مقدمة:
إن الموروث الثقافي هو من أهم العوامل التي تحدد هوية مجتمع ما، وتميزه. ينتقل من جيل إلى جيل عبر ما يصله مما تتناقله الألسن ويحفظ في الذاكرة، أو من خلال ما تمت كتابته. وبيروت التي أنشأت قبل نحو أربعة آلاف سنة كانت القاسم المشترك الذي التقى عنده معظم الباحثين في تاريخ المنطقة منذ أقدم العصور ودوّنوه في بطون كتبهم ومصنفاتهم ورسائلهم. فكان هذا الحافز الأساسي لهذا البحث… وكان العنوان.
بيريتا: المدينة الساحرة
في السادس من شهر أيلول (سبتمبر) سنة 1832، وصل مركب الشاعر الفرنسي الكبير لامارتين إلى مرفأ بيروت. وبعد إقامته في أحد بيوت حي مار مارون وقف ذات يوم على تلة مار متر في منطقة الأشرفية حيث تنكشف المدينة داخل سورها الشهير وخارجه من المرفأ شمالاً وصولاً إلى رأس بيروت غرباً. هناك أخذته الدهشة لما رأى، فقال: ” لم يعطِ الله الإنسان أن يحلم بكل الجمال الذي صنعه. لقد كنت أحلم برؤية جنة عدن، ويمكنني القول أنني شاهدتها…”. (1)
وكان الخطيب اليوناني الشهير ليبانوس الأنطاكي Libanos of Antioch المعاصر للوقت الذي ولد فيه يسوع المسيح قد زار بيروت وكتب في مذكراته اجمل وأروع ما يمكن أن توصف به مدينة. قال: “بيوت مدينة فينيقيا الفائقة الجمال والفائقة الأناقة، والكلية الكمال.” وقال في موضع آخر: “… وكانت المنطقة الأكثر تحضراً بين الكل، تحت حكم القوانين، والحكام المعينين، وإمبراطور جعل حياته كلها حاملاً السلاح لينهي به كل العنف [يقصد الامبراطور قسطنطين الثاني Constantius II الذي تولى الحكم من سنة 337 إلى سنة 361]. (2)
بين دي ترويا وننّوس
إن مدينة بهذه العراقة وبموقعها الجغرافي الجميل المنفتح براً وبحراً على العالم، قابعة كانت داخل سور ضيق في مرحلة تاريخية، أوحاضرة من حواضر المتوسط في مرحلة أخرى كانت أشبه ببوتقة تنصهر وتذوب فيها عادات وتقاليد اجتماعية شكلّت تراثها الاجتماعي المتنوع على مر العصور. وقد عبّر عن ذلك أنطون دي ترويا المبعوث الفاتيكاني إلى بيروت سنة 1442 في وصف الحالة الاجتماعية السكانية في المدينة أواسط القرن الخامس عشر قال فيها: “… وفي أسواقها الضيقة، وطرقها الملتوية، تزدحم الأقدام. فمن أصحاب العمائم، أو الكفاف الحريرية، ومن لابسي البرانس البيضاء أو المضربيات، ومن هو مدجج بالأسلحة المطعمة بالذهب والفضة والنحاس بأشكال من النقوش البديعة… وكم من تاجر وأمير خطير يتعثر بحمال فقير… فيها التقت جميع اللغات، وتعارضت الألوان والأصوات: فمن الزنجي السوداني، إلى الشركسي الأبيض، ومن الرومي النزق إلى البدوي الشديد، ومن اليهودي الملتوي إلى الاسباني المتغطرس، وقد اختلط بهم تجار البندقية وجنوا وبيزا.” (3)
أما أقدم نص وصل إلينا من مذكرات الرحالة الأجانب القدماء يشير إلى جانب من حياة البيارتة الإجتماعية فهو ما كتبه شاعر ملاحم مصر العليا في العهد الملكي الروماني، الشاعر اليوناني ننوس Nonnus (أواخر القرن الرابع قبل الميلاد) في ملحمته الشهيرة ديونيسوس Dionysiaca في النشيد رقم 40 الأبيات 340 حين كتب:
“… في هذا المكان ينفخ راعي البقر شبابته على شاطىء البحر المرمل، فيجتمع النوتي كما يجتمع راعي الماعز، والصياد إذ يجر شبكته من بين المياه يخط الممرات ثلمه فيصل به إلى إلى ملقى المجاذيف التي تشق الأمواج. وفي وسط غابة قرب البحر، يجتمع الملاحون فيتحادثون مع الحطابين بينما يتراجع هدير المياه مع خوار البقر وحفيف أوراق الشجر. إنه مشهد الجبل والأشجار والملاحة والغابة…”. (4)
المدينة “الحاضرة” Metropolis
استمرت نهضة بيروت العمرانية والثقافية والاجتماعية تتعاظم خلال القرون الأربعة الأولى بعد الميلاد، وخاصة في عهود سبتيموس سفيروس (193-211) وزوجته جوليا دومنا وابنه كركلا (198-217). وفي القرن الرابع أصبحت بيروت مدينة رومانية مثالية فيما كان يسمى آنذاك بـ “الشرق اليوناني”، مع الاحتفاظ بالاسم القديم للمنطقة: فينيقيا.
