كشفت لنا وثيقة الوقف الذي أجراه الحاج سعيد ابن الحاج أحمد المكداشي المؤرّخة في السابع عشر من شهر شعبان المبارك سنة 1249هـ/ 1834م لدى القاضي أحمد الأغر مواقع ذات أهمية كبيرة وغريبة في آن معاً، فمما وقف الحاج سعيد:
“… وجميع الجل المعروف بجلّ السنديانة المشتمل على أرض وغراس أشجار توت وبري وفواكه المفروز من بستان البرك الستين من جهة شرقه الكائن في مزرعة القنطاري لصيق بساتين بني دندن الشهيرة خارج المدينة المذكورة. وجميع الجلّ المعروف بجلّ البئر الملاصق لجلّ السنديانة المذكور المشتمل على أرض وغراس أشجار توت وبري وفواكه ما عدا نصف البئر المذكور فإنه جار في ملك زوجتي الشيخ مصطفى دندن ملكة بنت الحاج درويش أبي دية وصفية بنت السيد إبراهيم القرقوطي وبنتيه لصلبه خديجة وحافظة، المفروز جلّ البئر المذكور من بستان البرك الستين المذكور من جهة شرقه كذلك. ويحد جلّ السنديانة المذكور قبلة جلّ البئر المذكور الذي هو من الوقف المرقوم وشمالا جلّ أم أمين بنت السيد حسين مكنيها وشرقا قسيمة جلّ أم أمين المتقدم ذكره المعروف بجلّ شقيقها مصطفى مكنيها الجاري في ملك أسما وعائشة بنتي الحاج عبد الوهاب دندن وغربا قسيمة جلّ السنديانة المذكور الجاري في ملك زوجة الواقف المذكور أمينة بنت عبد القادر دندن. ويحد جلّ البئر المذكور قبلة الجلّ المعروف بجلّ عبد القادر أبي فروة وشمالا جلّ السنديانة وشرقا الجلّ المعروف بجلّ البلحة الجاري في ملك زوجتي مصطفى دندن وبنتيه المذكورات وغربا قسيمته ملك أمينة المذكورة.
وجميع استحقاق الواقف المحرر الشائع وقدره الثمن ثلاثة قراريط من أصل أربعة وعشرين قيراطا من كامل الإيوان المعروف بإيوان بني يارد الكائن أسفل العليّة المعروفة بعليّة القمندلون الكائن في برج بني دندن القديم في المزرعة المحررة…”
في التنزيل {وجعلنا من الماء كل شيء حيّ}، وهو ما أدركت الشعوب أهميته وكرّسته الحضارات. فالماء للغسل والطهارة والوضوء في الإسلام. وهو للمعمودية في المسيحية كما عمّد المسيح عليه السلام في نهر الأردن. وجرن الماء لدى اليهود في الكنيس. والماء من طقوس الغسل لدى الصابئة والتطهر في نهر الغانج لدى الهنود.
اهتم البيارتة بإنشاء الأسبلة والبرك العمومية في المساجد والساحات العامة والخصوصية في حدائق بيوتهم. تفيد الوثيقة القديمة المؤرخة في الثامن من شهر محرم الحرام سنة 1098هـ/ 1686م ان الحاج مصطفى ابن المرحوم الخواجة محمد الشهير نسبه الكريم بابن القصار أنشأ بركة في سوق الصبانة وأوقف حانوتا على مصالح تلك البركة ان جميع ما يتحصل من أجرة الحانوت يصرف على مصالح البركة من تعمير وترميم.
