان الكانون وصحنه النحاسي أكبر كلما كانت صاحبته “وجيهة” أكثر، خاصة إذا كان عملاً فنياً غني بالنقوش الجميلة. وكثيراً ما كنا نسمع السيدات يتفاخرن قائلات: “وئي أنا جبتو من أحسن محلّ بسوق النحاسين بطرابلس”، فترد الأخرى: “قطيعة، أنا وصيت عليه توصاية من سوق الحميدية بالشام”، وتضحك الثالثة قائلة: “هلأ هيدا بتسميه كانون؟ إي أنجأ يكون منقل”!
هذا التباهي لم يكن يتوقف عند قيمة الكانون وحجمه، ولكن أيضاً كان للفحم نصيب. وكانت العادة أن يموّن الزوج كمية من الفحم على التتخيتة أو في مكان آخر، فقد سمعت في صغري جارتنا أم بشير تقول لأم شفيق: “يي عليكي، شو 50 كيلو… أنا أبو بشير جاب لي كيس فحم أكتر من 100 كيلو”.
ولا يكتمل جمال الكانون وفخامته إلا إذا كان معه ملقط نحاسي مميز، ومجمرة صغيرة تتناسب مع رونقه وخاصة إذا كان بجانبه الترابيزة المزخرفة وفناجين القهوة الجميلة.
أما “المنقل” فكان صديق الكستنا المشوية. وكما هو معروف فحبّة الكستنا يجب أن تشق قبل أن تطمر بالرماد الساخن أو توضع على الجمر. هذه العملية لم ترق لجوز خالتي خضر الحلواني رحمه الله، فوضع كمية كبيرة من الكستنا على جمرات المنقل دون أن يشقها في غرفة الجلوس بمنزله في باب ادريس، وفي اليوم التالي ذهبت أمي لكي تساعد أختها في تنظيف البيت وتغيير “قمصان” المقاعد التي احترقت نتيجة الانفجارات الكستنائية العشوائية التي سقطت ملتهبة في كل أنحاء الغرفة.
واليوم صار “الحنون” مجرد ديكور لا يجد من يغذيه بالجمر ولا من يواسيه، وتخلى معظم الناس عن حكاياتهم وذاكرتهم وتراثهم.
________
*مربية/ عضو جمعية تراثنا بيروت