بناية “اللعازارية” ومحيطها في وسط بيروت-شارع الأمير بشير، صارت عنواناً يومياً يتصدر الأخبار المؤلمة، التي تدمى لها القلوب وتدمع لها العيون، من جراء أعمال الشغب والتخريب وإشعالٍ لنيران الكراهية والضغينة والفتنة البغيضة المتعمدة والممنهجة، التي يتعرض لها قلب بيروت من قبل الحاقدين الغوغاء أصحاب القلوب والأيادي السوداء، الذين يندسون بين صفوف الغاضبين المنتفضين على واقعهم المعيشي والحياتي المأساوي، ليطعنوها بخناجرهم المسمومة كعقولهم، وكأنهم يحققون وينفذون عن قصد مبيت رغبة من هدد يوماً بتكسيرها!
بناية “اللعازاية، عدا كونها مؤسسة وقفية عريقة لراهبات اللعازارية، فهي كمركز ومجمع تجاربي، قبل الحرب العبثية-المدمرة، كانت ذات دلالة ورمزية لحقبة الإزدهار والإنتعاش الاقتصادي الذي شهدته بيروت، ونَعِم برخائه اللبنانيون، كل اللبنانيين بمختلف شرائحهم وأطيافهم الإجتماعية والطبقية، بحكم الدور المركزي للعاصمة كحاضنة للوطن ورافعة لنسيجه المجتمعي، لأنها كانت ملاذاً لكل باحث عن قيمته الإنسانية، من كل حدب وصوب، من المناطق المتاخمة (خندق الغميق) والمناطق البعيدة (الأرياف وأحزمة البؤس)، سعياً لرزق حلال ولقمة عيش هنية، فكانت “اللعازارية” مفعمة بالحياة، وتضج بحركة تشبه حركة المدينة التي لا تهدأ، حتى صارت مدينة قائمة بذاتها، تختصر بيروت ووسطها بكل أنماطها وسلوكياتها المتناقضة والمتجانسة في آنٍ. معاً…
معلماً معمارياً
في خمسينات القرن الماضي، كان ينتصب في وسط بيروت وقلبها النابض، مقابل مدخل درج “خان البيض” (درج الأربعين) مجمعاً تجارياً بحجارته الصفراء ومبانيه المنتظمة هندسياً، هو الأضخم في حينه، إنه مبنى “اللعازاية” وملحقاته، كان ينتصب كمعلم من معالم المدينة المتجددة هندسياً ومعمارياً بشكل تدريجي، مواكبة لحركة التطور العماراني، ليُستكمل المشهد “البانورامي” للمدينة التي لا تشيخ، إلى جانب المعالم المكملة: كاتيدرائة “مار جرجس” للموارنة، “الريفولي”، “التياتر الكبير”، “العسيلي”، ومقهى “الباريزانيا”، وسواها من المباني، التي شكلت الخارطة الجينية التطويرية للمدينة المتمددة والمتجددة، والتي مزجت ما بين الماضي التقلدي والحاضر الملبي لمقتضيات الحداثة. فعلى عقار مساحته 8363 متراً مربعاً، شيدت سبعة مبان مساحتها 34295 متراً مربعاً، بشكل مربع، بتصميم من المهندس الفرنسي لوكونت، شكلت مجمع “اللعازاية”، إحدى المباني السبعة، كان عمودياً مؤلف من 13 طبقة، الى طبقتين سفليتين تحت الارض كانتا تستعملان مواقف للسيارات.
وبدأ تنفيذ مشروع بناء المجمع التجاري الكبير، على أن تخصص عائداته وبدلات إيجاره لتمويل مشاريع الرهبانية “اللعازارية” وأعمالها الخيرية، حيث تولى “بنك سوريا ولبنان” تمويل المشروع، الذي إنتهت أعماله في العام 1955، مع الإشارة أنه عند تشييد المجمع، كثر كانوا يأتون خصيصاً إليه بدافع الحشرية، لمشاهدة المصعدين يعملان من دون توقف، في صعود وهبوط دائمين، وعلى بابيها موظفان خاصان لخدمة الزوار. كان الأمر غريباً فعلاً في تلك الحقبة، كأن المصعدين “مركبتان فضائيتان”.
