أوبنهايم Max von Oppenheim

زكريا الغول، محامٍ وماجستير في التاريخ. عضو جمعية تراث بيروت

شكل الشرق بالنسبة للأوروبيين ، منذ القدم ، ذلك المكان الساحر الذي طالما رغبوا بإكتشافه ، وقبل نهاية القرن التاسع عشر ، كان الصراع الإستعماري مستعرا” بين الدول الكبرى ، للسيطرة على طرق التجارة الدولية والمستعمرات ، وهو الصراع الذي قاد لاحقا” الى وقوع الحرب العالمية الأولى .

وبرز الصراع الألماني – البريطاني ، خاصة بعد شق خط سكة حديد الحجاز ، كما شكل النفط مجالا” كبيرا” للصراع قبل الإعلان عن إكتشافه رسميا” ، ولعب الرحالة الأجانب و عالموا الأثار دورا” بارزا” في ذلك الصراع ، ولم يقتصر الأمر على الجواسيس البريطانيين مثل لورنس و غيرتروود بيل ، بل كان للألمان جواسيسهم أيضا” ، وهنا يبرز إسم ماكس فون أوبنهايم .

فمن هو هذا الألماني ؟

ولد في 15 تموز من العام 1860 في إقليم كولونيا، وهو ابن البارون ألبرت فون اوبنهايم أحد أعظم مستكشفي الآثار في الشرق الأوسط، وفي العام 1883 أصبح دكتورًا في الحقوق في جامعة غوتنغن، ثم سافر  بعدها إلى القاهرة وتعلّم اللغة العربية فيها من أجل أن يتم إعداده لأرقى المناصب الديبلوماسية الألمانية كما ابتعد عن الأوروبيين وحرص على الاختلاط بالعرب، وفي العام 1910 تم تعيينه في أحد أرفع مناصب السفارة الألمانية.

طلب منه مدير البنك الألماني دويتشه بنك ترأس بعثة استطلاعية يمولها المصرف لوضع خطة لمشروع خط قطار بغداد – برلين ، واستطاع فون أوبنهايم أن يحقق رغبة المصرفي الألماني في وضع دراسة حول طرق المد خط قطار بغداد – الموصل – حلب، بحيث سيشكل مشروع سكّة الحديد هذا تهديدًا كبيرًا لبريطانيا ولمصالحها التجارية ويعرّض مستعمراتها لخطر الاعتداء الألماني عليها.

أما عن سبب تكليف البنك الألماني له للقيام بتلك المهمة ، فالأمر ليس محض صدفة، إذ أن ماكس فون أوبنهايم أمضى سنوات طويلة في المنطقة العربية، كما وضع جدولًا دقيقا تضمن أسماء العشائر وفروعها بحسب ديارهم ومناطق ترحالهم في الصيف والشتاء حتى عدد خيامهم، وكتب تاريخ كل عشيرة وتاريخ مشايخها بحسب المناطق الجغرافية التي يتجولون فيها، وقسمها إلى عشائر سورية وفلسطين وبين النهرين والعراق والجزيرة العربية وكل ما يرتبط بهذه العشائر من علاقات اجتماعية واقتصادية وسياسية؛ مما مكنه من إقامة علاقات قوية مع عدد كبير من الأفراد والشيوخ والعلماء والأدباء والسياسيين والمستشرقين الذين عملوا معه .

كان معروفًا عنه أنه ابن مصرفي ألماني، وأنه أصبح في حياته دبلوسيًا وعالم آثار اكتشف (تل حلف) في سوريا، المنطقة الواقعة على الحدود مع تركيا، كما كان يوصف بالمستشرق، وقد وضع دراسات هامة كثيرًا عن المشرق، خلال الحرب العالمية الأولى، وبعد أن أدخل القيصر الألماني في حساباته إمكانية إضعاف الإمبراطورية البريطانية، أوعز إلى فون أوبنهايم القيام بمهمة تتمثل بتحريض العرب على الجهاد.

تم تعيينه مديرًا لأحد فروع المخابرات الألمانية: جهاز الاستعلامات الخاص بالشرق الأوسط، ولقد استطاع تشكيل تمرّدات وثورات في المستعمرات البريطانية واستكشف مدى عداء الفرس المسلمين أو الإيرانيين للأنجليز، كما دعم هذا الجهاز التنظيمات الهندية الثورية، مثل تنظيم غادار وجوغانتار، ودعم أيضًا الناشطين الهنديين المسلمين، مثل مولافي بركة الله، وحاول عن طريق الدعم العثماني في تطويق أمير أفغانستان عن طريق تسليح العصابات الافغانستانية للثورة على الأمير، لكن تم التخلّي عن هذا المشروع.

وبعد اشتعال نيران الحرب العالمية الأولى، طلبت برلين من القادة العثمانيين أن يدعو السلطان محمد الخامس من عاصمة الإمبراطورية العثمانية في إستانبول جميع المسلمين لحرب الجهاد ضد بريطانيا،  فكانت ألمانيا بحاجة ماسة لخدمات ماكس فون أوبنهايم، وتم منحه صفة الاستراتيجي الأعلى لمنطقة المشرق وكان يحصل على الأوامر مباشرة من القيصر، وبعد اندلاع الحرب بوقت قصير وضع فون أوبنهايم ورقة استراتيجية تحت عنوان: إشعال ثورات في المناطق الإسلامية التي يسيطر عليها أعداؤنا البريطانيون، بمعنى آخر: إشعال حرب الجهاد ضدهم. تضمنت الخطة الدعوة لانقلابات واغتيالات واضطرابات وأعمال شغب تواكبها حملات إعلامية والترويج لشائعات مغرضة وذلك في المناطق من قناة السويس إلى حقول النفط في باكو بأذربيدجان، لكن عموما الدعوة إلى الجهاد الذي انتهجه فون اوبنهايم كانت دعوة لم تحقق الهدف المراد منه ، لسبب وحيد وهو أن المسلمين لم يكن لديهم رغبة على الإطلاق بحرب جهاد إلى جانب الألمان الذين كانوا ينظرون إليهم ككفرة أيضًا، وليس هذا هو السبب فحسب، بل السبب الرئيس هو نجاح لورنس بريطانيا في مهمته وفشل أوبنهايم ألمانيا .

خلال تواجده في الشرق ، قام بزيارة لبيروت حيث وصفها قائلا:”

“بعد كيلومترين نحو الداخل خلف المدينة تمتد منطقة رملية معزولة متطاولة وضيقة. في هذه المنطقة كان أمير الدروز الواسع النفوذ فخر الدين المعني‏ قد أمر في القرن السابع عشر بزرع غابات الصنوبر لكي يحمي التربة الحمراء الخصبة من مزيد التصحر. لقد تطورت الأشجار الفريدة من نوعها مع تيجانها الرائعة ذات اللون الأخضر الغامق، بشكل ممتاز و ظلت في منأى عن التصحر الشامل تقريبا الذي حل بغابات سورية. على مسافة غير بعيدة على نهر بيروت تقع حديقة عامة تحتوي على عدد لا حصر له من مختلف أنواع الأزهار و نباتات الزينة و تحمل اسم مؤسسها الذي توفي مؤخرا في لندن كسفير لتركيا و الذي لم يزل يحظى بتكريم كبير و بأطيب الذكر في سورية و هو رستم باشا. هنا يلتقي المجتمع البيروتي الأنيق بعد الظهر لكي يستمع إلى أنغام الفرقة الموسيقية لجيش لبنان”.

من مؤلفاته :- البدو

  • تل حلف
  • من البحر المتوسط الى الخليج : لبنان وسوريا

توفي عام 1946 .

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website