المؤسّسات والمنشآت الحكوميّة العثمانيّة في بيروت: سرايات ومشافي وحدائق وثكنات لا تزال قائمة حتى اليوم

الدكتور حسان حلاق ـ مؤرخ وأستاذ جامعي

أقامت الدولة العثمانية خلال حكمها لبيروت وبلاد الشام العديد من المؤسسات العسكريّة والصحيّة والثقافيّة والإداريّة والاقتصاديّة وأنشأت العديد من الملامح العمرانيّة. نذكر من هذه المؤسسات على سبيل المثال: القشلة أو الثكنة العثمانيّة الهمايونيّة (السراي الكبير).

الثكنات العسكرية العثمانية (والتي ستصبح السراي الكبير )

وتعتبر القشلة الهمايونيّة من ملامح بيروت المحروسة وقد ضمّت العساكر القائمين على حماية المدينة، وكانت مركزاً لتجمّع العساكر والذخيرة والأسلحة. وعرفت منطقتها بإسم منطقة الثكنات أو التكنات. وقد بنيت غرب مدينة بيروت القديمة على ربوة مرتفعة فوق سوق المنجدين، فوق شارع المصارف حالياً، إزاء شارع طلعة الأميركان قريباً من بوابّة يعقوب. وقد وصف الشيخ عبد الباسط الأنسي في “تقويم الإقبال” موقع القشلة العثمانية بأنها غرب المدينة وفي أحسن مواقعها اللطيفة. وبنيت منتصف القرن التاسع عشر، وأنجز البناء عام 1856.

صورة جوية للسرايا الكبيرة ومحيطها عام 1958

وكان يقع إلى شمال الثكنة العثمانيّة، المستشفى العثماني المعروف بإسم “الخستة خانة”، أو كما يلفظها البيارتة “الأستخانة”. وهو المستشفى الذي اتخّذ في ما بعد مقّراً للقضاء اللبناني، العدلية القديمة المحاذية لكنيسة الكبوشية، واتخذت القشلة مركزاً لأول حكومة وطنيّة عام 1918، تأسست برئاسة رئيس بلدية بيروت عمر بك الداعوق. لقد عرفت هذه القشلة الهمايونيّة في ما بعد بإسم “السراي الكبير” تمييزاً لها عن “السراي الصغير”. وقد اتخذه المفوّض السامي الفرنسي مركزاً له في عهد الإنتداب الفرنسي. كما اتخذتها الحكومات اللبنانية المتعاقبة مركزاً لها في الحقبة الإنتدابيّة وفي حقبة الإستقلال بين أعوام 1943-1981، بحيث انتقل مركزها لسنين عدة  إلى منطقة الصنائع حيث سراي الحكومة أو القصر الحكومي. أمّا “السراي الكبير” فقد تعرّضت أجزاء كبيرة منه للهدم نتيجة الأحداث اللبنانيّة بين أعوام 1975-1990، كما استخدم في مرحلة الحرب وبعدها بقليل مقرّاً لوزارة الداخليّة وبعض الإدارات الحكوميّة. ومع تولي الرئيس الشهيد رفيق الحريري رئاسة الحكومة عام 1992، حرص على الإهتمام بترميم السراي الكبير على نفقته الخاصة، وقد أعيد افتتاحه رسمياً في عام 1998، بعد أن أضيفت إليه طبقة رابعة.

الساعة الحميدية

أقامت الحكومة العثمانيّة عام 1897 في باحة القشلة برج الساعة الحميدية أو ساعة السراي، على غرار ساعة الأميركان فوق بوّابة يعقوب، وساعة الكليّة السوريّة الإنجيليّة. غير أن ساعة السراي العثمانيّة كانت أكثر جمالاً ورونقاً. ولا تزال إلى اليوم شامخة على رغم ما أصابها من خدوش وإصابات نتيجة القصف.

