الدكتور إبراهيم حلواني، عضو جمعية تراث بيروت
سبب كتاباتي عن حسن علاء الدين أنّ أحدا حتى الآن لم ينصف هذا الفنان الكبير ويبيّن جوانب مقدرته الفنية الفريدة من خلال تحليل شخصيته وتبيان موهبته وإلقاء الضوء على حقيقة ابتكاراته في مجال الفكاهة والتمثيل. نعم، نجد في الإنترنت صفحات تتحدث عنه وتوثق تاريخه الشخصي، حيث بعض الأخطاء للأسف، وتعدد منجزاته وتتحدث أحيانا عن مزاياه الفنية. ونجد كثرين في الفيسبوك ينسخون وينسخون، … بدون إضافات. ولكن لا نجد عمقا في التحليل ولا جدية في الكشف عن العوامل التي جعلت من حسن علاء الدين النجم الكبير شوشو.
ولكي أتحدث عن شوشو لا بد لي أن أخوض، بين فقرة وأخرى، في الحديث عن محمد شامل، الأب الروحيّ لشوشو والحاضن الموجه له ونافذته إلى واقع العمل الفكاهي، رحمهما الله جميعا. في معرض حديثي سأضطر إلى الاستعانة بمراجع من الإنترنت حيث نبذات عن حياة حسن علاء الدين ومحطات تاريخية له ولأعماله، أرجو أن تكون كلها صحيحة.
الإسم: حسن خضر علاء الدين
المولد: بيروت 26 شباط 1939، الأصل من بلدة جون في إقليم الخروب. الوفاة: بيروت 2 تشرين الثاني 1975.
الأسم الفنّي: شوشو
• ظهرت موهبته طفلا. • سنة 1953 قدم أول مسرحية له “عنتر بالجندية” على مسرح الخلية السعودية في بيروت (كان عمره 14 سنة).
• في عقده الثاني، قبل العشرين، كان يقدم أعمالا فكاهية على مسرح فاروق وفي صالات مختلفة، وأحيانا في العراء.
• حوالي 1960 تعرّف إلى الكبير محمّد شامل الذي فتح له الطريق ليشارك في أعمال إذاعية بسيطة.
• حوالي 1962 كان أول ظهور تلفزيوني له في برنامج أطفال من إعداد محمد شامل.
• سنة 1965 تزوج من ابنة محمد شامل.
• أواخر 1965 أسس مع نزار ميقاتي “المسرح الوطني”.
• نجح مع محمّد شامل بشكل ملفت، ولكن نجاحه الأكبر تكرس في المسرح، ولمع نجمه بشكل خاص في الخمس الأخيرة من سنيّ حياته: 1970-1975.
متى تنجح في إضحاك الناس؟
ليس سهلا أن تُضحك الناس.
من السهل أن تكتب قصة لفيلم مأساوي، فما أكثر المآسي في العالم، ولكن ليس من السهل أن تخترع نكتة.
من السهل، أن تمثل دور أب مفجوع، أو شاب فقد عمله، ولكن ليس سهلا أن تأتي حركات تفجّر ضحكا.
لكي نفهم بحق قدرة حسن علاء الدين وعبقريته الفذة في الإضحاك لا بدّ أن نستعرض قليلا شروط الكوميديا الناجحة، وقد لخّصتها على طريقتي في هذا الجدول:
إذاً…
• هناك ما يتعلق بالتأليف من قصة وحوار وتفاصيل.
• هناك ما يتعلّق بالتمثيل الفكاهيّ والموهبة والقدرات التعبيرية.
• هناك أمور داعمة ضرورية مثل الإخراج والإنتاج.
شخصيا، أنا أرى أنّ طريقة التعبير هي من أهمّ مظاهر نجاح الكوميديّ. قد يكون التعبير بالحركة أو بالصوت أو بردة الفعل.
إذا استعرضت كلّ الفكاهيين في العالم تجد كلًّا منهم يتميّز بطريقة تعبير فكاهيّة خاصة به.
أين كان حسن علاء الدين من تلك الشروط، على الأقل الشروط التي تتعلّق بالممثل الفكاهي؟
الموهبة المبكرة
من الشائع أن تصادف في حيّك فتى دون الثانية عشرة لديه موهبة مبكرة في الرسم أو الخط أو العزف أو ما شابه، ولكن ليس شائعا أن تجد فتى في مثل ذاك العمر يحاول أن يقلّد أو يتقمص أدوارَ شخصياتٍ مسرحية معروفة.
تزودنا المراجع بمقتطفات عن طفولة حسن علاء الدين:
“كان موهوباً منذ صغره. كان يتفنن في تغيير شكله ويتقمص شخصيات مسرحية أو سينمائية معروفة. كما كان يجمع بعض أقرانه ليقوموا بـ “تمثيليات” ويسردوا قصصاً ويتباروا في ما بينهم”.
