سهيل منيمنة*
مفهوم التراث ومكانته في تفسير التراث:
للتراث معاني مختلفة يتفرّع عنها تعريفات مرفقة به. ويمكن تعريفه على أنه «أي شيء يرغب شخص ما في الحفاظ عليه أو جمعه». ويمكن وصف هذا المعنى كشيء يريد المرء الاحتفاظ به أو الحفاظ عليه إلى حد كبير. ويحدّد أكثر الباحثين العالميين خمسة جوانب موضوعية للتراث هي:
1. مرادف لأي أثر للبقاء المادي للماضي.
2. فكرة الذكريات الفردية والجماعية من منظور الجوانب غير المادية للماضي عندما يُنظر إليها من الحاضر.
3. كل إنتاجية ثقافية وفنية متراكمة.
4. البيئة الطبيعية.
5. نشاط تجاري رئيسي، مثل صناعة التراث.
هذا التوسّع في مفهوم التراث يتضح إذا قام المرء بتحليل الوثائق الدولية الرئيسية الموجودة التي أنتجتها منظمات عالمية مثل الإيكوموس واليونسكو لحماية التراث والحفاظ عليه حيث تتطرق إلى توسيع نطاق التراث من المعالم والمباني التاريخية إلى مجموعات من المباني والمراكز الحضرية والريفية التاريخية والحدائق التاريخية والتراث غير المادي بما في ذلك البيئات والعوامل الاجتماعية ونسيجها.
في الوقت الحاضر، هناك فئتان رئيسيتان من التراث تهيمنان على المستوى الدولي: المادي وغير المادي، ويمكن تصنيف كل منهما بدرجة أكبر. وهكذا، على سبيل المثال، يتم تصنيف التراث المادي في اتفاقية اليونسكو لعام 1972 بشأن حماية التراث الثقافي والطبيعي العالمي إلى ثقافي وطبيعي، ولكل فئة المزيد من التقسيمات الفرعية. في الوقت نفسه، لم يعد يُنظر إلى فئات التراث الثقافي والطبيعي على أنها منفصلة تماماً، وتم دمجها من خلال فئة «المناظر الطبيعية الثقافية» والتي بدورها تشتمل أيضاً على عنصر غير ملموس. ومن أجل دمج العناصر غير الملموسة، تم تعديل نطاق اتفاقية التراث العالمي لعام 1972 وتوسيعه من خلال المبادئ التوجيهية التشغيلية لتشمل نواحٍ مختلفة مثل المسارات الثقافية، والمناظر الطبيعية الثقافية، والمواقع الترابطية والمواقع التذكارية، وكلها تعترف بالمكونات غير المادية كجزء من أهمية الموقع.
هناك مراحل مميّزة يجب أن يمرّ بها عنصر ما حتى يطلق عليه التراث، مثل تكوين التراث والاعتراف به وتخصيصه وتفسيره وفقدانه. وهناك أسباب مختلفة تجعل العناصر تصبح تراثاً، ولكن ربما تكون أكثرها شيوعاً هي التقادم، والبقاء، وندرة القيمة، والإبداع الفني، والارتباط. ومع مرور الوقت والتقدّم التكنولوجي، تصبح بعض الأشياء قديمة ولم تعد مستخدمة، ولكن بالنسبة للبعض لا تزال تمثل قيمة خاصة كبابور الكاز وماكينة الخياطة القديمة ومطحنة البن وغيرها من الأشياء اليومية العالقة بذاكرة الطفولة خاصةً. ولا تزال هناك عناصر أخرى قيد الاستخدام ولكن عمرها المحض وندرتها تجعلها تراثاً (مثل الأماكن الدينية القديمة كمساجد: العمري الكبير والأمير عساف والأمير منذر، والكنائس القديمة التي لم تزل صامدة في وسط بيروت)؛ ويمكن إدراج المخطوطات القديمة أيضاً في هذا التصنيف. أيضاً، يعتبر الإبداع الفني البشري إحدى طرق الإنتاج المتعمّد للتراث مثل جمع الأعمال الفنية والموسيقى والأدب والحفاظ عليها. وتصبح أشياءً الأخرى تراثاً بسبب ارتباطها بالناس أو الأحداث كمبنى بركات في محلة السوديكو وبيت الاستقلال في القنطاري ومتحف سرسق في الرميل ومدرسة المعلم بطرس البستاني في زقاق البلاط، والأمثلة كثيرة.