وكان قد بوشر إنشاء هذا البرج عام 1897 على الطراز المعماري الإسلامي. وقد استخدم في بنائه مختلف أنواع الأحجار الجميلة ولا سيما منها الحجر الرملي البيروتي الشهير. أمّا الساعة التي وضعت في ذلك البرج، فكان يلزم لاستمرار عملها ودورانها أَن تعبّأ مرة في الأسبوع. وقد بلغ وزن ناقوسها 300 كيلوغرام، وكان لها وجهان على الحساب العربي وآخر على الحساب الإفرنجي الزوالي. ودفع ثمنها أربعة آلاف و718 فرنكاً فرنسياً من ميزانية بلدية بيروت المحروسة. وقد نقش على جدران برج الساعة النّص التالي: “أنشىء برج هذه الساعة من لدن من ازدان به مقام الخلافة الإسلامية وأريكة السلطنة السنيّة العثمانيّة، حضرة السلطان إبن السلطان السلطان الغازي عبد الحميد خان علاوة على مؤسّساته الملوكيّة النافعة، وذلك عام ألف وثلاثمئة وستة عشر هجرية”.

 الخستة خانة أو المستشفى العثماني

بدأت الحكومة العثمانية بالاهتمام بالأوضاع الصحيّة في بيروت ومختلف المناطق العثمانية أواسط القرن الثامن عشر، فأنشأت المستشفى العثماني في بيروت في المحلة المعروفة بالثكنات، في جوار القشلة الهمايونيّة قريباً من بوّابة يعقوب. كما أنشأت أواسط القرن التاسع عشر الخستة خانة الجديدة في بيروت مع القشلة الهمايونيّة في المنطقة ذاتها المعروفة بإسم السراي الكبير. ومن أطباء الخستة خانة الحكوميّة الدكتور إبراهيم أفندي صافي والدكتور خيري بك. وقد وصف هذا المستشفى حوالى عام 1890، عبد الرحمن بك سامي في كتابه “القول الحق في بيروت ودمشق”، واعتبره من أفضل المستشفيات نظافة ومستوى. كما أقامت الولاية فيما بعد المستشفى الحميدي في محلة الرمل عام 1907 وهي المنطقة التي تعرف باسم منطقة الصنائع.

السراي الصغير أو دار الحكومة

أطلق عليها إسم السراي الصغير تمييزاً له عن السراي الكبير. وكان موقعها إلى الجهة الشماليّة من ساحة البرج. قام ببنائها في أواخر عام 1884 والي سورية أحمد حمدي باشا، وأشرف على هندستها المهندس بشارة أفندي مهندس ولاية بيروت، وبهمّة رئيس بلدية بيروت آنذاك الحاج محيي الدين أفندي حماده.

السرايا الصغيرة (دار الحكومة)

وتألف السراي أو دار الحكومة من ثلاث طبقات تعلوها الأبراج العسكريّة التي كانت تطلّ على البحر من جهة الشمال، وعلى ساحة البرج من جهة الجنوب، كما تطلّ تلك الأبراج على الشرق والغرب على السواء. وكان عدد حجراتها ثمانون حجرة. بلغت تكاليف بنائها  14 ألف ليرة عثمانيّة. وقد جرى افتتاحها في ذكرى المولد النبوي الشريف، في حضور الوالي أحمد حمدي باشا، ومفتي بيروت الشيخ عبد الباسط أفندي الفاخوري، ونقيب السادة الأشراف الشيخ عبد الرحمن أفندي النّحاس. وقبل حفل الإفتتاح، جرت تلاوة المولد النبوي الشريف في الجامع العمري الكبير في حضور الوالي والمفتي ونقيب السادة الأشراف وكبار الموظفين وأمراء العساكر وتلامذة المدرسة السلطانيّة، وجمهور غفير من الأفندية والبكوات والوجهاء والأدباء وعامّة النّاس. كما دعي الكثير من الرسميين والمسؤوليين وفي مقدّمهم متصرّف جبل لبنان واصا باشا. وألقى مفتي بيروت في المناسبة كلمة دعا فيها للوالي وللدولة العثمانيّة. كذلك ألقى الوالي كلمة بالتركيّة قام بترجمتها نقيب السادة الأشراف الشيخ عبد الرحمن النّحاس. كما ألقى الشيخ سعيد أفندي الجندي معاون المدعي العمومي قصيدة من نظم الشيخ إبراهيم أفندي الأحدب. وكان هذا الإحتفال في دار الحكومة ومقرّ الوالي، حدثاً بيروتياً مهماً على الصعيد السياسي والإداري والمعماري. وقد وجدت قرب هذه الدار أو السراي ثكنة الفرسان التي كانت تُعرف بإسم ثكنة آلاي السراي في ساحة البرج. وكانت ولاية بيروت قد أقامت ثكنة عسكريّة في حرج بيروت خاصّة بتدريب العساكر العثمانيّين. وقد هدمت الحكومة اللبنانية السراي الصغير عام 1951 في عهد الرئيس بشارة الخوري.