يذكر ان الرحالة عبد الغني النابلسي زار بيروت مرتين، كانت الثانية في السادس من شهر ربيع الثاني سنة 1112هـ/ 20 أيلول 1700م ونزل في سراية البلدة فوصفها بقوله «وصلنا بيروت ونزلنا في سراية حاكم البلدة وأميرها وحافظ ثغرها. وللّه من سراية رفيعة البنيان مشيدة الأركان. بها أماكن كثيرة ومياه غزيرة. وبها بركة ماء طولها 30 ذراعاً وعرضها 10 أذرع. وخارج السراية أماكن متعددة مبنية كلها بالأحجار، وكل مكان منها مقدار هذه السراية، وهي الآن كلها مهجورة ما عدا هذه السراية». وقال النابلسي «وقد رأينا في بلدة بيروت المحمية زوايا كثيرة وجوامع وحمامات ومنها زاوية تسمّى بزاوية ابن الحمرا يقام فيه الذكر والأوراد وبها حفّاظ تقرأ وهي متسعة بها إيوان به محراب كبير وفيها بركة ماء بجانبها بئر يستخرج منه ماء غزير ويصب في تلك البركة حتى تقول:
امتلأ الحوض وقال قطني
مهلاً فقد ملأت بطني
نشير الى أن صحن الجامع الكبير العمري كان يتضمن بركة مضلعة الجدران معدّة للوضوء أقيمت فوقها سنة 1229هـ/ 1813/14م قبة من الخشب مرصّفة لتقي الماء والمتوضئين من البرد والحر أرّخها المفتي الشيخ عبد اللطيف فتح الله:
يا حسنَ قبة بركةٍ قد أنشئت
من فوقها تسمو ونعم المنشأُ
فكأنها قصرٌ مشيد قد سما
والماء تحت ظلاله يتفيّأ
تحميه من برد ومن حرّ فلا
شمس بضمن خلاله تتلألأ
فتوضأوا فالماء أصبح قائلاً
يا فوزَ من أرّخت بي يتوضأ
بركة السوق
وكان الحاج محمد السّراج قد أوصى سنة 1819م أن يصلح قناة بيروت وأن يعمّر لها بركة ويوقف عليها دكان، فعمّرت البركة في ساحة التتن في سوق قيسارية الأمير منصور وأرّخها المفتي الشيخ عبد اللطيف فتح الله فقال:
يا حسنها خيرية أوصى بها
حتى له بالخير ربي يختم
أوصى بها السّراج وهو محمد
لا زال في روض الجنان ينّعم
يا شاربون يحق أن تدعوا له
أرّخ به وعليه أن تترحموا
وقد أطلقت عليها العامة اسم بركة السوق. وقد أخبرنا الشيخ عبد الله العلايلي رحمه الله ان أحد أعمامه كان يردد القول «والدركه فيها بركة.”
كما أنشأ أبناء عبد الفتاح آغا حمادة سنة 1864م في أملاكهم سوقاً سمّوه سوق السيد وصف في حينه بأنه «سوق عظيم مستطيل ينفذ على أربع جهات ويحتوي مخازن ودكاكين على الجانبين جميعها متقنة الدهان والترتيب. وقد تبلّطت أرجاؤه وأقيمت في وسطه بين أقسامه الأربعة قبة ارتفعت فوق أربعة دكاكين مقابلة لبعضها البعض ووضع في وسط السوق بركة ماء بنافورة جعلت سبيلاً (تحوّلت البركة مع الزمن الى بركة العنتبلي). وقد حفر في أعلى القبة بجوانبها الأربعة تأريخ بحساب الجمل من نظم الشيخ حسين عمر بيهم العيتاني وهو قوله:
للّه قبة سوق شاء رونقه
بنو حمادة آل الجاه والنسك
تنسيك من جِلق باب البريد
كما بالسعد أرخت تزري قبة الفلك
وتظهر أهمية البركة في انها تعطي اسمها للمحلة الموجودة فيها. ففي 23 ربيع الأول سنة 1284هـ/ 1864م باع خطار ابن محمد الشيخ عبد الخالق وعلي بن محمد عبد الخالق وعبد الخالق بن حسين الشيخ الى محمد سليم بن عبد الله المهتدي العطار قطعة أرض سليخ مفرزة من ملكهم في «محلة البركة من مزرعة رأس بيروت» وذكرت في وسط بيروت بركة المطران وبركة سوق النجارين.
وتقرر بعد جرّ مياه نهر الكلب الى بيروت إنشاء خمس برك عمومية وتوزيع كمية من الأمتار على المساجد والمعابد والدوائر الرسمية، والبرك الخمس هي: بركة الدحديلة (في القيراط) 25م، بركة ساحة البرج 27م، بركة المحافر (حوض الولاية) 40م، بركة راس بيروت (الساعاتية) 25م، بركة ساحة الخبز 25م.
ستون بِركة؟
وثمّة أسئلة كثيرة حول هذه البرك الستين فلم يأتِ سابقاَ أحد على ذكرها ولا حجم البركة منها أو كيفية تعبئتها وهل كانت متلاصقة ومجاورة لبئر الماء النابع، علما بأن الوثيقة تشير الى كثير من البساتين حول البرك منها بساتين بني دندن. ونأمل من أحد أحفاد الواقف أو أحد أحفاد الأشخاص الوارد ذكرهم في الوثيقة أن يضيء على ما أوردناه.
________
*مؤرخ/ عضو شرف جمعية تراثنا بيروت
ملف “أوراق بيروتية”