مدرسة المعلّم بطرس البستاني الوطنيّة في بيروت

انعام خالد*
 
أينما عثرت على الجمال، لا بدّ وأن تعثر على تاريخٍ مشرقٍ وراءه.
 
في شهر آب من العام الماضي 2019 قرّر وزير الثقافة السابق محمد داوود إدراجَ مبنى مدرسة بطرس البستاني على لائحة الجرد العام للأبنية الأثرية أو التراثيّة.

أثار هذا القرار فضولي للتعرّف على هذا المبنى، فهو يقع في منطقة زقاق البلاط على العقار 310 -313-713.
 
وجدتُ الموقع، ترجلتُ من سيارتي باحثة عن مدخل المدرسة، بوابة حديديّة مؤصدة بقفلٍ وجنزير، رجلٌ مسنٌّ يجلس على شبه شرفة، وضعتُ الكاميرا في حقيبة الظهر كي لا أقلقه، استأذنته بالدخول إلى المكان؟ فأذِن لي.
 
يا لغرابة ما شاهدت؛ أول ما خطر ببالي، ما نفع قرار الوزير مع هذا الكمّ الهائل من الإهمال واللامبالاة لرمزيّة هذا المكان؟ الرمزيّة الوطنيّة والتربويّة والحضاريّة.. فضلاً عن إهمال استملاكه وترميمه وتخليد اسم المعلم بطرس البستاني الذي كان ولا يزال علماً من أعلام اللغة العربيّة وآدابها، وواضع قاموس «محيط المحيط» وهو القاموس المرجعي العصري لطلاب اللغة العربية بمختلف مراحل دراستهم، وقد لا تخلو مكتبةٌ لقارئٍ أو كاتبٍ من نسخة منه.
 
مشهد لا يمكن أن يوصف – وكان لي وبالتالي لجمعيّة «تراثنا بيروت» التي أمثّل، سبق التصوير من داخل المدرسة، إن لم أقل الإنفراد بذلك حينها – هيكل بناء، وجدران جرداء تقسّمه إلى غرف وقاعات، تملأ أكثرها أكوامُ القمامة، فكيفما نظرت تجد أوساخاً ومخلفات وعلب حديديّة ومستوعبات بلاستيكية.
 
أدهشني وجودُ عائلة تسكن هذا المكان؛ أخبرني الرجل بأنهم توارثوا الإقامة فيه أبّاً عن جِد بموجب عقد إيجار قديم بعد أن آلت ملكيته إلى آل الفرا المهاجرين إلى الولايات المتحدة الأميركية.
 
نعم المبنى تشغله عائلة متعدّدة الأشخاص والفروع، لأن لا بديل لها رغم صعوبة حاله هندسيّاً، فضلاً لفقدانه لأدنى مقومات الأمان والراحة.. هو سقفٌ يغطيهم وأرض تحملهم وكفى.. وليست كلّ الأسقف، فبعضها منهار على ما تحته، والآخر يوشك أن ينهار مع حلول يوم ما.. أما أدراجه الداخليّة بين طبقاته الثلاث، فتحتاج لتدريب ومهارة لبناء ثقة بينك وبينها كي تجتازها.. فإمّا أن تكون من وزن الريشة وتمارس أعمال الخفّة والرشاقة في السيرك العالمي.. وإمّا أنك أدركت دنياك ووعيّك وأنت تنزل وتصعد هذه الأدراج المتهالكة.
 
أنشئ هذا المبنى في منطقة زقاق البلاط البيروتية عام 1863م، وأسّس فيه المعلم بطرس البستاني وهو المولود في الدبيّة – إقليم الخروب عام 1819 «المدرسة الوطنيّة» لتدريس اللغتين العربيّة والسريانيّة.. وكان شعارها الأساس والمتوارث حتى يومنا هذا «حبّ الوطن من الإيمان». استمرت رسالة العطاء فيها على الرغم من كلّ العقبات، والكيد والتآمر عليها وعلى مؤسّسها المُجدّد، على مدى ستة عشر عاماً.. فأغلقت في العام 1879.
 
 
‏‎علم من أعلام النهضة العربيّة
 
المعلم بطرس البستاني علم من أعلام النهضة العربية، ألّف أول موسوعة باللغة العربية في العصر الحديث، هي دائرة معارف البستاني. كما ألّف معجم «محيط المحيط»، أول قاموس عصري في اللغة العربية. اشترك في ترجمة العهد القديم إلى اللغة العربية، وكان أول من نادى بتعليم المرأة وفي هذا كتب يقول: «وترى المرأة عندما يقع الولد على صدرها أو يجلس إلى جانبها تشغل أذنيه وسائر حواسه بما لذّ لها ووافق مزاجها وعادتها.. وتفيض عليه بسخاءٍ ورغبةٍ، ما راق وعذب من مياه تعليمها وأدبها، أو سمّاً زعّافاً من مجاري جهلها وحماقتها.. وعلى ذلك يكون العالم في معرفته وآدابه وروحه وطباعه وأخلاقه نظير أمّه».
 
 
قرارٌ قد يُلغى بقرار
 
المدرسة الوطنيّة في بيروت، صرحٌ علميٌّ ووطنيٌّ نسبة لمؤسّسه المعلم بطرس البستاني، الذي يقول في الوطنيّة أقوالاُ قد لا يعي الكثيرون فحواها: «ما يزيد أبناء الوطن حباً لوطنهم الإشعار بأنّ البلاد بلادهم، وسعادتهم في عمارها وراحتها، وتعاستهم في خرابها وشقاوتها.. وأمّا الذين يبدّلون حبّ الوطن بالتعصّب المذهبيّ ويضحّون بخير بلادهم لأجل غاياتٍ شخصيّةٍ فهؤلاء لا يستحقّون أن ينسبوا إلى الوطن وهم أعداءٌ له.. وألحق بهم الذين لا يبذلون جهدهم في منع وقوع الأسباب التي من شأنها أن تضرّ بالوطن، أو تخفيفها بعد وقوعها».
 
المدرسة الوطنيّة في بيروت، هي كذلك معلمٌ تراثيٌّ يوشك أن يناهز بناؤه مئة وستين سنة، فكيف يترك مهملاً تفعل فيه عوامل الزمن فعلها، بانتظار أن ينهار ويزول، قرار وزير بإدراجه على لائحة الجرد العام للأبنية الأثريّة التراثيّة، ليس كافياً، فقد يلغيه قرارٌ مضاد أو مغاير من وزير يخلفه، الأمر بحاجة لقانون ملزِم يحمي تراثنا العمراني وإرثنا الحضاري.
________
 
*منسقة الأنشطة/ جمعية تراثنا بيروت.
error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website