“تراثنا بيروت” تتذكّر عمر الأنسي (1901-1969) بين ألوان حب.. وأسرار قلب

في سنة 1919 كتب الروائي البريطاني الشهير و. سومرست موم في «القمر وستة بنسات»:
 
«الجمال شيء رائع يتنزعه الفنان من واقع عالم فوضوي وذلك من خلال معاناة روحه. عندما تنتهي لوحته لا يقدّمها لكل الناس، ولكن لكي تتعرّف عليها أنت عليك إعادة تجربة الفنان ومغامرته. فما لوحته سوى لحن يهديه إليك، ولكن لكي تستطيع أن تجعل منه أغنية ترددها في قلبك يجب أن تتحلّى بالثقافة والإحساس المرهف والخيال». وقال عمر الأنسي نفسه: «الفن هو ترجمان القلوب الطبيعي الذي لا يحتاج إلى الحجّة والبرهان، وهو لغة الإنسان إلى الإنسان. والفنون الجميلة كلها واحدة، وكلها صادرة من بحيرة النفس المتموّجة الحية المرنة إذا ما استوعبت التأثرات الواردة عليها من الطبيعة أو من النفس، وحتى إذا ما اختمرت هذه التأثرات وكان للإرادة فيها شأن، أصدرتها بقالب مموّج مرن حيّ محسوس».

ولد عمر عبد الرحمن عمر الأنسي عام 1901 في تلّة الخياط ببيروت. عام 1918 بدأ دراسة الطب في الجامعة الأميركية غير أن نبوغه في الرسم جعله لا يتردد في العزوف عن الطب ليتفرّغ للفن. سافر عام 1922 إلى عمّان لتعليم الملك طلال (جد العاهل الأردني عبدالله الثاني) اللغة الإنكليزية، لتمتد إقامته هناك خمس سنوات، قضاها وهو يرسم عالم الصحراء بكل ما يتضمنه ذلك العالم من مشاهد ساحرة وهبته القدرة على تمييز الأشكال والألوان التي لا تُرى بيسر. أقام أول معرض فردي له وكان بعنوان «في القدس» عام 1927. لوحات ذلك المعرض هي حصيلة ما أنجزه في سنوات رحلته الأردنية. في العام التالي سافر الأنسي إلى باريس ليدرس الرسم في أكاديمية جوليان وهناك التقى بالنحات اللبناني يوسف الحويك رفيق صبا جبران خليل جبران وزميله في دراسة الفن بباريس. كان الأنسي محظوظا بلقائه الحويك الذي وهبه بعض المفاتيح الفنية لعاصمة النور، حيث كانت المدرسة الانطباعية هي سيدة العروض من غير منازع. وبمساعدة من الحويك أقام الأنسي معرضا لرسومه في باريس.
 
عام 1930 عاد الأنسي إلى بيته العائلي في تلّة الخياط وصار يقضي وقته في رسم المشاهد الطبيعية مقتفيا أثر رسّامي الانطباعية الفرنسية الذين تأثّر بهم. فكانت لوحاته التي صوّر من خلالها عين المريسة وشاطئ الأوزاعي وأحياء من بيروت بأزقتها الضيقة وبيوتها العتيقة تجسّد طريقته في التسامي بالنظر الواقعي تماهيا مع شفافية العاطفة، وبالأخص أنه غالبا ما كان يلجأ إلى الرسم بتقنية الأصباغ المائية، وهي تقنية لا تقبل الخطأ أو الإعادة.
 
تزوج عمر مرتين. الأولى حبيبته التي التحقت به إلى بيروت عام 1933 لتفارق الحياة بعد سنتين، والثانية وقد كانت فرنسية هي الأخرى التقاها في افتتاح معرضه الشخصي عام 1938. عبّرت يومها عن إعجابها بفنه واقتنت إحدى لوحاته، من غير أن تدفع ثمنها (25 ليرة لبنانية) فاتفقا على أن يكون التسديد بالتقسيط. بعد سنة من ذلك اللقاء تزوجا ليعيشا معا حتى وفاته عام 1969. كان معرضه الذي أقامه عام 1964 في غاليري «ون» الذي أنشأه الشاعر يوسف الخال وزوجته الرسامة هيلين هو تحية وداع ووصية استثنائية، من جهة ما انطوى عليه من خلاصات فنية.
 