الحديقة الحميدية

إضافة إلى ذلك، أُقيمت في ربيع عام 1884 أمام السراي الصغير “الحديقة الحميدية” وقبل افتتاحه، وهي من أشهر الحدائق في بيروت العثمانية وأهمها. وحضر حفل افتتاحها والي سوريا أحمد حمدي باشا ومتصرّف جبل لبنان واصا باشا ومتصرّف بيروت نصوحي بك وقناصل الدول الأجنبية، إلى حوالى أربعين ألفاً من أهالي بيروت.

الحديقة الحميدية

مركز البوسطة العثمانيّة

في عام 1869 صدر نظام البريد العثماني الحديث، وكان لبيروت المحروسة السبق في هذا المضمار، وكانت أول وسيلة انتظمت لنقل البريد بواسطة العربات والقوافل المنظمّة على طريق بيروت – دمشق – المزيريب. ومنذ عام 1900 أنشئ في بيروت وسواها نظام الحوالات البريديّة والحوالات البرقية والطرود العادية. كذلك صدر نظام البرق عام 1859. وفي عام 1867 قرّر مجلس ولاية سوريا إنشاء مركز لتلغراف دمشق – بيروت. كما تعرفت بيروت والمناطق الشاميّة على نظام الهاتف منذ عام 1908، وقد أثقيم مركز البوسطة العثمانية وملحقاتها في منطقة خان أنطون بك. وكان من الداخل والخارج في غاية التنظيم والترتيب، حيث تتوزّع من الداخل النوافذ البريديّة يؤمّن من خلالها الموظف المختص الخدمات البريدية اللازمة للمواطنين، إضافة إلى مركز بيروت انتشر العديد من المراكز البريدية في مختلف المناطق اللبنانية.

مركز البوسطة

مكتب الصنائع والتجارة الحميدي

وهو بمثابة كليّة عالية للتعليم الصناعي والمهني، ومن المؤسسات الحكوميّة العثمانية التربويّة. فمنذ عام 1904 صدر قرار من مجلس إدارة ولاية بيروت باستملاك خان الصاغة في سوق البازركان لإقامة مدرسة صناعيّة، غير أن المجلس ارتأى عام 1905 نقل المشروع إلى خارج بيروت القديمة. وجرى  اختيار منطقة الرمل في القنطاري مكاناً لإقامة مكتب الصنائع. وهي المنطقة التي عرفت في ما بعد – ولا تزال تُعرف – بإسم الصنائع. ففي أيلول عام 1905 احتفل بوضع حجر الأساس للمكتب الصناعي ولمستشفى خيري ولمسجد بقربه، وذلك في حضور والي بيروت وبعض العلماء ونقيب السادة الأشراف يوم ذاك الشيخ عبد الرحمن الحوت ورئيس بلدية بيروت، وانتهى بناء مكتب الصنائع وجرى افتتاحه في 2 أيلول 1907 في حضور الوالي والمفتي ونقيب السادة الأشراف والعلماء والوجهاء وقناصل الدول الأجنبيّة.

