من هو مفتي «عموم» بيروت؟

غلاف كتاب مسار الدعوة الإسلامية
عبد اللطيف فاخوري*

نشر الدكتور محمد خليل الباشا والدكتور رياض حسين غنام في السجل الأرسلاني وثيقة مؤرخة في الخامس والعشرين من شهر محرّم الحرام سنة 1211هـ/ 1796م وهي حكم صادر عن نائب (قاضي) بيروت السيد عبد الهادي (قرنفل) بثبوت نسب الأمير عباس ابن الأمير فخر الدين ابن الأمير حيدر أرسلان. ونشر مع الحكم شهادتين بصحة النسب الأولى من «السيد عبد اللطيف المفتي بمدينة بيروت حالا» (عبد اللطيف فتح الله).

والثانية كتبت بناء لطلب الأمير أمين ابن الأمير عباس جاء في ختامها «حرّر سنة ألف ومائتين وأربع وسبعين من هجرة جدّنا سيد المرسلين لتسع مضين من ربيع الأول وعلى الله سبحانه المعوّل راجي بحضور ربه سبحانه السيد محمد أبو علي ابن الحسين مفتي عموم بيروت عفا عنه مولاه». يذكر ان سنة 1274هـ/ تصادف 1857م. من الثابت ان عبد الهادي قرنفل كان نائب بيروت سنة 1796م وبقي على الأقل الى سنة 1219هـ/ 1804م كما تبيّن الوثيقة الخاصة بوقف زنتوت على قفة الخبز وقد كُتب عليها «حرّره نائب بيروت السيد عبد الهادي عفي عنه»، كما ان الشيخ عبد اللطيف فتح الله كان سنة 1796 مفتيا لبيروت بعد والده وكان في حينه أميناً للفتوى في دمشق فكتب على وقفية محمد ابن محمد البواب المؤرخة في السابع والعشرين من شهر محرّم سنة 1255هـ/ 1839م «الدعوى الصحيحة المرقومة باطنها بصحة الوقف ولزومه وعدم الرجوع به فيعمل بمضمونها وانه سبحانه وتعالى أعلم نسخه العبد الفقير إليه سبحانه وتعالى السيد عبد اللطيف فتح الله أمين الفتوى في دمشق الشام حالا غفر له». فمن هو مفتي عموم بيروت؟

تعيين المفتين وعزلهم ومحاسبتهم

في تاريخ القضاء في الدولة العثمانية ان قاضيين كانا يعاونان شيخ الإسلام، أحدهما للأراضي الواقعة في أوروبا ويسمّى قاضي عسكر الرومللي والثاني للأراضي الآسيوية والأفريقية ويسمّى قاضي عسكر الأناضول (أناضولي). وكان كل منهما يعيّن نوابه في المدن التابعة له. وكان شيخ الإسلام يخصص مفتيا لكل بلدة من البلاد التي يعيّن لها قاضيا. ومن الثابت انه قبل تنظيم القضاء والإفتاء كان المفتون والقضاة يعيّنون من أهالي البلدة من قبل المتسلمين والولاة وشيوخ الاقطاع ويعزلون ويحاسبون من قبل من عيّنهم. يؤكد لنا ذلك مشروع العريضة التي أعدّها مفتي بيروت الشيخ عبد اللطيف فتح الله برغبته بترك وظيفة الإفتاء والتي أراد توجيهها الى والي صيدا وطرابلس وبيروت المقيم في عكا عبد الله باشا، وذكر فيها بأنه سبق له أن استدعى ذلك من الوالي السابق سليمان باشا. ما يعني ان إعفاء المفتي من مهامه يعود للوالي الحاكم سواء هو من عيّن المفتي أم تعيّن من قبل الوالي السابق والذي استمر في مهمته رغم تبدّل الولاة، ونرجّح ان المفتي فتح الله عُيّن من قبل أحمد باشا الجزار التي سبق أن عيّن مفتي دمشق.