عرف عمر الأنسي الانطباعية في باريس وخصوصاً في متحف «التويرلي» فبهره ما عرض فيه من الأعمال الفنية الرائعة، لا سيما لوحة (Jeu de paume) التي أثّرت في نفسه تأثيراً عميقاً، إلا أنه لم يستطع أن ينسى شمس لبنان المشرقة وصفاء سمائه وزرقة بحره. ولدى عودته من باريس، ذهب إلى الأردن ومكث فيها خمس سنوات يُعلّم الفن لأمراء وأميرات العائلة المالكة. فتألّق نجمه وذاع صيته، فكتبت عنه المجلات والصحف، وأصبح حديث الطبقة الراقية. لم يعلّم الأنسي الفن لأمراء العائلة المالكة فحسب، بل فتّح عيون مثقفيها على الفن، وهذا شيء جديد عليهم في الأردن. وكما علّم، تعلّم من الأردن وباديته بطبيعتها عادات أهلها وتقاليدهم العربية الأصيلة، فشاركهم الأفراح والأتراح. كما زار آثار الأردن القديمة وأخذ عنها بعض الصور، ودوّن المعلومات وذلك على أمل استعمالها في أعماله الفنية لاحقاً. أصرّ عمر الأنسي على استعمال الألوان المائية في لوحاته، فحلّق في هذا الميدان. (د. ليلى مليحة فياض: موسوعة أعلام الرسم العرب والأجانب؛ دار الكتب العلمية؛ بيروت).
 
ولا شك أن رسامنا كان ملهِماً لما كتبه الراحل أمين الريحاني بعنوان «فن وفتنة» سنة 1940: إن قوام الفن الخالد ثلاثة: أن يرى الفنان وجه المشهد وقلبه، وأن يدرك ما في أعماق نفسه من اتصال بما في قلب موضوعه، ثم يجمع، بالأسلوب الفني الذي يختاره، بين الواقع والروح. في مقدِّمة الفنانين الوطنيّين اليوم: اثنان سينزلان في المستقبل منزلةً رفيعةً في قلوب وبيوت أبناء هذا البلد، هما مصطفى فرُّوخ وعُمَر الأُنسي، رائدَا الفنّ العبقريّان، والرائدُ يُصدق أَهلَه كما يُصدِقُ فنَّه العبقريّ. فالمشاهد الفنيةُ الطبيعيةُ اللبنانيةُ الرائعة أو الوادعة، عزيزةٌ كريمةٌ في لوحاتهما، مثلما هي كريمةٌ وعزيزةٌ في غاياتها وبين زنابقِها وصخورِها، تُصْدقُهما الوحيَ فيؤدِّيان الرسالةَ صادِقَيْن. في لوحات الأنسي قريةٌ مقفيّة عند باب البادية، يقدِّمُها بأُسلوبه الموجَز البليغ في شطحاتٍ من ريشته تَـجْمع بين قلبَين: قلبِ الطبيعة وقلبِ الفنّان، فترقص الشمس أَمام بيوت القرية وتتوهَّج الجدران بوهْج الحُبُور. وفي لوحات الأُنسي غزلانٌ سائرةٌ في البادية، جميلةٌ وديعةٌ ناطقةٌ بإرْثها الصحراويّ، حتّى لتخشى، وأنتَ تدنو من اللوحة، أن تَثِبَ الغزلان منها وتفُرَّ هاربةً منك. أمامها أحسستُها تتحبَّبُ إليّ وتغازلني. وفي لوحة الأُنسي للحديقة أَمام بيته، فَنٌّ وفتنةٌ معاً، تتجلّى فيها المحاسنُ الثلاث: المتانةُ والتنميقُ والخيال وتمزج ريشتُه أَلوان البادية الغبراء بذَوَبَانِ أصفر ولُـجَين من معدن الهجيرةِ والفجر، وتشربها وَفْراً من النور».
 
