5- ثم يتابع «جاكوب فريز» الإضاءة على تجار بيروت بحسب طوائفهم، ويقول: «أما اليهودي فهو نفسه في جميع البلدان وتحت كل زي، وستعرفه على الفور من خلال شغفه الشديد بالحصول على الزبائن، وأيضا من تقلبه في الكلام وإيماءاته الغريبة، مما يجعله على النقيض تماما من المسلمين ورزانتهم وهدوئهم».
ثم ينتقل «فريز» للحديث عن صناعة الحرير في بيروت التي وصفها بأنها «جديرة بالملاحظة» رغم انها تعتمد على آلات يدوية غليظة وسيئة الصنع وتتزاحم أحيانا في غرفة واحدة أو أكثر ويتسائل: «كيف يمكن لهذا النسيج الجميل أن يخرج من هذه الأدوات الخرقاء», منوّها بأن السوريين الأصليين ينسجون الديباج الجميل واللماع بجودة تماثل، ذلك المصنوع في بروكسل وليون.
ويخبرنا «فريز» ان هذا الحرير كان مطلوبا في السابق من جميع فئات السكان، ولكن في الآونة الأخيرة اُستُبدل بشكل كبير بسلع رخيصة من أوروبا, باستثناء الديباج الغني المطرز بالذهب والفضة المصنوع في بيروت والمناطق المجاورة فما زال مرغوبا به بشكل كبير من السوريين الأثرياء, فيما الزنانير والأوشحة الحريرية البيروتية ما زالت تحظى بتقدير كبير، وتُصدّر إلى مناطق مختلفة من الشرق.
وطالما أن «فريز» يتجول في أسواق بيروت، ملاحظا ومسجلاً أهم النشاطات والأعمال فيها،فقد استوقفه عمل مقرضي الأموال والمهربين، الذين اعتبرهم شر لا بد منه في ضرورة التعامل معهم في ترتيب وتسوية الأمور مع المترجمين وسائقي البغال والخدم, وغيرهم.
اما المقرضين او المرابين، فهنا في بيروت، كما في أي مكان آخر في الشرق، يقتصر هذا النوع من الاعمال في الغالب على اليهود، معتبرا أن الشتائم والاهانات التي يتعرضون لها لا تُقارن بالفظاعة التي يمارسونها مع عملائهم.
وهؤلاء المرابين،يخبرنا «فريز» انهم يشكلون كتلة كبيرة في جميع أنحاء سوريا، وهم موجودون في يافا والقدس ودمشق وبيروت وبعض البلدات الصغيرة في فلسطين, زاعما أن الواح موسى أعطت اليهود حقاُ في إقراض الغرباء (غير اليهود) بفوائد كبيرة، وهذا سبب رئيس للازدراء الذي يتعرضون له.
لكن «فريز» يخبرنا بأن خطيئة الربا لا يحتكرها اليهود فقط, لأن بعض المسلمين انحرفوا عن مبادئ الإسلام وابتكروا ذرائع وحيل كبيرة جمعوا من خلالها بين التعصب لتعاليم القرآن وتجاهل وقح لتطبيقاته الأخلاقية, حيث يعمل المرابي المسلم على ابرام القرض بعقد امام القاضي ولمدة قصيرة والتحايل على المبلغ الإضافي «الربا» لإخراجه وكأنه مجرد «بخشيش» او اكرامية.
6- نواصل اليوم جولتنا في شوارع بيروت كما رأها «جاكوب فريز» خلال زيارته للمدينة في عام 1867، فيتحدث عن تنوّع الأزياء في شوارع بيروت والذي يرتبط برأيه بتعدد أتباع الطوائف الدينية فيها،فيقول انك ترى الأتراك التقليديين يرتدون القفاطين الطويلة مع عمامات منتفخة بيضاء أو خضراء التي تحق لمن كان من عليّة القوم أو منتسبا للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) او لمن حجّ بيت الله الحرام في مكة المكرمة, كما يمكنك أن ترى المسلم العادي يسير في طريقه بهدوء،يداعب بيد لحيته فيما اليد الأخرى تستند على خنجر أو على حقيبة ادوات الكتابة المعلّقة في حزامه.
ثم يلتفت «فريز» ليطلق سهامه نحو اليهود الذين تراهم في شوارع بيروت واصفا إياهم «بالجنس المشتّت»، فيقول:» انك ترى اليهودي مرتديا قفطاناً قذراُ وعمامة ذات لون داكن، يحدّق يمينًا ويسارًا باحثا عن أي فرصة لتحقيق مكسب ولو كان صغيرا, وينظر بشوق الى الأوروبيين الذين يتجولون هنا، عارضا عليهم جميع الخدمات الممكنة».
