1- الدكتور جاكوب فريز، أميركي من مواليد 1826. درس الطب واقتحم عالم الصحافة عندما اشترى الجريدة الرسمية في ترنتون – نيو جرسي واستمر في نشرها حتى عام 1866، ثم عُيّن برتبة مقدم في الجيش والتحق في عدة مهمات عسكرية واقتصادية في بلدان عدة.
زار المشرق خلال شهري اذار ونيسان من عام 1867، وجال في بلاده ومناطقه برفقة زوجته «ليلي» في رحلة طويلة بدأها في مصر وانهاها في تركيا، ووضع هذا الكتاب ايمانا منه بأن من يريد أن يكتب عن الأراضي المقدسة في فلسطين «يجب أن يعرفها، يراها ويشعر بها…, يجب أن يراها بنفسه بكل جمالها وتشوهاتها، ويجب أن يشعر في داخله بالارتباط المقدس التي يتجمع حول الجبال والوديان والبحيرات والأنهار والبلدات والمدن».
في كتابه مدح كبير وتقدير واضح للحملات الصليبية وما أسماه نضالات الصليبيين الذين «سكبوا دماء حياتهم على سهل إدرايلون (او مرج ابن عامر كما يسميه العرب)، حول أسوار القدس، لإنقاذ الصليب من ايادي الكفار، وفي أي مكان آخر يمكن أن يلتقوا فيه بالمسلمين وجهاً لوجه، ويدا ليد», وقد يكون كلامه نتج عن تأثره الكبير بالفتنة المؤسفة التي حصلت في جبل لبنان وسقط فيها عشرات الألوف من الضحايا أغلبهم من المسيحيين.
في الحقيقة، لا يهمني اراءه، ولا تفسيراته للاحداث التي لا يستطيع رؤيتها الا من خلال عيون أميركية وخلفيته الدينية المتشددة, ولكنني سأقتطع الفقرات التي كتب فيها عن مدينتنا الغالية بيروت اثناء مروره بها, وبقائه فيها لمدة زمنية بسيطة بسبب عدم توفر مراكب بخارية تستطيع الرسو في ميناء يافا, مما سمح له بالتعرف عن كثب على بيروت وكتابة كثير من التفاصيل الدقيقة والملفتة لأنشطة الحياة في بيروت التي غفل عنها كثيرون من الرحالة والمسافرين, والتي سوف نستعرضها معا في الصفحات التالية.
سعى «فريز» لجعل كتابه تعليميًا وممتعًا في آن واحد، فجمع المعلومات من مصادر متنوعة، كما أقتبس من كتّاب آخرين ولو من دون الإشارة اليهم أحيانا، وأغنى كتابه أيضا برسوم لم ينفِ أنه نقلها عن لوحات اشتراها من افراد آخرين خلال سفره, مُقرّاً بأنه لم يذكر شيئا من باب «الخبث», ولم يحذف أي حقيقة تُعتبر ذات أهمية أو فائدة مهما كانت قاسية أو فظة.
ويقول في مقدمة كتابه : «لقد كان من دواعي سروري، خلال شهري مارس وأبريل 1867، أن أقضي واحد وأربعين يومًا في السفر عبر فلسطين وسوريا، امضيتها على ظهور الخيول ونمت الليالي في الخيام، وخلال هذا الوقت لم أدّخر جهداً لأرى ما كان أن يجب أن يُرى، وتعلم ما يجب تعلمه». تاركا الحكم على مدى صوابية ما فعله، الى صفحات الكتاب.
2- يبدأ «جاكوب فريز» الحديث عن بيروت بشكل عرضي ليقول: « بيروت هي النقطة التي يُنهي فيها معظم المسافرين حجّهم عبر فلسطين ؛ ومع ذلك، ولأسباب عديدة، فهي النقطة التي يجب أن يبدأ حجّهم منها».
هذه العبارة لفتت انتباهي ودفعتني الى طرح سؤال عن سبب قناعته بأن تكون بيروت هي نقطة الانطلاق، لنفهم منه لاحقا أنه أراد أن يحجز في ذاكرتنا مكانا لائقاً للحديث عن هذه المدينة, التي سوف يطلعنا من خلال مشاهداته الشخصية أو معلوماته التي استقاها من مصادر كثيرة, عن سبب هذه التوصية وأهميتها للقاصدين الى الأراضي المقدسة في فلسطين.