فإذاً نحن نحافظ على التراث لأسباب عديدة أهمها:
– هي أحدى أهم الوسائل للحفاظ على هويتنا.
– هي واقع ثقافي يمهّد الطريق لجميع الأشخاص من مختلف مجموعات المهارات والتخصصات الأكاديمية ليكونوا واجهة موحّدة لقضية نبيلة للغاية.
– لا يخفى على أحد أن التراث المادي يجذب السياحة، والتي بدورها توفّر تمويلاً خارجياً للاقتصاد المحلي، مما يحتمل أن يحفّز النمو الاقتصادي والازدهار. وكل تعدٍّ على التراث المادي سواءً كان نتيجة الجهل أو الإهمال أو لغايات سياسية مريبة هو خسارة للاقتصاد الوطني.
– المباني والمواقع التراثية هي بقايا أسلافنا، وهي إنعكاس لماضينا ومصدر أساسي للمعلومات لتتبع تطوّر مجتمعنا كحضارة. صمدت العديد من المواقع التراثية أمام اختبار الزمن. ولكن، مثل صحة الإنسان التي تتطلب احتياطات وفحوصات من وقت لآخر، تتطلب هذه المباني أيضاً صيانة وترميماً دؤوباً.
– الحفاظ التراثي هو شكل من أشكال التنمية السكنية، والحفاظ عليه يقلل من الاعتماد على المواد الجديدة ومواد البناء الملوثة والتصنيع كثيف الطاقة.
– لأن المعالم التراثية هي عنوان للجمال والفخر في المجتمع. ومن خلالها يتم تعزيز الهوية الثقافية القوية بين السكان من مختلف الأجيال وبالتالي المحافظة على النسيج الاجتماعي الذي يشكّل هذه الهوية.
– في الحفاظ على تراثنا الثقافي يمكننا التواصل مع الناس في جميع أنحاء العالم لمشاركة تراثهم الثقافي والتاريخي مما يعود بالمنفعة الثقافية والاقتصادية على بلدنا من خلال المؤسسات الكبيرة التي تُعنى بالتراث العالمي.
مسؤولية جيل الشباب
يجب أن يدرك جيل الشباب قيمة وضرورة الحفاظ على التراث الثقافي وأن يكون ذلك أمراً يفخر به. من المؤكد أن الجيل الحالي يتمسّك بقوة بمجتمعه الراهن، ولكن عليه مسؤولية نقل هذه الأمانة إلى الجيل التالي حتى تستمر في الازدهار لعدة أجيال أخرى؛ وهذه غايتنا الأساسية في جمعية تراثنا بيروت. وعلينا الانتباه أن الحفاظ على التنوّع الثقافي لا يساعد فقط أولئك الذين نحمي تقاليدهم، لكنه يحافظ أيضاً على أساليب التفكير التي يمكننا أن نتعلّم عنها ومنها. وهنا، لا بد لي أن أكرّر ما كتبته في مقالات سابقة لأهميته في نظرنا كجمعية تهتم بالتراث بجميع جوانبه: «.. التراث هو مادة هامة تستحق أن تكون في مناهج المواد التعليمية التي تدرّس في مدارس الناشئة في لبنان لترسيخ جذور المواطنة الحقة في نفوسهم وليكون لديهم عتاد يواجهون به من يتآمر على هويتهم ومحيطهم وتاريخهم».
————–
* مؤسس ورئيس جمعية تراثنا بيروت
(اللوحة المرفقة: البيت الزهر التراثي في محلة المنارة في بيروت بريشة الفنان التشكيلي اللبناني الأستاذ نبيل سعد، عضو جمعية تراثنا بيروت).
نشرت هذه المقالة على جريدة اللواء عدد 16/9/2023، وعلى موقع LebTalks الإخباري تاريخ 17/9/2023.