وتفيد ترجمة سيرة المفتي الشيخ أحمد الأغر انه كان متوليا قضاء بيروت سنة 1810م وان خلافا حصل بين درويش باشا ووالي عكا عبد الله باشا وانحياز الأغر الى هذا الأخير ما أدّى الى نفي المفتي الأغر الى اللاذقية. وبعد تثبيت عبد الله باشا في ولايته عاد المفتي الأغر الى بيروت وعيّنه عبد الله باشا سنة 1240هـ/ 1824-1825م مفتيا لبيروت الى جانب وظيفة القضاء.

ومن تابع تاريخ الإفتاء تبيّن له ان الشيخ أحمد عزل سنة 1258هـ/ 1842م من القضاء وبقي عضوا في مجلس الإدارة ومفتيا له. وذكرت «ثمرات الفنون» في عددها رقم 235 الصادر في حزيران 1879م يوم وفاة مفتي بيروت الشيخ محمد المفتي الطرابلسي الأشرفي كما ذكرت بأنه «تولّى نيابة قضاء بيروت تسع سنوات متوالية، ووجّه إليه إفتاء بيروت فبقي نحو ثلاثين سنة» فإذا انقصنا ثلاثين سنة من تاريخ وفاة المفتي المذكور أي من 1296هـ نعود الى سنة 1266هـ وإذا أنقصنا ثلاثين من سنة 1879م نعود الى سنة 1849م ما يعني ان مفتي بيروت سنة 1274هـ/ 1857م كان الشيخ محمد المفتي الطرابلسي الأشرفي فكيف يكون محمد أبو علي بن الحسين سنة 1857م مفتيا للعموم؟

الوقائع قبل سنة 1857 وبعدها

وإذا عدنا الى سنة 1857م أي تاريخ تدوين السيد محمد أبو علي ابن الحسين شهادته على النسب نجد ان بلاد الشام عامة وبيروت خاصة شهدت قبل تلك السنة وبعدها فتناً أمنية وطائفية بدأت سنة 1840 وامتدت الى سنة 1860 ونزح الكثير من الجبل الى بيروت، وظهرت تلك المدة مواقف مشهودة لبعض رجال البلدة ذكر منهم خليل الخوري في جريدة «حديقة الأخبار» الشيخين محمد الحوت وعبد الله خالد والتاجرين محمد البربير وعبد الله بيهم العيتاني. وقيام البيارتة بإنشاء مركز عُرف بدار الشفقة برئاسة المفتي الطرابلسي. ولم يذكر أي موقف أثناء تلك الحوادث لمفتي عموم بيروت. ولكي لا يقال بأن المفتي يبقى حاملا للقبه أثناء تولّيه الإفتاء وبعد عزله وانتهاء ولايته ويبقى مرجعا في الأمور الفقهية ويبقى من حق القضاة الرجوع إليه وسؤاله إلا ان ذلك مشروط بالإشارة الى انه «المفتي السابق» وهو ما لم يقله محمد أبو علي.

فمن هو مفتي عموم بيروت؟ وما المقصود «بعموم بيروت»؟

بيروت الجغرافية البلدة القديمة داخل السور وخارجه أم بيروت الديموغرافية التي تشمل السكان الأصليين فقط أم الواردين والنازحين إليها سنة 1860 بغض النظر عن جنسيتهم ومعتقدهم. علما انه لم يسبق ان قرأنا تعيين مفتٍ لعموم بلدة أو مدينة، ولم يسبق ان شمل فرمان تعيين المفتي تحديد نطاق عمله ليشمل عموم بلدة أو محلة من محلاتها. ومن الملاحظ في الوثيقة المنشورة ان صفة مفتي عموم بيروت جاءت مباشرة بعد شهادة «عبد اللطيف المفتي بمدينة بيروت»، فهل يمكن القول انه كان في بيروت مفتيان: واحد لعموم بيروت هو محمد أبو علي ابن حسين، وواحد لخصوصها هو عبد اللطيف فتح الله؟ في الشكل نتساءل عن ترجمة سيرة محمد أبو علي ابن حسين علما بان اسمه يرد لأول مرة في سلسلة المفتين في بيروت، كما ان صفته كمفتٍ للعموم ترد لأول مرة في تقاليد وآليات وفرمانات تعيين المفتين. ولم يتبيّن ما إذا كانت له فتاوى أو موقف في مناسبة معينة ولا يعرف ما هي مؤلفاته ومن هم شيوخه ولا من هم تلامذته.