فترة الركود
ولكن بعد زلزال بيروت المدمر سنة 551م ودخول الجيوش العربية إليها حوال سنة 633م، مرّ على بيروت مئات السنين لم يزرها خلالها سائح أجنبي يدون فيها ملاحظاته نظراً لطيبعة الظروف السياسية والعسكرية التي عاشتها المنطقة في تلك الحقبة التاريخية إلى أن كانت سنة 1035م، حين سافر رحالة فارسي اسمه ناصر خسرو القبادياني من بلدته “مرو” (هي مدينة “ماري” كما تسمى اليوم في أوزبكستان) قاصداً بلاد الشام والجزيرة العربية في رحلة استمرت سبع سنين، دون فيها مشاهداته في كتاب أسماه سفرنامة (الرحلة)، وزينه بلوحات رسمها بنفسه. (5)
عودة اتجاه البوصلة إلى بيروت
وفي سنة 1432م، قدم سائح فرنسي (مقرب من دوق بيرغندي) يدعى برتراندون دو لا بروكيه Bertrandon de la Broquière إلى بيروت في طريقه للقدس برحلة حج. وكانت رحلته هذه ذات قيمة كبيرة من الناحيتين التاريخية والجغرافية لما اشتملت عليه من وصف للمدن والموانىء التي مر بها. كما أنها ألقت الضوء على حياة البيروتيين من خلال أوضاعهم الاجتماعية وتقاليدهم الدينية في تلك الفترة من القرن الخامس عشر.
ومما كتبه عن تقاليد البيارتة الاجتماعية احتفالاتهم الدينية ومنها ذكرى المولد النبوي الشريف عند المسلمين فقال: “… رأيت المسلمين يحتفلون بعيدهم على طريقتهم التقليدية. بدأ الاحتفال مساءً عند الغروب فراحت جموع الناس تسير هنا وهناك فرحة بالعيد، تهزج بالأناشيد، بينما مدافع القلعة تطلق قذائفها. وصار الناس يطلقون عالياً إلى الفضاء صواريخ يفوق حجم الواحد منها حجم أكبر فانوس عرفته. وعرفت أنهم يستعملونها أيضاً لإشعال النار في أشرعة سفن أعادائهم وهي في عرض البحر. ويبدو لي أنها تصلح لحرق المعسكرات والقرى المؤلفة من بيوت خشبية، ولبث الذعر بين خيول الأعداء في الحرب، وذلك لسهولة صنعها ويسر تكاليفها.” (6)
أثر المعتقدات الدينية
ويبدو أن المعتقدات الدينية كان لها أثر كبير في تطويع الحالة الاجتماعية البيروتية السائدة منذ أقدم العصور (ولا تزال). فقد كتب ننوس الآنف الذكر في النشيد رقم 41 ما يلي: ” وهناك مدينة بيروت، وهي جزء السفينة الرئيسي الذي تقوم عليه الحياة البشرية، وميناء المحبة الذي يتداخل في البحر… الجزء الآخر من البحار التي تمتلها المدينة، حيث تُقدم صدرها لإله البحر بوسايدون.” ويجب الإشارة إلى أن الانتماء المذهبي للرحالة أنفسهم طبع أسلوب كل منهم في مشاهداته للبيئة الاجتماعية البيروتية وتراثها على الرغم من صدقهم وتوثيقهم لما دونوه، وهو ما نراه جلياً في رحلتي النابلسي إلى بيروت أواخر القرن الثامن عشر (7 و8)، وفي رحلة أغاتانغل كريمسكي في كتابه قصص بيروتية 1897. (9)
رفيقة المطابع الأولى
