حملة اليونان على بيروت والقاضي أحمد الأغر ينظِّم المقاومة الشعبية

عبد اللطيف فاخوري*

شاء القدر أن تتحمّل بيروت وأهلها نكبات واعتداءات متعدّدة انتقاماً لأحداث لا علاقة لها بها. ففي سنة 1826 تعرّضت لغزوة من الأسطول اليوناني ردّاً على ما قام به محمد علي باشا في المورة جنوبي اليونان. فقد نشبت فيها ثورة ضد السلطان العثماني الذي أرسل سنة 1824 فرماناً لوالي مصر محمد علي يطلب منه المساعدة في القضاء على التمرّد المذكور. فقام محمد علي بإرسال الأسطول المصري وعليه حوالى عشرين ألف جندي بين مشاة وخيّالة، وطالت الحرب وخسر الأسطول المصري خسارة جسيمة في معركة نافارين اضطر بنتيجتها وبتدخّل من الدول الغربية للانسحاب

القاضي أحمد الأغر ينظّم المقاومة الشعبية ضد الغزاة

عند الساعة التاسعة من مساء 18 شباط سنة 1826م هاجم اثنا عشر مركباً للقراصنة الأروام (اليونان) مدينة بيروت وأنزلوا صبيحة اليوم التالي 500 عسكري في محلة برج أبي هدير شرقي المدينة (خلط بعض من كتب في تاريخ بيروت بين أبي هدير صاحب البرج المرابط في ثغر بيروت وبين برج أبي حيدر في المحلة المعروفة اليوم بهذا الاسم فاعتبرهما واحداً كما سنبيّن فيما بعد) وقد ارتدوا لباس الجيش الالباني للتضليل وساروا حتى تسلقوا السور وهبّت المدينة للمقاومة فاضطر المهاجمون للتراجع واستغلّ البيارتة يومي 20 و21 شباط لوضع المتاريس، وقد ذكر هنري غيز قنصل فرنسا في بيروت في رسالة الى وزير خارجيته مؤرّخة في 28/3/1826م «أصبحت البلدة في فوضى كبيرة طيلة الليل واستعملت السلطة وسائل الدفاع المتوفرة لديها نزلت العساكر عند الثالثة بعد منتصف الليل وكانوا حوالى خمسمائة عسكري وهاجموا البيوت الأولى فتعالت الصيحات وتمّ تبادل إطلاق النار حتى ظهر اليوم التالي عندما انسحب المهاجمون الى برج قديم خارج المدينة» ويضيف القنصل قائلاً «قام الأهالي بتنظيم ميليشيا للدفاع والتحصين وأن الفضل بهذه التدابير يعود للقاضي». وكان القاضي في حينه هو الشيخ أحمد الأغر.

«ثم في هذا الحال أرسل المتسلم والمفتي وأكابر المدينة ابلغوا الأمير بشير الشهابي وأرسلوا وأعلموا عبد الله باشا والي عكا وبالحال عاجلاً أرسل الأمير بشير ولده الأمير خليل ومن استجد عنده من الرجال وأرسل أعلاماً الى أهالي البلد عموماً أن يوافوه الى ساحل بيروت وفي ثاني الأيام سار بعسكره الى الشويفات وعند الصباح نهض الى حرش بيروت وحضر الى عنده المتسلم وأعيان قابلوه وشكروا همّته.

وصار الإعتماد أن يضرب بعسكره الذين في برج بو هدير وعند الصباح أتاه الخبر بأن المذكورين حين بلغهم وصول الأمير بعساكره رجعوا ليلاً الى المراكب. ثم حضر كاخية عبد الله باشا وصحبته أبو زيد الآغا ونحو ثلاثماية عسكري فقابله الأمير في حرش بيروت وسار الكاخية بمن معه لداخل المدينة وأمر الأمير عساكره بالرجوع كلهم لمحلهم ورجع بمن معه لمكانه.. ص /780/.

وذكر في حينه أن الأروام إستولوا على الميناء ونهبوا المخازن ودخلوا البيوت وسلبوا ما فيها من الحلي والآنية الثمينة، حتى أنهم أعملوا المديّ لإحراز المجوهرات من معاصم النساء والخلاخيل من أرجلهن. فتصدّت لهم حامية المدينة والمتطوعون من أهلها وأجبرتهم على الإنسحاب للبرج المذكور، بعد أن خسروا ستة عشر قتيلاً وثلاثين جريحاً.