يذكر ان الشيخ محيي الدين اليافي كان مفتيا لبيروت سنة 1273/1274هـ/ 1857م وكان مصطفى آغا بن عبد الغني القباني متولياً على وقفه الذري وقام المتولي سنة 1273هـ بدفعها على سبيل الاحكار الى إبراهيم شكري مترجم مجلس إيالة صيدا لقاء مائتي قرش سنوياً، وأذن المتولي للمحتكر أن يبني في الأرض ما شاء من البناء والأغراس وأن ما يبنيه يصبح ملكاً له ولذريته من عرضت الوثيقة المذكورة – كما درجت العادة – على مفتي بيروت الشيخ محمد محيي الدين اليافي الخلوتي فكتب بخطّه الجميل في حاشيتها أي كتب بقلم التصحيح «الحمد للّه تعالى. قد اطّلعت على هذه الحجّة فوجدت ذلك صحيحاً شرعياً معتبراً مرعياً الخ..».

في ألقاب المفتين في بيروت

درجت العادة قديما في بيروت على ذكر من يتولّى الإفتاء بلقب المفتي، كما يتبيّن من وثائق أوقاف زاوية القصار ووقفية إبراهيم العيتاني.

وبقي هذا التقليد ساريا في العصر الحديث، فلقد حمل كل من الشيوخ عبد اللطيف فتح الله وأحمد الأغر ومحمد الحلواني ومحيي الدين اليافي ومحمد المفتي الطرابلسي الأشرفي لقب «مفتي بيروت». وكما حمل الشيخ عبد الباسط الفاخوري لقب مفتي بيروت قبل إنشاء ولاية بيروت سنة 1887 أصبح بعدها يلقّب بـ«مفتي ولاية بيروت». ذكر ان المفوض السامي الفرنسي عرض على المفتي الشيخ مصطفى نجا لقب «المفتي الأكبر» إلا انه رفض ذلك. مع العلم بان كتاب الذكرى الذي أصدرته أسرة المفتي نجا بعد سنة على وفاته (كانون الثاني 1933) يصفه بانه «مفتي بيروت الأكبر». وقد حمل الشيخ محمد توفيق خالد هذا اللقب الأخير ثم سمّي المفتي بالقانون بـ«مفتي الجمهورية اللبنانية».

ويلفت النظر ان المفتي الشهيد الشيخ حسن خالد أصدر سنة 1980 كتاباً بعنوان «مسار الدعوة الإسلامية في لبنان خلال القرن الرابع عشر الهجري» سمّي مؤلفه بأنه «المفتي العام للجمهورية اللبنانية».

في الفتوى والإفتاء

الفتوى والفتيا لغة الجواب عما يشكّل من الأحكام. يقال استفتيت فأفتاني بكذا. ويقال أصله من الفتى وهو الشاب القوي، فكأن المفتي يقوّي السائل بجواب حادثته. ووفقاً لابن القيم في «اعلام الموقعين» لا تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق وحسن الطريقة وكان مرضي السيرة عدلاً في أقواله وأفعاله متشابه السر والعلانية، وحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه. والإفتاء ومثله القضاء رسالة وواجب ديني وأخلاقي قبل أن يكون وظيفة إدارية أو منصباً وقبل أن يغدو في زمن الانحطاط وسيلة للارتزاق وباباً للمنافسة والتزاحم بين الطامعين والطالبين لتولّي المنصب بصرف النظر عن علمهم بعد أن تناسوا القول السائر «طالب الولاية لا يولّى» وبعد أن أصبحت المناصب تُشرى وتُباع ويدفع فيها الذهب اللمّاع. وقد عبّر عنه قديما مفتي بيروت وقاضيها الشيخ أحمد الأغر في قوله:

وكم مدّع للعلم من فرط جهله

ولم يدرِ ما جهل ولم يدرِ ما علمُ

فليس له من علمه غير جهله

وليس له إلا العمامة والكمّ

________

مؤرخ/ عضو شرف جمعية تراثنا بيروت

ملف “بيروتيات” مقالة 3

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website