وكانت بيروت يا صغيرتي آمنة، وادعة، قبل أن يدركها الزلزال… كان ناسها مطمئنين، متحابين… يعملون ويتعلمون، يتعبون ويرتاحون، شأن كل الناس في بلادهم…
كانت حياتهم يا صغيرتي هانئة، مسالمة، فأطفالهم يمرحون، وأولادهم يدرسون، وفتيانهم يحصلّون، والرجال يبنون الأسرة والوطن…
وكانت بيروت خلية تضجّ بالحياة… العمال والتجار، التلامذة والمعلمون، الفلاحون والسائحون، الغادرون والرائحون، الواصلون الليل بالنهار والنهار بالليل… كلهم يتراكضون تغمرهم السعادة ويرفلون بالهناء… المدينة الأميرة كانت في عرس لا ينتهي… شوارعها جميلة، محلاتها مملوءة بالخيرات، بسطاتها غنية، صالاتها أنيقة، فنادقها راقية… وأسواقها الضيقة والواسعة والمتداخلة تضجّ بالحياة والناس والرزق الحلال… أما شوارعها فكانت متواصلة لا تعرف الحواجز، تترابط بطهارة المحبة وصفاء الجوار…
بيروت هذه يا صغيرتي كانت تسهر لياليها حتى الصباح… لا تعرف العتمة ولا منع التجول… كانت مزدحمة بالناس، غارقة في الأنوار، تتمايل طرباً وسمراً… يتداخل غسق ليلها مع إطلالة فجرها على نداء المؤذّن وترتيل الراهب وصياح الديك…
كانت حياتها وادعة مطمئنة، وزيارتها أجمل أحلام أبناء الريف ومدن الجوار… كل زاوية تختص بنكهة وتتميّز بطابع…
أسمعتهم يا صغيرتي يتحدثون بتعجب عن سوق الإفرنج وبركة العنتبلي وباب إدريس ومقاهي الحاج داود والغلاييني ودبيبو والهورس شو والبحرين؟… هل تردّد على مسمعك تغنّيهم برفاه سوق الطويلة وجمال سوق أياس وبحبوحة سوق الجوخ وزهور سوق الافرنج؟… آه يا صغيرتي لو قدّر لك أن تخوضي في بحر النسوة وهن يقفن صفوفاً أمام المحلات الأنيقة المكتظة بألف طيب وطيب أو بكل أنواع الثياب الخجلى أو المثيرة… والتي تتفجر أناقة ورفاهية ذوق… على جانبي باب إدريس تصطف محلات تظنين أنها اقتطعت من لندن أو باريس، فيها كل ما يشرح الصدر ويغري النظر ويفتح شهية الشراء… والسائحون لا يكادون يجدون مكاناً بين الناس الذين يتدافعون برفق باحثين عن موطىء قدم أو منتظرين أدوارهم للتبضّع… وبين هؤلاء تتداخل أصوات السيارات والترام والمارة فكأن برج بابل انتقل من جديد إلى بيروت.
كنا يا صغيرتي نحفظ أسماء الرفيقات دون أن نستطرد في البحث عن الدين والمذهب والبلدة… كانت الطفولة والصداقة والمحبة تتوحّد بيننا… ولم نكن نعرف معنى للعصبيات ولا للطوائف…
هكذا كانت الأميرة تلفّنا وتحتضننا… أميرة العواصم خلعت هذه الأيام ثوبها الأبيض واتشحت بالسواد… لقد مات أهلها… مات الهناء فيهم بعد أن سرقوا الفرح من قلبها… وصبّوا على أثوابها الزاهية حقدهم وأحرقوها، لقد اختلسوا النور من عينيها وأطفأوا البسمة على شفتيها وجرّحوا وجهها…
ما هكذا تعامل الأميرة المتعالية كبرياءً… يا جحافل الظلام التي لا تعرف الرحمة…
أمام أميرتي المستباحة… أمام كبريائها العظيم، أنحني وفي عيناي دموع تحرق محجريّ أملاً أن ينتهي هذا الليل الطويل، ونخرج من وراء قضبان سجن عصر الانحطاط المفروض علينا قسراً!
بقلم: سامية منيمنة شرارة
عضو جمعية تراث بيروت