نقطة إرتكاز تجاري
منذ تشييده، بات مجمع “اللعازارية” بمثابة نقطة إرتكاز تجاري، . في الداخل، كان المجمع الاصفر الضخم يغلي بالحركة، حيث كان مقراً لعشرات المكاتب والشركات على إختلاف وتعدد إختصاصها، وكان يضم أيضاً أكثر من خمس مكتبات كبيرة، منها: “مكتبة لبنان” و”مكتبة الفرح”، ومكاتب نقابة المحررين، وصحف “الكفاح” و”اليوم”، وقرطاسية “كامل”، ومحلات “معتوق”، و”غندور”، و”حداد، ومقهى “لاسورس”، و”إستديو مصر” (لاحقاً إستديو نقولا) لصاحبه نقولا الحجار، والصراف “قصابية” ومطابع “اليوم” و”الحياة “و”أوهانس”…
وكان إسم “اللعازارية” نقطة إستدلال، فسيارات الأجرة كانت تنطلق من جوانبه الأربعة لتذهب في كل إتجاه. منه ينطلق “السرفيس و”التاكسي”، وإليه يصلان. وفيه، تحت الأرض وفوقها، كانت تنتشر “الكاراجات” ومكاتب سيارات الأجرة، منها: كاراج “سعد” وكاراج “صيدا” وكاراج “السكاكيني” وكاراج “راشد حمزة” وغيرها…
وعلى أرصفته كان يتخذ الباعة المتجولين مركزاً لهم، لا سيما باعة الصحف واليانصيب والفستق السوداني والليموناضة والفيريسكو وشراب التوت والعرق سوس ولبن العيران، وحتى لعيبة “الكشاتبين” و”ال ٣ أورق” كانوا في غفلة عن “كبسة” الشرطة يحاولون إستغلال المارة “المغفلين” لقاء علبة سجائر “لوكي”…
لم تقتصر على مبانيه، بل إمتدت إلى محيطه بأكمله، حتى تحولت منطقة “اللعازارية” منطقة تجارية متكاملة، وكأنها مهرجان دائم، إذ كانت تضم مكاتب وشركات ومؤسسات ومكتبات وصحف ومسارح ومقاهي وباعة ومحال تجارية لبيع كل صنف ولون من حلويات وكتب وقرطاسية وأحذية وتصوير فوتوغرافي…
ففي عمق شارع الأمير بشير بين بناية “اللعازارية” وساحة رياض الصلح (عسور) يرتفع مبنى “التياترو الكبير” الذي بناه إبان الإنتداب الفرنسي بمبادرة فردية الثري جاك تابت، ليكون أسطورة مسارح بيروت، وصرحاً مسرحياً بمواصفات عالمية، تاريخه الزاهي يختزن أسماء شخصيات وفرق فنية لبنانية وعربية وعالمية، ممن مروا على خشبته المخملية الراقية ليدونوا أسماءهم بأحرف مذهبة. وفي شارع الأمير بشير أيضاً قرب “اللعازارية” كان ثمة معلم كبير هو مكتبة أنطوان العائدة لآل نوفل التي كانت زاخرة بما تيسر من المؤلفات والمجلات الفرنسية. وخلف بناية اللعازارية كانت تقع محلات تجار الطحين.
كذلك كانت تقع خلف بناية “اللعازارية” مكاتب صحيفتي “الطّيار” و “التلغراف” اللتان كان يصدرهما الشقيقان نسيب المتني الصحافي الذي أدى مقتله سنة 1958 المدخل الى نشوب الحرب الأهلية عام 1958، وشقيقه توفيق المتني. وفي المحلة نفسها كانت تصدر صحيفة “الكفاح” ومجلة “الأحد” اللتان كان يصدرهما نقيب الصحافة المغدور المرحوم رياض طه. وفي الشارع نفسه كانت تقع مكاتب صحيفة “اليوم” التي كان يصدرها الشقيقان عفيف الطيبي الذي انتخب لفترة طويلة نقيباً للصحافيين وشقيقه وفيق الطيبي الذي انتخب نقيباً للمحررين.
وفي منطقة الخندق الغميق في زقاق الغلغول كانت تصدر صحيفة “الحياة” لصاحبها المرحوم كامل مروة، وكذلك صحيفته الأخرى الدايلي ستار”. أما مقابل “اللعازارية” كان ثمة سوق للسكاكر يتخذ أصحاب محلاته من درج “خان البيض” إلى سوق “أبو النصر” نزولاً مركزاً لهم.
وفي هذه المنطقة وبالذات في سوق أبو النصر كان ثمة مصنعان صغيران لصناعة الحلويات وتجارتها عائدان لعائلتيّ غندور وجبر. وقد تخصصت هاتان العائلتان بصناعة الحلاوة إضافة إلى بعض السكاكر من الملبس والشوكولا، وبقيتا على تخصصهما في هذا المجال.
سوقاً لمقايضة الكتب المدرسية المستعملة
للكتاب و”اللعازارية” قصة أخرى، فعلى حجة المكتبات داخل المبنى وفي الشوارع المحيطة به، كشارع “المعرض” وشارع “سوريا”، حيث كان يتردد التلامذة والطلاب الجامعيون لشراء كتبهم قبيل بداية العام الدراسي مع حلول شهر تشرين من كل عام، نشأت سوق موازية (مؤقتة) للكتب المستعملة بأسعار زهيدة، في الباحة الداخلية وعلى الأرصفة الجانبية عرفت بسوق “اللعازارية”، حيث كان خلال موسع بيع وشراء وإستبدال الكتب المستعملة، يصعد الدخول والخروج إلى المجمع بسبب حجم الإزدحام غير المسبوق الذي يستمر ليلاً نهاراً.
وكانت الفرحة الكبرى لأصحاب المكتبات والبسطات عندما تتوافد عليهم الآلاف المؤلفة من الطلاب الذين يريدون بيع كتبهم التي انتهوا منها، ليشتروا بثمنها كتباً مستعملة للسنة الدراسية المقبلة. فكانت هذه السوق مكاناً رائجاً لهذه التجارة وسوقاً للمقايضة أيضاً، ذلك أن بعض الطلاب كان يعرض كتبه على سبيل المقايضة مع كتب أخرى.
والمفارقة أن أغلب من كان يمتهن تجارة الكتب هم من عائلات الزين ومغنية وعاصي، وغالبيتهم يقطنون وقتها منطقة الخندق الغميق.
خاتمة
بعد أن كانت “العازارية” ظاهرة مميزة في المدينة العتيقة، التي كانت تفتخر بتراثها وبمواكبتها لروح العصر والحداثة، وبالذكريات الحميمة في شوارعها، يوم كانت بيروت مجموعة نماذج انسانية ومعمارية، ها هي اليوم تتحول إلى ظاهرة غريبة عن تراثها وتاريخها، أمام إصرار وإمعان الظلاميين لتحويلها إلى شهيدة-شاهدة على ما تكترف أياديهم من تنكيل وعبث وخراب منظم لتشويه معالم المدينة الجمالية وحجب شمسها المشعة حضارة ضاربة جذورها في عمق أرضها!
________
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي/ عضو جمعية تراثنا بيروت