سأحدثكم عن بيروت (21).. عندما هوجم الرئيس التونسي في سينما “كابيتول”!

زياد سامي عيتاني*

ساحة “عسور” في وسط بيروت التي صارت تعرف لاحقاً بإسم رمز الإستقلال الرئيس رياض الصلح، بعدما وُضع في وسطها تمثال له، كانت تعتبر الساحة الثانية من حيث المساحة والوظيفة، بعد ساحة “البرج”…

ويقع في تلك الساحة مبنى “الكابيتول” الشهير، ذات التصميم الفخم والبديع، تماماً كجارته بناية “العسيلي”.  و”الكابيتول” كان يحوي فندقاً من الدرجة العالية، وقد تحوّل فيما بعد في السبعينيّات إلى مكاتب تجاريّة، وعلى زاوية هذا المبنى تقع صالة سينما “كابيتول” التي كان روادها من العائلات رفيعة المستوى، خصوصاً أنها كانت تعرض الأفلام الأميركيّة المشوّقة، حيث يُذكر أنّ الفيلم الأميركي العائلي “لحن السعادة” (Sound Of Music) عُرض فيها لمدّة لا تقلّ عن سنتَين متواصلتَين!

إلا أنّ هذه الصالة تحوّلت فيما بعد وفي مطلع السبعينيّات إلى مكاتب لأحد المصارف…

**

وعلى الرغم من الشهرة الواسعة التي إكتسبتها صالة “الكابيتول”، إلا أن حدثاً إستثنائياً شهدته، جعلها تدخل التاريخ من بابه الواسع، وأحدث صدى في العواصم العربية.

ففي منتصف ستينيّات القرن الماضي، وفي عهد الرئيس الراحل شارل حلو، قام رئيس جمهوريّة تونس الحبيب بورقيبة بزيارة إلى لبنان.

وكان بورقيبة من عشاق لبنان، ولا يتردّد في إبداء إعجابه بالشعب اللبناني (المتعلم والمثقف إلى أبعد حدود)، كما قال في حديث صحافي سبق زيارته لبيروت.

 وأبدى للسلطات اللبنانية رغبته أن يتضمن برنامج الزيارة لقاء الشباب اللبناني، ولا سيّما طلبة الجامعات، فرتبت له الحكومة اللبنانية اللقاء في صالة سينما “كابيتول”، بدلاً من قاعة “الأونيسكو” التي تستخدمها الحكومة اللبنانية في مثل تلك المناسبات، لأنه كانت تدور فيها أعمال مؤتمر للتنمية.

وطلب “الرئيس التونسي أن يلقي محاضرة موضوعها: “مستقبل الأمّة العربيّة”. 

 في المحاضرة تطرّق الزعيم التونسي إلى القضيّة الفلسطينيّة

ورؤيته لحلّها. فطرح فكرة إقامة دولتَين، الأولى هي دولة إسرائيل بحدودها آنذاك، والثانية دولة فلسطين، وتضمّ” أريحا “و”رام الله” و”قطاع غزّة “، الذي كان في عهدة مصر، و الضفّة الغربيّة التي كانت في عهدة الأردن، وتكون عاصمتها “القدس”…

إلّا أنّ هذا الطرح لم يستسغه الشباب اللبناني، خصوصاً في فترة المد القومي، لأنّه يقوم على الإعتراف بدولة إسرائيل، فعَلت الأصوات في الصالة مستنكرة لهذه الطروحات، وتمّ إسماع الرئيس المحاضر عبارات نابية من قبل الشباب العروبي المناصر للقضية الفلسطينية، والمؤمن بإستعادة جميع الأراضي المحتلة…

فما كان من الرئيس التونسي إلا أن إنسحب سريعاً من الصالة، غاضباً ومستاءاً تحت غطاء وحماية قوى الأمن الدّاخلي، وطلب أن يتجه موكبه فوراً من ساحة “رياض الصلح” إلى مطار بيروت الدولي مباشرة، قاطعاً زيارته الرسمية، حيث إستقل طائرته من دون وداع رسمي، وإمارات الغضب، والإمتعاض، والأسف بادية على محياه!!!

 ومازاد الأزمة الدبلوماسية من جراء هذه الحادثة بين لبنان وتونس، أن المصورين الحصافيين الذين كانوا يغطون الحدث، إلتقطت عدساتهم صوراً لما حصل داخل قاعة “الكابيتول”، تصدّرت الصفحات الأولى من الصحف المحلية التي صدرت في صباح اليوم التالي…

وهذه الأزمة التي نشأت بين الدولتين، ألزمت الدولة اللبنانيّة تقديم إعتذار رسمي للجمهوريّة التونسيّة، حيث إتصل الرئيس شارل حلو هاتفياً  بالرئيس بورقيبة، مطيباً خاطره.

هذه الواقعة التاريخية غير المسبوقة في العلاقات بين دول، أكسبت سينما “كابيتول” شهرة سياسية، إضافة إلى شهرتها بوصفها من الصالات رقياً وفخامة وأناقة…

________

*إعلامي وباحث في التراث الشعبي

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website