وعن الأجانب الذين لهم حضور كبير في بيروت، وخاصة انه زارها بعد فتنة الجبل بين المسيحيين والدروز، فيقول أن المندوبون من جميع دول أوروبا تقريبًا موجودون هنا بأعداد كبيرة، وجميعهم مخلصون لصفاتهم الوطنية, فالفرنسيون بثيابهم الملونة يمشون بتؤدة، والبحارة النمساويون يخلعون قبعاتهم احتراما لكل من يرتدي ملابس أوروبية،أما الإنكليزي فتراه بوجهه الخشبي يجوب الشوارع بشكل مباشر، محدقا في المنازل والسماء، دافعا كل شخص لا يبتعد من طريقه.
وفي بيروت لا ترى كثيرا من النساء يطفن في الشوارع، وجميع النساء المسلمات يخفين وجوههن بقماش من الحرير الأسود أو القطن يتدلى إلى الصدر, وإلى جانب ذلك يرمين أيضًا على رؤوسهن قطعة من الشاش الأبيض الفضفاض (موسلين) معلقة على ظهورهن كلما اقترب مرور أحد من الرجال.
أما الشابات فيزحن أغطية الوجه قليلا ويكشفن عن عيونهن السوداء اللامعة، الا انهن غالبا ما يتعرضن للتوبيخ من قبل الكبيرات في السن واللواتي يتمتعن بصرامة أكبر.
ثم ينتقل «فريز» الى النساء المارونيات, فيقول أنهن يضعن أغطية بيضاء فوق «طناطير» على رؤوسهن، ويسقطونه على وجوههن المستديرة «الجميلة» من حين الى آخر لإخفائها من نظرات الغرباء, أما النساء الكاثوليكيات العرب فهن لا يغطين رؤوسهن ووجوههن, ويزيد «فريز» في مدحهن والتغزل ببعضهن فيقول: «شخصياتهن رائعة وتتمتع وجوههن بجمال نادر».
7- لفت نظر «فريز» كثرة المقاهي في بيروت واعتبرها من المؤسسات المشهورة في بيروت،حيث يمكن للرجل أن يطلب فيها ما يحلو له من المشروبات إضافة الى القهوة التركية.
يتردد على المقاهي في النهار بشكل عام أناس كثر، ولكن في الليل، تزدحم المقاهي الكبيرة فقط وتكتظ بالرواد ولاسيما حين تُعزف الموسيقى فيها, حتى لتظن أن نصف سكان المدينة يسهرون هناك.
ومن المؤسسات التي أعجبت «فريز» أيضا، الحمام التركي, والذي يصفه من خلال تجربته الخاصة لقرائه الغربيين الذين لا يعرفون معناها، فيقول إن الحمام نفسه هو بناء شرقي، يتكون من غرفة دائرية كبيرة، تعلوها قبة متقنة الصنع، مع غرف جانبية لخلع الملابس، والبخار، والتلييف، وما إلى ذلك من أنشطة فيه.
ومما قاله «فريز» : بعد أن خلعت ملابسي في أحدى الغرف، عدت الى الغرفة الدائرية تحت القبة الكبيرة، حيث أخذني رجل مسلم ضخم وقوي البنية ووجّهني لانتعال قبقاب خشبي يساعدنا على السير فوق الأرضية الرخامية في غرفة البخار المجاورة. لقد حاولت فعل ما طُلب مني أن أفعله، ولكن سرعان ما اكتشفت بعد أن كدت أن أكسر عنقي تقريبا، أنه من الصعب مجاراة التركي في خبرته في استعمال القبقاب, مما أضطرني الى خلعه والسير حافيا.
في الغرفة الأولى وجدت هواء ساخنا، وفي الغرفة الثانية ازدادت السخونة، حيث أشار اليّ الرجل للجلوس على منصة رخامية في وسط الغرفة، وهنا, كان العرق يخرج من كل مسام في جسدي.
بعد ذلك، طلب مني الاستلقاء على الأرضية الرخامية، وبيده التي يلبس فيها قفاز خشن، بدأ الفرك من الرأس إلى القدم، لقد خُيّل لي أنه يقتلع كل الجلد الخارجي من جسمي.
بعد كل فرك قاس، كان الرجل يهز يده كما لو كان يتخلص من الجلد الذي علق بالقفاز. العملية قاسية إلى حد ما، لكنني قررت أن أتحمّلها مهما كان الثمن.
بعد ذلك، وضع الرجل قفازا مصنوعا من الشعر، ووضع وعاء من الصابون الساخن بالقرب منه، ثم بدأ في نشر الرغوة عليّ من الرأس إلى القدم. كان رأسي ووجهي وشعري مغطى تمامًا بالصابون، وبالكاد كنت أستطيع التنفس، فيما الرجل يتكوّم أمامي وويواصل التدليك، كما لو كان ينوي أن يخنقني تمامًا.
بعد ذلك، بدأ بصب الماء الساخن فوق رأسي على دفعات، ثم دعاني للنهوض عن مقعدي وأخذني مجددا الى المنصة المركزية، حيث توقعت أن اتعرض لصبات ماء باردة، ولكن تركني جالسا لمدة زمنية قليلة في الهواء الساخن، ثم قادني عبر الممر حيث عدنا من خلاله إلى الغرفة التي تركت فيها ملابسي. هنا قام بلف منشفة كبيرة حول جسمي، وأخرى أصغر منها حول رأسي على شكل عمامة وطلب مني الاستلقاء على الأريكة والراحة أو النوم ايهما أحببت.