أما أقدم كتاب مطبوع عن حاضرة بيروت فهو “بيريت” Berytus لمؤلفه يوهانس ستراوخ رئيس جامعة سالانا الألمانية، طبع سنة 1662 وكان أكثره في الأمور القانونية ولكن تطرق فيه أيضاً إلى بعض جوانب الحياة الاجتماعية في بيروت خاصةً تقسيم الطبقات السكانية قديماً إلى فئات منها المميزين والمستعمَرين و”البلديون” (السكان الأصليون) وغيرها ، وما حصّل بعض تلك الفئات من امتيازات. هذا الكتاب أعاد طباعته مركز التراث اللبناني في الجامعة اللبنانية الأمريكية بأربعة لغات سنة 2019 بجهود الصديق الأستاذ هنري زغيب.
مثالان من مدونات القرن التاسع عشر
ولعل أفضل من كتب عن حياة البيارتة الإجتماعية في منتصف القرن التاسع عشرهو القنصل الفرنسي في بيروت هنري غيز Henri Guys سنة 1847م في الفصل السابع من كتابه Relation d’un séjour de plusieurs années à Beyrouth et dans le Liban حيث تطرق إلى طريقة تفكيرهم وانشغالهم في مجالسهم بالقضايا السياسية (ولا يزالون!) وعاداتهم في الأكل والشرب واللباس وما يرتديه الميسور والفقير. ثم خصص الفصل الثامن لأخلاق وعادات المسلمات في المنزل ومناسبات الخطبة والأعراس وزيارة المدافن وذهابهنّ إلى الحمامات في الأوقات المخصصة للنساء والتي استطرد فيها كثيراً. ثم ذكر عادات وتقاليد المسيحيين في كتابه الذي لا يخلو من الظرافة والمواقف الطريفة. (10)
أما الطبيب الأمريكي جاكوب فريز Jacob Freese الذي زار المشرق خلال شهري آذار ونيسان في سنة 1867، فقد دون وقائع رحلته في كتاب “العالم القديم” المطبوع عام 1869 وأسهب في وصف الحياة الاجتماعية البيروتية. وينصح “فريز” بعدم البحث في بيروت عن بازارات تشبه الموجودة في اسطنبول أو القاهرة أو دمشق ، لأن الزائر سيصاب طبعا بخيبة أمل كبيرة, والأفضل له أن “يتمتع بالمشاهد الخلابة المليئة بالحياة في الشوارع المزدحمة في هذه المدينة الصغيرة” التي سترى فيها الناس من مختلف الدرجات الاجتماعية والطوائف والمذاهب، كهنة ومشايخ وموارنة ودروز وأتراك وعرب وأرمن ويهود، ونساء موشحات بالأسود، وعبيد من الجنسين. مدينة فيها الأسود والبني والأبيض , ويتزيّون بألبستهم المتنوعة. قال أيضاً: “هنا ستجد متعة كبيرة وتسلية في مراقبة مهم ومواقف وحركات مجموعات تتبدل باستمرار وتختلط وتتقاطع مع بعضها البعض في كل اتجاه”. (11)
حديثاً
أما من تطرق إلى التراث الإجتماعي البيروتي من المعاصرين من مؤرخين وأدباء وباحثين فهم كثر، وقد رأيت أنه بالإمكان تقسيم بحوثهم هذه إلى ثلاثة أقسام: عامة، ومناطقية، وحسب الفترة الزمنية. أما العامة فخير مثال نجده في ما كتبه المؤرخ الأستاذ عبد اللطيف فاخوري (12)، والمناطقية في ما كتبه المؤرخ الدكتور عصام شبارو عن منطقة عين المريسة (13) والمختار كمال جرجي ربيز (14) والمربية حياة لبان النويري (15) عن رأس بيروت، والمحامي عمر زين (16) عن حي البسطة. وأما القسم الثالث المتعلق بالتراث الاجتماعي في فترة زمنية محددة فنجده في مؤلفات الدكتور حسان حلاق (17) في العهد العثماني، وخواطر الأستاذ محمد كريّم (18) في منتصف القرن العشرين على سبيل المثال.