يقول «فريز» انك اذا وصلت الى فلسطين عن طريق ميناء يافا لتذهب بعدها الى القدس، فإن «عقلك سيُصدم «, وستجد صعوبة كبيرة في التوفيق بين النصوص المقدسة التي تتحدث عن أرض فيها»مجاري المياه وينابيع تنبثق من الصخور» وأرض «زيتون ورمان وأشجار تين» و«يتدفق منها الحليب والعسل»، وبين ما رأه «فريز» الذي لم يكن الا «جبالا من الصخور ووديان قاحلة، وآبار جافة وجداول بلا ماء, وطرق غير مستوية وقديمة جدا», وليصل الى نتيجة مفاجئة وصادمة في نفس الوقت, فيقول: «وخيبة الأمل التي تطغى على النفس ستلتصق بها لأيام وأسابيع، إن لم يكن طوال بقية الجولة عبر فلسطين».
لهذا السبب، اقترح «فريز» أن تبدأ رحلة الحج لكل مسيحي من بيروت التي تصلها المراكب البخارية,والاتجاه منها جنوبا حيث الجبال والوديان والسهولة الملونة، وجداول المياه والأنهار, ويلفت الى ميزة وهي تتبع خطى السيد المسيح، فيقول:»أن الطريق من بيروت والذي يتجه جنوبًا هو الأفضل بكثير. أولاً تقوم بزيارة الناصرة، حيث أمضى المسيح سنوات شبابه فيها, ثم قانا حيث حدثت معجزته الأولى, ثم ناين ( قرية قيل انها كانت بالقرب من تل العجول اسفل جبل حرمون)، حيث أعاد الحياة لإبن الأرملة الوحيد، ثم بحيرة طبريا، حيث قضى أكثر من ثلاث سنوات من حياته وخدمته، ثم تصل الى القدس، حيث عاش، وعانى، ومات، وقام مرة أخرى. ومن القدس تزور بيت عنيا وأريحا ونهر الأردن وبيت لحم، وبعد العودة، تقضي المزيد من الوقت في المدينة المقدسة».
وفيما «فريز» يحدث نفسه عن طرق الحج ومواقعها المهمة،كانت السفينة التي يركبها تكبح جماح سرعتها وتواصل جريها البطيء نحو ساحل بيروت, فتكبر الأرض, ومعها تظهر البيوت البيضاء المنتشرة على طول السهل عند سفح الجبل، وكأنها ترحب بالواصلين بألوان أشجارها الخضراء، وهوائها المليء بعطر أزهار البرتقال والليمون، لتسقط بعد ذلك المرساة في خليج بيروت أمام نتوء صخري طويل يرتفع تدريجيًا من الماء، وفوق ذلك ترى المآذن والأبراج، ومن وراءها قمم الجبال الشامخة.
3- يقول «جاكوب فريز» ان اقامته في بيروت استغرقت حوالي أسبوع، بانتظار وصول سفينة بخارية تُبحر به الى إسطنبول,وخلال ذلك الوقت كان لديه فرصة ثمينة لرؤية بيروت والتعرف اليها عن كثب, معتبرا إياها أفضل مدينة في سوريا, فشوارعها جيدة بشكل عام، ومنازلها مريحة، وعدد كبير من بيوتها فاخر.
أما سكانها فهم كادحون مجدّون في العمل والسعي الى الرزق، ومقدامون تمامًا كما يمكن أن تتوقع في بلد مثل هذا، أما أسواقها فهي مليئة بالسلع الشرقية والأوروبية، والتجار فيها يتعاملون بصدق, وخاصة انك في منطقة لكل شيء فيها سعرين وخاصة عندما يتعلق الأمر بالمسافرين.
يذكر «فريز» ان عدد سكان بيروت يبلغ حوالي خمسين ألف نسمة، ولكنه يشكك ويعتقد أن هذا الرقم مُبالغ فيه.
يقول «فريز» : «بيروت هي مدينة قديمة. ولا تزال تؤكد بجمال مناظرها ومناخها الرائع وخصوبة ضواحيها, ارتباطها بمعنى السعادة, رغم قلة البقايا المعمارية التي تدل على العظمة التي حققتها تحت حكم الأباطرة الرومان ولا سيما جستنيان، الذي أطلق عليها لقب «أم الشرائع» ومنحها، إضافة الى روما والقسطنطينية، حقا حصريا في الحصول على أساتذة لشرح الفقه الروماني».
وينصح «فريز» بعدم البحث في بيروت عن بازارات تشبه الموجودة في اسطنبول أو القاهرة أو دمشق، لأن الزائر سيصاب طبعا بخيبة أمل كبيرة, والأفضل له أن «يتمتع بالمشاهد الخلابة المليئة بالحياة في الشوارع المزدحمة في هذه المدينة الصغيرة»، التي سترى فيها الناس من مختلف الدرجات الاجتماعية والطوائف والمذاهب, كهنة، ومشايخ، وموارنة ودروز وأتراك وعرب وأرمن ويهود، ونساء موشحات بالأسود، وعبيد من الجنسين. مدينة فيها الأسود والبني والأبيض، ويتزيّون بألبستهم المتنوعة.