تلك البوادر التي قلّما يأتيها فتى في العاشرة أو الثانية عشرة شكلت أول دليل على موهبة حسن علاء الدين الفنية.
نعم كان حسن علاء الدين موهوبا منذ طفولته، وكانت موهبته ظاهرة وقوية إلى حدّ جعلته يؤلف في طلعته فرقة فكاهية صغيرة.
يجب أن نأخذ في الحسبان أنّ الفرص لم تكن كبيرة أمام ذاك الفتى، وقتَ تفتحه على الحياة، ليطلع على عروض فكاهية. ففي بداية الخمسينات بالكاد استطاع متابعة فقرات فكاهية، على الأغلب لشامل ومرعي في الإذاعة اللبنانية، إلى نزر يسير من أفلام مصرية لإسماعيل يس أو غيره، أو شرائط لشارلي شابلن ولوريل وهاردي كان يترقبها في السينما، ربما.
في فتوته، وحتى 1960 لم يكن ثمة بث تلفزيوني في لبنان.
بداية بناء “شوشو“
من كان يريد أن يدرس شخصية شوشو، فعليه أن يمحص في حياة حسن علاء الدين قبل بلوغه العشرين.
في الثانية عشرة من عمره كانت موهبته في التقليد والتمثيل الفكاهي وابتكار الشخصيات واضحة وتوّاقة إلى الظهور.
عام 1953 وعلى مسرح الخلية السعودية في بيروت، قدّم مع بعض الهواة أول مسرحية له: “عنتر بالجندية”.
ثمّ هاهو يتابع هوايته خِفية عن أهله في مسرح فاروق حيث كان يقدم وصلات فكاهية ويمثل شخصيات مبتكرة جديدة.
أن تجد فتى في الرابعة عشرة يقدّم مسرحيّة أمام جمهرة من الناس على مسرح، ثمّ يتابع ما يعشقه على غفلة من أهله، هنا وهناك وهنالك، مبتكرا شخصيات وحركاتٍ، فذلك يعني أنك أمام موهبة تصرّ على شق طريقها بأي ثمن.
حسب رؤيتي، فإنّ تلك الممارسات الشغوفة ومحاولات تحقيق الذات المبكرة سيكون لها تأثيرها البالغ في بناء شخصية شوشو القادمة، وفي رشاقة أدائه وغنى حركاته ومهاراته في الارتجال والابتكار في المستقبل.
النجاح الذي أصابه حسن علاء الدين لاحقا في أعماله التلفزيونية ثم المسرحية، يعود سببه إلى تلك الفترة التأسيسية من حياته قبل أن يصبح شوشو. فترة عاشها بكل جوارحه، شاحذا موهبته، واثقا بقدراته، مختبرا تجاوب الحضور، متمرنا، متثبتا، ومستمتعا بكل ما يقدمه.
ما يسمّيه البعض “لعب ولاد” قد أراه أنا مرحلة تأسيس.
اللقاء مع محمّد شامل
• أول لقاء بين محمّد شامل وحسن علاء الدين تمّ سنة 1960، أو قبلها بأشهر، أو بعدها بأشهر.
مقالات كثيرة في الإنترنت تذكر أنّ أول تعارفهما كان سنة 1965: ذلك خطأ انتشر بسبب عمليات نسخ متكررة عن خطأ أوّليّ. في الواقع أمضى حسن علاء الدين سنوات تحت رعاية شامل قبل أن يؤسس المسرح الوطني مع نزار ميقاتي سنة 1965.
• في البداية، لم ينبهر محمد شامل كثيرا بالشخصية الفكاهية الجديدة، ولكن حسن أصر على ملازمته حتى أقنعه.
• شكل محمد شامل عتبة الانطلاق في مسيرة حسن علاء الدين الفنية.
بدأ بإعطائه أدوارا بسيطة ثم دورا في “يا مدير” في الإذاعة.
وفي أوائل الستينات، أطلقه في برنامج دنيا الأطفال على شاشة تلفزيون لبنان. لم تمض أشهر على ظهوره التلفزيوني الأول حتى عشقه الصغار والكبار وراحوا ينتظرون إطلالته الأسبوعية، أو النصف أسبوعية، … وكنت وإخوتي من المنتظرين.
بعدها راح شامل يكتب له اسكتشات للإذاعة ثم عددا من البرامج التلفزيونية، منها يا مدير وشارع العز، كما أطلقه في السينما في فيلم “شوشو والمليون”.
• استمرّ في عمله مع محمّد شامل لثماني سنوات تقريبا، كما صرّح في لقاء تلفزيوني في الأردن.
• في النصف الأول من الستينات، تزوج حسن علاء الدين من السيدة فاطمة، كريمة محمد شامل، ورزق منها ثلاثة أولاد.
القصة والحوار ودور محمّد شامل
تأليف القصة والحوار شرطان أساسيّان لنجاح العمل الكوميدي.