يرتبط فنّ عُمَر الأُنسي بالطبيعة اللبنانية، مُتأثّراً بالانطباعية التي شهِدَ مَـجدَها لدى زياراته محترفاتِ باريس وروما. وهذه الانطباعيةُ هي التي دفعَت الأُنسي إلى جعْل المنظر الطبيعي موضوعَ لوحاته، متعمِّداً فيها بُلوغَ مواصفاتٍ لونيةٍ تلتقطُها العينُ في الطبيعة اللبنانية. لذلك تتَّصِفُ أَلوانُه بشفافيةٍ تتزاوج مع الانفعالات الشعورية والانطباعات البصرية، فتكتُبُ القماشةَ العابرةَ اللونَ في مراحلَ مُـختلفةٍ وفْق تأثُّر المنظر الطبيعيّ بالضوءِ المشْرقِ الذي يتبدّل عابراً من الصباح إلى المساء، ومختلفاً بِـحسَب دورة الفصول… بهذه وبِسواها، تتركَّز أَعمالُ عُمَر الأُنسي في صميم الفنّ اللبنانيِّ الهوية، فيرتَبطُ موضوعُ لوحتِه بواقعِها اللبنانيّ في مُـحاوَلةٍ تشكيليةٍ جادَّةٍ بِبِناء صياغةٍ لبنانيةٍ للريشة، ولغةٍ لبنانيةٍ للَّوحة، وأبجديةٍ لبنانيةٍ للفن نجح عمر أنسي في أن يهب المائية نبل اللوحة الزيتية، ولا تبرير سوى طبيعة الموهبة التي تميّز مائياته، تميّزها حتى عن زيتياته ورسومه. إن أنسي، وحده دون الآخرين من اللبنانيين، رفع المائية إلى حيث تقف زيتيات رفاقه… إنه ذهب إلى أعماق الشفافية حيث يكاد اللون يدمج كلياً في بياض الورقة. كما وصل إلى اللون الصريح الذي يحمل في معالمه كثافة الشجرة والتربة والحجر وبريق الضوء على مياه الينابيع واندماج الارتعاشات الضوئية في مجاري الأنهر. وجاءت مائيات الأنسي، ويقدّر عددها بالألفي مائية، من طينة شاعرة ربطت جمالياً وتقنياً بين المنظر والضوء والعاطفة الرومنطيقية التي هي في عمر أنسي. واستعمال كلمة «رومنطيقية» مقصود لأنها أكثر من غيرها تحدّد هوية مؤلف المائيات الغنائية. (نزيه خاطر: مقتطفات من «النهار» 23 أيار 1979، وملحق النهار 22 حزيران 1969).
 
أما صديقنا الباحث زياد سامي عيتاني،فقد تكرّم علينا بمقالة في الذكرى الحادية والخمسين لوفاة الأنسي جاء فيها: « تعلّقه بالطبيعة وشغفه بها، دفعه في أربعينات القرن الفائت يختار الإقامة في بلدة ميروبا المسيّجة بالصنوبر والمتشبعة من الينابيع والأنهار في تلك المرحلة النابضة بالفنون التشكيلية على مداراتها. قصد الفنان البيروتي عمر الأنسي ذلك المكان، بغية نهل ثقافة اللون من تراب ميروبا ومن شفافية نهرها المنساب حتى أعماق خصوصية المشهد الجاذب بين الصخور ولفيف الشجر. لم يترك لريشته فسحة إستراحة. حمل حقيبة الرسم والأدوات ليطبع ذاكرتنا بالسمفونيات المائية. كانت صخور الجوار والوادي ووجوه الفلاحين الغادين الى أعمالهم والنساء رافدات النبع مادة دسمة رسخت تجربته اللبنانية في ذاكرة العالم العربي والغربي على حد سواء».
 
وقد راق لي ما كتبه الفنان جاك أسود في الفقرة السابعة عشرة من مقالة «عمارة شبحيّة» لكاتالوج متحف نقولا إبراهيم سرسق 1977. قال: «كان عمر أنسي بستانياً ويعرف أن إمكانيات التجول في البستان، إمانيات التعرّض والاحتجاب، الدخول والخروج، العمل والاستراحة، إلخ… هي أهم معيار لتقويمه. لأنه إذا كان ما يحتويه هو المعيار فما الفرق عندئذٍ بينه وبين المشتل»؟ كذلك اللوحة بالنسبة إليه؛ قيمتها في مواصلاتها، في اكتمال دورة الحياة لا في كثرة صورها. قلت: نحن ننظر إلى لوحات الإنطباعيين، فتعجبنا ونرى فيها سحراً وجمالاً، ربما لأن الفنان العبقري المرهف ينظر إلى الطبيعة بطريقة تختلف عما يراه الآخرون… وإلا ما كان رسِم!
 
أخيراً، فإن هذه المقالة هي تكملة لما كتبته عن عبقري الريشة مصطفى فروخ سابقاً على صفحات هذه الجريدة الغرّاء. وسيبقى الإثنان، فروخ والأنسي، رائدا الفن التشكيلي الانطباعي الراقي في لبنان، وعلمان من أعلام مدينة الحب والثقافة والتضحية والتسامح والعطاء… بيروت.
عمر الأنسي
error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website