كان ممكنا بسهولة أن أنام بهدوء وراحة، ولكن الليل كان يقترب، وبعد استراحة لبعض الوقت قمت ولبست ثيابي وعدت الى الفندق وأنا أشعر بأنني أفضل مئة مرة مما كنت عليه قبل المجيء الى الحمام.
وبعد أن انتهى «فريز» من حمّامه الذي شعر بنهايته بروعة وراحة لا مثيل لهما، قال «أنه يحق للاتراك أن يفخروا بابتكارهم للحمامات العامة والخاصة وببنائها بشكل أنيق في كل مدينة كبيرة في جميع أنحاء الشرق, لا سيما وأن الوضوء المتكرر قبل تأدية الصلاة هو جزء من العقيدة الدينية للمسلمين».
8- ثم ينقل «فريز» لنا صورة عن الاحتفال بعيد الصليب، كما رأه مبشّر أميركي زار بيروت واصفا إياه بأنه مشهد جميل يظهر مع حلول ظلام الليل في أحد ايام شهر سبتمبر حيث «أشعل بعض الجيران نارا في الحي، ومن سطح البيت شاهدنا النيران المشتعلة من مختلف الأحجام تتوهج في قرى جبل لبنان مثل النجوم التي تتلألأ في السماء البعيدة».
ثم يعود «فريز» للحديث عن بيروت التي أصبحت «أوروبية في الآونة الأخيرة أوروبية لدرجة أن بدو الصحراء نادرا ما يزورونها، واذا قابلت أحدهم في الشارع ؛ فأنه يجذب انتباهك بسبب لباسه الفريد والطريقة الرائعة التي يركب بها حصانه» ويتابع أن «خيول البدو أيضًا مثيرة للإعجاب، لأنها عادة ما تكون من أفضل أنواع الخيول العربية».
ويواصل الوصف فيقول: «يجب رؤية البدوي وحصانه معًا لأنهما يصنعان شخصية نبيلة وشاعرية حقًا، وخاصة عندما تراه أحيانا يجلس بكسل تحت خيمته يدخّن غليونه القصير في صمت حزين, وحصانه واقف ينظر بشراهة الى أوراق العشب التي تنبت بين الحجارة».
ولكن الكسل والهدوء ينقلب فجأة الى طاقة قوية عندما يندفع البدوي إلى سرجه, وترى عيناه تومضان, ويرتفع بشكله العضلي في فخر وقوة، صائحا بصوت غريب, ليندفع الحصان مصدرا صوت هواء كالصفير من سرعته، في حين أن ذيله المتطاير يجلد ظهر فارسه ليغيبا معا في لحظات قليلة في الأفق البعيد فلا ترى شيئا سوى سحابة من الغبار.
بعد ذلك يحييّ «فريز» القنصل الأميركي في بيروت، الذي ساهم اثناء شغله لهذا المنصب في تحصيل تعويضات مجزية للمسيحيين الذين تضرروا من فتنة 1860 من السلطنة العثمانية، كما انه يقدم خدمات جليلة لمواطني بلاده ويدعمهم في حل المشاكل والخلافات التي تنشأ مع المترجمين والحمالين وأصحاب الدواب الذين يتنقلون معهم في سوريا,معتبرا أن الشركات السياحية لم تعط هذا الشخص حقه، مشيدا بدوره العظيم في بلد يمكن للمسؤولين الأتراك فيه سحب أي مسافر أجنبي الى التحقيق ومحاكمته جراء شكوى من أي مسلم, «مما يجعل السفر في هذه البلاد سيئا ويضاعف المخاطر».
هذا الأجراء هو نتيجة «شروط المعاهدة بين حكومتنا وحكومة تركيا التي تنص على أن جميع الخلافات التي تتعلق بالأمريكيين يجب أن تخضع لقناصلنا للفصل فيها، وليس للسلطات المحلية في البلدة أو المدينة حيث حدثت الخلافات»، كما قال «فريز» الذي تمنى ان لا يتغير هذاالقرار الحكيم، وأن تتضمن جميع المعاهدات المستقبلية مع الحكومات الأخرى بندا مماثلا.
وبعد الإشارة الى دور البعثة التبشيرية الأميركية في بيروت من خلال التعليم، لمح الى صعوبة تحويل المسلمين الى مسيحيين قائلا أن ذلك « كمن يريد وقف شلالات نياجرا بقشّة».
يختم «فريز» زيارته الى بيروت في يوم مشرق وجميل بالصعود الى المركب البخاري في الميناء، مستعيدا أحداث حجه الى الأراضي المقدسة وما رافقها من صعوبات واضطرابات وأوجاع وأيام مرهقة وليال طويلة صعُب فيها النوم.
________
*باحث في تاريخ بيروت/ عضو جمعية تراثنا بيروت