قد جاء يطلب دينه        وقال لي قم فادفع

فقلت هلاّ أمسنا         سمعت صوت المدفع

وذكر بان الغزاة اضطروا للإنسحاب بعد أن أخذوا معهم من أهالي بيروت عدة أسرى من عائلات الحص ودسوم والتنير والعيتاني. وقيل إن عائلة الحص إفتدت أسيرها بمبلغ وافر.

وفي ديوان الشيخ أحمد الأغر بيتان يشيران الى هذه الواقعة.

رسالة والي صيدا عبد الله باشا إلى قاضي بيروت أحمد الأغر

وكان البعض قد اقترح الاستعانة بعسكر من الأمير بشير الشهابي إلا ان هذا الاقتراح لم يلق قبولاً فأرسلوا رسالة الى والى صيدا في عكا عبد الله باشا الذي أجاب برسالة نصها كما يلي:

«افتخار العلماء الكرام وزبدة الفضلاء الفخام قاضي ومفتي أفندي مدينة بيروت حالاً زيدت فضائله وعلومه وافتخار الأماجد والأعيان متسلمنا في بيروت وأمين كمركها حالاً ولدنا الحاج سليمان افندي زيد مجده. غب التحية والتسليم بمرسوم الأعزاز والتكريم والسؤال عن خاطركم بكل خير المنهي إليكم: أطلعنا على تحريركم المتضمن ورود اثني عشر مركباً من الكفرة الأروام الخاسرين بحول رب العالمين، الواقع بينكم وبينهم، وتحريركم بطلب زلام من طرف ولدنا المير بشير الشهابي والتماسكم الإمداد من طرفنا بالعساكر والمهمات والذخاير لآجل تقوية، بأسكم وخذل هذه الفئة الضالة، جميع ذلك صار معلوم فنخبركم، أن مدينة بيروت في خالص مالكاتنا ولا نحتاج الى إمداد طرف أحد إلا من طرفنا وبحوله تعالى وقدرته وباهر جلال عظمته وبمدد روحانية سيد المرسلين وأنفاس حضرة مولانا السلطان نصره العزيز الرحمن نلحق العسكر بالعسكر وندع المهمات والذخاير متصلة من باب محروسة عكا الى باب بيروت فكونوا شادّين عزمكم ومقوّين بأسكم ولا يدخل عندكم أدنى افتكار من هذه المادة الجروية وبهذه الليلة موجهين لكم السروجي بمرسومنا هذا جواباً لتحريركم ومن صباح بكرة بعونه تعالى نسيّر لطرفكم العساكر المقتضية مع البارود والإمداد والذخاير والمدافع فيلزم منكم الانتباه والتيقظ ليلاً ونهاراً لحين وصول المهمات مع عساكرنا المنصورة لطرفكم وإياكم من الغفلة بذلك لأن هذه الشرذمة الخاسرة الظاهرة في شدة ضنك أحوالهم الى الفرار وقريباً بحوله تعالى يحلّ بهم الإنتقام والدمار ونسأله تعالى نصره عساكر الإسلام على الأعداء الكفرة اللئام وبمنّه تعالى لا تلزم لكم زيادة تأكيد بكلما أمرناكم به وإن شاء الله تعالى أنتم المنصورين المؤيدين والكفرة هم المخذولين المقهورين وهذا ما لزم أخباركم والسلام 12ب 241 متولي عكا السيد عبد الله والي صيدا ومتصرف لواء غزة ويافة حالاً» (ملاحظة 12 ب تعني 12 رجب وليس 12 آب كما ذكر بعض كتبة التاريخ ففي مصطلح كتابة التواريخ الهجرية ان (ب) تعني شهر رجب (وهي توافق 20 شباط 1826 م). 

وقد جرت العادة بأن توجه الفرمانات الى قاضي المدينة أولاً ثم المفتي فالمتسلم الخ نظراً لأن القاضي يصدر قرارات ملزمة تنفيذية بينما رأي المفتي بالفتوى هو رأي استشاري محض غير إلزامي. وفرمان عبد الله باشا موجّه الى قاضي ومفتي أفندي أي الى شخص واحد كان الشيخ أحمد الأغر الذي جمع بتاريخ الفرمان بين وظيفتي إفتاء بيروت وقضائها.

_____

*مؤرخ/ عضو شرف جمعية تراثنا بيروت

ملف “أيام بيروتية” 9

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website