الخلاصة:
خلال معظم العصور استطاعت هذه المدينة العظيمة بيروت أن تستقطب الرحالة إليها من جميع الأمصار، سواءً المؤرخين منهم أو السائحين أو الدبلوماسيين أو الحجاج إلى الديار المقدسة. ومن خلال ما سجّلوه في مذكراتهم عن الحالة الإجتماعية فيها استطعنا معرفة ما تعاقب عليها من تطورات. وكان القصد من المقالة إلقاء الضوء على أسماء هؤلاء والتعريف بهم وذكرعناوين مصنفاتهم أكثر من الخوض في وصف مشاهداتهم. وبالطبع، فإن هذا غيض من فيض ممن دوّن لتاريخ بيروت الاجتماعي من القدماء، وربما يكون لنا لقاء آخر للتعريف بباقي المدونين على صفحات هذه المجلة الغرّاء.
____
- الأب لامنس، دار المشرق؛ مجلد 30 سنة 1932، ص 485.
- الأب لامنس، دار المشرق؛ مجلد 31 سنة 1933، ص 487.
- ذكرها الأب لامنس في كتابه “رحلة الأخ غريفون إلى جبل لبنان”
- Nonnus, Dionysiaca. Loeb Classical Library, Cambridge, MA, Harvard University Press, 1940
- سفرنامه. تحقيق د. يحيى الخشاب؛ دار الكتاب الجديد – بيروت، ط3؛ 1983.
- Bertrandon de la Broquière: Le Voyage d’Outre-Mer; Forgotten Books publishers
- الحقيقة والمجاز في الرحلة إلى بلاد الشام ومصر والحجاز؛ الهيئة المصرية العامة للكتاب؛ 1986.
- التحفة النابلسية فى الرحلة الطرابلسية؛ المعهد الالماني للابحاث الشرقية، بيروت؛ 1971
- قصص بيروتية 1897؛ دراسة وترجمة عماد الدين رائف؛ رياض الريس للكتب والنشر، بيروت. ط1، 2017.
- Henri Guys: Relation d’un séjour de plusieurs années à Beyrouth et dans le Liban; Beirut, Lebonon; 1949
- Jacob R Freese: The Old World: Palestine Syria and Asia Minor Travel, Incident, Description and History; Forgotten Books, 2017
- عبد اللطيف فاخوري: البيارتة: حكايات أمثالهم ووقائع أيامهم؛ بيروت 2009.
- عصام شبارو: عين المريسة؛ دار مصباح الفكر، بيروت. ط1، 2000.
- كمال جرجي ربيز: رزق الله عهيديك الأيام يا راس بيروت؛ دار الأنوار، ط1، 2007.
- حياة لبان النويري: رأس بيروت كما عرفته؛ الشركة العالمية للكتاب، بيروت؛ ط1، 2004.
- عمر زين: من ذاكرة بيروت؛ شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت. ط1، 2011.
- حسان حلاق: بيروت المحروسة بيروت الإنسان والحضارة والتراث؛ مؤسسة الحريري، بيروت. ط1، 2002.
- محمد كريّم: في البال يا بيروت؛ الدار العربية للعلوم ناشرون؛ ط1، 2005.
________
*مؤسس/رئيس جمعية تراثنا بيروت