في بداية مسيرته المهنية منذ عمله في الإذاعة والتلفزيون ترك حسن علاء الدين مهمة القصة والحوار على عاتق معدّ البرامج، الكبير محمّد شامل.
ولكني أسارع إلى القول إن حسنًا، في أعماله المسرحية بعد الـ 1965، كان يرتجل بعض العبارات معدلا في الحوار أحيانا، مضيفا “فقشاتٍ” من خواطره، ما كان يزيد من متعة الحضور.
القصة والحوار من المهمات الصعبة في فنّ الإضحاك.
ابتكار القصة صعب، ابتكار المواقف الطريفة صعب، كلّ لقطة يجب أن تكون مضحكة، كلّ عبارة يجب أن تنسجم مع الموقف، كلّ كلمة يجب أن تكون لها وظيفة. حتى اختيار أسماء الشخصيات فن دقيق بحد ذاته، وقد أتقنه شامل إلى أبعد الحدود.
كان من حظ حسن أن الأقدار أخذت به إلى حضانة شامل.
بل أقول إنّ حسنا كان محقّا في إصراره على ملاحقة شامل.
فمحمّد شامل يُعتبر من القلة الذين استطاعوا الابتكار في مجال الترفيه والكتابة فيه بغزارة، وقد وفّر برامج إذاعية وتلفزيونية شكلت فرصة ذهبية أمام حسن علاء الدين لكي يطل علينا بشخصية شوشو.
هل كان شوشو “مهضوما”؟
الموهبة شرط أساسيّ لنجاح العمل الكوميدي.
كلّ عملٍ فنّيّ يتطلب موهبة.
في الكوميديا تقوم الموهبة على الابتكار وقوة التعبير والتمثيل، وقد تكون مدعومة أحيانا بخفة الظلّ.
شخصيا، لا أرى خفة الظلّ (الهضامة) شرطا أساسيا للنجاح.
بعض كبار الكوميديين في العالم لم يكونوا خفيفي الظلّ.
أكثرهم لم يكونوا خفيفي الظلّ.
إسماعيل يس بالرغم من شهرته وإرثه الكبير لم يكن خفيف الظلّ (أرجو ألا يغضب علي أحد).
من خفيفي الظل يمر في خاطري الآن:
فريال كريم، إبراهيم مرعشلي، عادل كرم، فهمان – دريد لحام (في بداياته) – ماري منيب، يونس شلبي، عبد المنعم إبراهيم، جورج سيدهم، زينات صدقي، سمير غانم.
فماذا أقول إذن عن الباقين ممّن حلقوا في عالم الكوميديا؟
أولئك نجحوا لأسباب أخرى أهمها العمل والتحضير وموهبتهم في الابتكار والتمثيل وقوة التعبير.
دريد لحام وسمير غانم اثنان من القلائل الذين وهبهم الله خفة ظل استثمروها وكدحوا وطوروا أنفسهم في مجال الابتكار والتمثيل والتركيز على القوة التعبيرية.
أكثر الباقين من خفيفي الظل لم يعملوا على تطوير أدائهم.
هل كان شوشو مقلدا؟
يُذكر في المراجع أن حسن علاء الدين تأثر في فتوّته ببشارة واكيم وإسماعيل يس وشارلي شابلن. ذلك معقول وليس بغريب.
هل كان يقلّد أحدا منهم؟
في أدواره في الإذاعة والتلفزيون ثم في مسرحياته لا يبدو أنه كان يقلّد أحدًا من أولئك الكبار. غير أنّي أعتقد بقوة أنّه تأثر بطرائقهم وتعلّم منهم كيف يكوّن شخصية فكاهية ناجحة.
وللأمر وجه آخر … عادة عندما تتفجر موهبة لأول مرة في عمل فنّيّ فهي تأتي مقلدةً أعمالا سابقة. لذلك أفترضُ أنّ حسنًا، ربما، بدأ بتقليداتٍ صوتية لفكاهيين استمع إليهم في الإذاعة.
هنا تستوقفني شخصيّة “عبد العفوّ الإنكشاري” التي كان يلعبها عبد الرحمن مرعي في الخمسينات، في برنامج “شامل ومرعي” الإذاعي: رجل ساذج يتعامل مع الناس بشيء من البساطة والغباء.
ما زلت أذكره بلهجته البيروتية “ينجلق” بصوته ويمطّطُ فيه ويُرنّحه تبعًا للمواقف.
الحركات الصوتية عند شوشو، خاصة في بداياته، كانت قريبة جدا من مثيلاتها عند عبد العفوّ الإنكشاري.
لذلك أفترض أن حسنًا ربما قلّد إلى حدّ ما صوت ذلك العبد العفوّ.
المهمّ في الأمر أنّ حسن علاء الدين تابع بإصرار بناء شخصيته الفكاهية المستقلة حتى طلع علينا بـ “شوشو”: شخصية فريدة من نوعها، لا أعرف ولا أنتم تعرفون، شخصية تشبهها أو حتى قريبة منها.