طلاب من المكتب التجاري مع الهيئة التعليمية

وقد جمعت أمواله من إعانات المسلمين ومساعداتهم، وبلغت نفقات إنشائه (27) ألف ليرة عثمانية، ومساحته مع حديقة الصنائع مئتي ألف ذراع. وقد ضمّ المكتب أو هذا المعهد الصناعي حوالى ستمائة تلميذ، واعتمد نظام المدارس الداخليّة، حيث كان يبيت فيه بعض الطلاّب، فيما يتناول الجميع الغداء والمأكل في ردهات واسعة تتسّع لستمائة تلميذ. وكان رئيس لجنة المكتب عمر بك خلوصي نائب مركز الولاية، ومن أعضائه الشيخ عبد القادر قباني مدير المعارف، والشيخ محمد أفندي الكستي رئيس كتاب المحكمة الشرعية، والشيخ رشيد أفندي فاخوري محرّر المقاولات ومحمد أفندي اللبابيدي مأمور الأجراء، وأمين حلمي أفندي محاسبجي الولاية، والحاج محمد أفندي طياره من معتبري بيروت. أُقيمت قرب مكتب الصنائع والتجارة الحميدي حديقة عامة هي حديقة الصنائع التي اعتبرت من أهمّ حدائق بيروت وأكبرها. وقد افتتحت في احتفال رسمي أيضاً حضرته الشخصيات الرسميّة التي افتتحت مكتب الصنائع. ولا بد من الإشارة إلى أن الدولة العثمانية كانت تمتلك رؤية بيئية مستقبلية، لهذا، حرصت على إنشاء الحدائق العامة، ومن بينها حديقة الصنائع. ولا تزال السلطات التي تولّت الحكم في لبنان منذ عام 1918 حتى اليوم، عاجزة عن إنشاء حدائق وساحات عامة على غرار ساحة البرج أو حديقة الصنائع. ومنذ إنشاء الجامعة اللبنانية وإنشاء كليّة الحقوق فيها، اتخذت هذه الكليّة مقرّاً لها في جزء من مكتب الصنائع والتجارة الحميدي، في حين اتخذت الحكومة اللبنانية منذ عام 1981 الجزء الآخر منه مقرّاً رسميّاً لها. ثم اتخذتها وزارة الداخلية مقراً دائماً لها. وبعد انتقال كلية الحقوق إلى المبنى الجامعي الحديث في مدينة الرئيس رفيق الحريري في الحدث، قررت وزارة الثقافة إقامة المكتبة الوطنية مكانها بدعم من دولة قطر. ومن المؤسسات الحكومية العثمانية التربويّة، مكتب الرشدية العسكري في طلعة برج أبي حيدر، وهي اليوم ثانوية حوض الولاية الرسميّة (ثانوية المفتي الشهيد حسن خالد)، والمدرسة السلطانية التي تحوّلت مكتباً إعدادياً في منطقة الباشورة، وهي اليوم كلية البنات التابعة لـ جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت. ومن المؤسسات المالية العثمانية المهمة، البنك العثماني الذي أقامته الحكومة العثمانية عام 1912 بمحاذاة مرفأ بيروت بين بناية فتّال وجامع المجيدية. ومن المؤسسات الاقتصادية سوق الهال أو الهول قرب السبيل الحميدي في ساحة السور (ساحة رياض الصلح في ما بعد)، وقد أقام هذه السوق الخاصة بالخضر والفاكهة والي بيروت عزمي بك عام 1916. ومن المؤسسات الرسميّة العثمانية مباني مرفأ بيروت وإداراته، ومبنى شركة مياه بيروت، ومباني إدارات رصف الطرق، ومباني شركة كهرباء بيروت، وإدارات شركة الترامواي، وإدارات السكة الحديد الحجازية، وشركة تنوير بيروت بالغاز، وسواها من المؤسسات الرسمية أو شبه الرسمية.

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website