«هنا ستجد متعة كبيرة وتسلية في مراقبة مهن ومواقف وحركات مجموعات تتبدل باستمرار وتختلط وتتقاطع مع بعضها البعض في كل اتجاه».
ثم ينتقل «فريز» للحديث عن تمسك الناس في الأسواق بالجلوس على الأرض «مقرفصين», حيث ترى «الحداد جالسا يطرق حديده, والنجار يحفر في خشبه أو يخطط الواحه،وحتى النساء تراهن جالسات وهنّ يغسلن الملابس.
أما التجار فيزاولون أعمالهم في متاجر صغيرة لا تزيد مساحتها عن خمسة أو ستة أقدام مربعة مما يسمح لهم بالوصول الى بضائعهم من دون الوقوف,وحتى الخياط الذي يجلس مقرفصاً, فهو لا يخرج من متجره حتى يأخذ قياساتك، وانما يمد ذراعيه محرّكا اياهما صعودا وهبوطا او يطير بهما يسارا ويمينا.
4- ونواصل مع «جاكوب فريز» ومشاهداته في أسواق بيروت حيث يتحدث عن التنوع الكبير في الطوائف والعقائد التي تجمّعت في بيروت والتي لا يمكن مُلاحظتُها في أي مكان آخر.
ويقول، ان أسواق بيروت، التي نادرا ما تكون جميع محلاتها مفتوحة ومن ناحية أخرى، سيكون من غير المألوف أن تجدها كلها مغلقة في أي يوم, فهنالك دائما يوم عطلة لجزء من السكان، فيما الأخرون يواصلون أعمالهم بشكل عادي.
هنا ثلاثة أيام من أيام الأسبوع مخصصة للطوائف الكبرى، فالجمعة للمسلمين،و السبت لليهود، والأحد للمسيحيين الذين لديهم أيضا أيام محجوزة للاحتفال بقديسيهم الكثر, وهي أيام تؤثرُ على كثير من الحرفيين الفقراء الذين يكسبون خبزهم بشكل يومي.
ويضيف هنا «فريز» جملته القاتلة التي تصف احدى كبرى المشاكل الحاضرة حتى يومنا هذا, فيقول : «في الواقع، الوقت سلعة لا تحظى بأي ثمن في الشرق».
ثم يعود للحديث بالتفصيل عن الاسواق، فيقول انه يمكنك تمييز أصحاب المتاجر من الأجناس المختلفة بسهولة، وذلك من خلال طريقة عملهم كما هو الحال مع ملابسهم.
يصف التركي ويقصد به المسلم, بأنه رزين وقليل الكلام، ونادرا ما ينطق بأكثر مما هو ضروري. يضع سلعته أمامك، ويسمي سعرها، ويتركك تقرر بنفسك اذا اردت الشراء أم لا, فالجدال معه عقيم، وطلب تخفيض السعر لن يمر, لأنه لن يخفض ولو بارة واحدة (الليرة التركية كانت تساوي مئة قرشا الذي كان يساوي أربعين بارة), وكل ما سيفعله هو إخذ البضاعة منك واعادتها الى مكانها.
أما المسيحي فيتحدث بشكل أكبر، وهو حريص على التوصية ببضائعه والحث على شرائها، ولا يشعر بالإهانة أبداُ من عرض سعر آخر ومعقول أقل مما طلبه أولاُ, فهو يعلم أن هناك أشخاصًا يستمتعون بالمساومة والرخص، ولن يشتروا أبدا ما لم يتمكنوا من الحصول على سعر مخفض؛ ولذلك يقوم بترتيباته وفقا لذلك.
وعن تفاصيل المساومة واساليبها، يخبرنا «فريز» ان العربيّ لديه مذاق حقيقي لفن وغموض التسوق، وهو الرجل الذي يعرف قيمة المال, ولا يشتري شيئا الا بمبلغ ضئيل وبعد مساومة طويلة قد يصل وقتها الى نصف ساعة.
وعلى المشتري اذا وجد الصنف الذي يريد أن يشتريه، ان يحضّر نفسه لجلسة مطوّلة، وقد يضطر الى الصعود الى «المصطبة» التي يجلس عليها البائع ليجلس الى جانبه, ويشعل غليونه لتبدأ المعركة الكلامية.
يقول «فريز» ان عرض نصف السعر المطلوب على البائع هو خطوة جيدة للغاية لتبدأ المساومة من جانبك, ورغم ان عرضا كهذا سيكون مرفوضا, الا انه سيجعل خصمك يدخل في دائرة النقاش، ومع استمرار الجدال ومع دخول أحاديث طارئة آخرى غير ذي صلة لترطيب الأجواء، يتم في النهاية التوافق بين الطرفين وتنتهي صفقة الشراء.
– يتبع –
________
*باحث في تاريخ بيروت/ عضو جمعية تراثنا بيروت