زكريا الغول، محامٍ وماجستير في التاريخ. عضو جمعية تراث بيروت
Queen of the Derset هو فيلم أمريكي صدر عام 2015 ، من بطولة الممثلة الأوسترالية نيكول كدمان ، وهو يتحدث عن شخصية غيرترود بيل البريطانية ، وهنا لا بد من طرح السؤال ، من هي هذه الشخصية ؟ وما هي إنجازاتها ؟
فكان لا بد من التعريف بهذه الشخصية :
ملكة العراق غير الـمُتَوَّجة. ابنة الصحراء. أم المؤمنين. كانت تلك بعض الألقاب،وبها بدأت قصة غيرترود بيل وبالتالي تاريخ العراق .
وفي لندن ،اكملت ابنة العائلة الصناعية الثرية دراسة التاريخ في جامعة أكسفورد بامتياز. ولسبب غريب وهو عدم حصولها على عريس، قررت الترحال وممارسة أنشطة غير عادية، مثل تسلق الجبال في سويسرا ، كما كان لها رحلات في بلاد فارس عام 1892 ، حيث تكتشف بيل عشقها للشرق. وتبدأ في تعلم اللغة العربية، وتدرس علم الآثار، وتقوم بأول رحلة بحث في الصحراء السورية.
كانت مفتونةً بالعالم الغريب، ذات الشعر الأحمر التي تتقن ثماني لغات، لحين وصلتها برقية في أحد أيام تشرين الثاني من العام 1915 مفادها: “الإمبراطورية البريطانية بحاجتك. إنها الحرب العالمية الأولى.”
فقد كان وضع إنجلترا محرج في صراعها ضد الإمبراطورية العثمانية المتحالفة مع ألمانيا والنمسا-المجر، فكانت هزيمة العام 1915 في غاليبولي، وبعد ذلك بقليل وضع حرج في (مدينة) كوت العمارة (العراقية) ، وبدأ يدور في ذهن الإنكليز المخطط الذي يدور في أروقة الدبلوماسية السرية والمقرر أن يقلب الموازين في الحرب: ضم القبائل العربية ، والتحريض على الثورة ضد الأتراك. ولأجل ذلك هم في حاجة إلى معلومات حاسمة.
من هي القبائل التي تكن ود للإنجليز؟ من منهم يمكن أن يشاكس؟ عدد قليل من الإنجليز لديه الأجوبة، وبيل واحدة منهم ، فهي قد سافرت آلاف الأميال على ظهور الجمال في الصحارى العربية، تقاسمت الخبز والملح مع شيوخ البدو كعلامة للصداقة، وكانت تصغي دائما الى آرائهم السياسية.
كان السكان المحليون يثقون بها ، وكانت بالنسبة لهم عربية أكثر من أن تكون بريطانية.
وفي صباح الثالث من آذار عام 1916 ، رست سفينة القوات البريطانية في ميناء البصرة في جنوب بلاد الرافدين، حيث نزلت امرأة على الرصيف ،إنها غيرترود بيل ، وذلك بعد فترة عمل قصيرة في مكتب المخابرات في القاهرة. وعلى الفور بدأت بالعمل على رسم الخرائط التي ستدل الجيش الإنكليزي الزاحف على بغداد، كما قامت بوضع ملفات شخصية للقبائل البدوية وتحاول الإيقاع بينهم وبين زعمائهم من أجل إقناعهم بالتحالف مع إنكلترا.
كانت معلومات بيل مهمة للغاية، وبدأ نجمها يسطع ، فقد كانت أول ضابط مخابرات نسوي في الجيش البريطاني ، وقد استفيد من خبرتها ومعرفتها عن المنطقة وكذلك مكانتها الحميمية عند شيوخ الصحراء العرب. وابتداء من العام 1917، أصبحت سكرتيرة للشؤون الشرقية، حيث ساهمت في وضع الإطار السياسي للدولة العراقية المنوي إقامتها ،وبالإضافة إلى خبراتها، كان لديها بصيرة سياسية ، وكانت تُربك الجنرالات المحليين بسبب ثقافتها واعتدادها بالنفس ، وقد قال فيها الديبلوماسي البريطاني مارك سايكس كبير مفاوضي معاهدة سايكس بيكو بأنها “بلهاء، ثرثارة، مغرورة وسطحية”.
وهنا بدأت الدسائس تحاك ضدها، وتم استبعادها، وتحديد حركتها ، وذلك بسبب رؤيتها لمستقبل العراق ، فقد كانت تريد خلق دولة حديثة رائده، كنموذج لعموم المنطقة العربية ،وإن كان ذلك بتوجيه من إنجلترا،فعلى الرغم من أنها تعمل دائما من أجل القضية العربية، فهي في نهاية المطاف بريطانية، تخدم مصالح وطنها وفي بلاد الرافدين والمتمثلة بالبترول .
كانت بيل كلها حيوية في بغداد – حيث كنت تعيش منذ العام 1917، فقد كانت تحب ركوب الخيل، والحديث لساعات طويلة مع تجار البازار، فقد كانت تشرب معهم الشاي وتدخن السجائر وتسمع آخر الشائعات في البلاد. كما كانت تحب أن تقوم بدور المضيفة في لقاءات يوم الأحد بعد الظهر، ففي حفلات الحديقة في منزلها، تتناقش مع أصحاب النفوذ في البلد حول التطورات السياسية، وكان المبهر هو كيف بإمكانها أن تحلل في دقيقة واحدة النزاعات القبلية المعقدة،
في العام 1920 تسارعت الأحداث في بغداد، وبسبب انتفاضة العراقيين قررت سلطة الانتداب البريطاني نقل البلاد إلى الحكم الذاتي الذي وعدت به منذ فترة طويلة، وكان الحديث عن من سيكون الحاكم في العراق ، وهنا كانت غورتريد بيل متأكدة أن فيصل ، ابن الشريف حسين ، قائد الثورة العربية ضد الأتراك، هو الأكثر قدرة للحفاظ على تماسك البلاد الهش بين الشيعة والسنة والأكراد والمسيحيين واليهود، واستطاعت أن تفرض رأيها في مؤتمر القاهرة عام 1921 عند أمين عام المستعمرات تشرشل، ثم في إقناع العراقيين أنفسهم، حيث جرى استفتاء فاز به فيصل بـ 96 في المئة من الأصوات، وبدأت الاستعدادات لحفل التتويج.
في 23 آب من العام 1921 دوت واحد وعشرون طلقة تحية فوق بغداد، محتفلة بتتويج الملك فيصل على عرش العراق ، وعزفت الفرقة الموسيقية “حفظ الله الملك”. و كان ذلك آخر مهمة كبيرة تقوم بها بيل، والتي اختتمتها بهذه الكلمات: “قضيت صباحا مفيدا في المكتب لرسم الحدود الصحراوية الجنوبية للعراق”، وبعدها بدأ نفوذها يتقلص، لم يعد في حاجة إليها. وأخيرا انتهى زمانها.
وبعدها انعزلت ،وأصبحت كئيبة، وإستأنفت عملها كعالمة آثار .
في مساء الحادي عشر من تموز عام 1926، توفيت قبل يومين من عيد ميلادها الـ 58 ، وهي ترقد في العراق.