إبراهيم باشا يدخل إلى بيروت وأفعى تستقبله في باب الدركاه

سليمان باشا الفرنساوي
عبد اللطيف فاخوري*

كُتب الكثير عن إنجازات إبراهيم باشا في بلاد الشام (1831-1840م) والتي هي مثار جدل مثلما كتب الكثير عما تركته حملة نابوليون بونابرت الفاشلة سنة 1789م. وفي اعتقادي ويقيني ومما لا يمكن إنكاره ان احتلال إبراهيم باشا لبلاد الشام وفترة حكمه لها شكّل جزءاً مهماً في تاريخ لبنان وبيروت الحديث إلا ان الكتابات التاريخية أو المؤلفات أو الرسائل الجامعية والأبحاث الصحفية التي نشرت حول هذا الموضوع غابت عنها الكتابة العلمية النزيهة، وعلى الأقل لم تكتب وفق ما عرف بقواعد مصطلح الحديث الذي استوحى منه أسد رستم نظريته مصطلح التاريخ. ألا ان إنكار دور حملة إبراهيم باشا فيما آلت إليه الأحداث بعد خروجه يؤدّي بطريق الحتم واللزوم الى تفسيرات شاحبة وتوضيحات هزيلة ويجرّ الى تناقض التأويلات واختلاف الشروحات.

وقد عرف التاريخ ان بعض النفوس جبلت على التقرّب من الحكام والولاة في أي موقع إما طمعاً بنوال عطاء مالي أو دعم معنوي يحقق له نفوذاً يودي استغلاله الى ثروة تؤمّن تحالفه مع الحكام. ومن المنطق القول ان غالب ما كُتب عن فترة حكم إبراهيم باشا لم يخرج عن ذلك المنحى. فكم من شاعر وكاتب من السلف الصالح والخلف الفالح دبّج في سيرة الفاتح قصيدة أو كتابا خصّصه له وصال وجال ومدح وأطنب لم يسأل نفسه ما جرّت سياسته على البلاد ولم يمرّ بخاطره تقييم ما أضفيَ على سياسته من نتائج. إلا انه من غير المنطقي أن ننتقد ما كتب أو كل ما كتب عن حقبة إبراهيم باشا متجاهلين ان ذلك الكاتب قد عاش في زمان غير زماننا وفي بيئة تخالف بيئتنا ولم يتزوّد بمعارف وتفاصيل ومعطيات توفّرت لنا. ولا يخفى ان علم اجتماع المعرفة يبيّن ان ما كتبه ذلك المؤرّخ يظهر في الأسلوب وصياغة العبارات واختيار الألفاظ وإنتقاء الكلمات.

بعد الهزيمة التي لحقت بجيش محمد علي باشا في المورة (اليونان) واتهامه السلطان العثماني بخذلانه قرّر محمد علي تجهيز حملة بقيادة ابنه إبراهيم باشا لاحتلال بلاد الشام كخطوة أولى للحلول محل السلطان. وكان إبراهيم باشا قد أرسل فريقأ من العساكر والذخائر لاستخلاص الثغور تحت قيادة حسن بك المناسترلي فاستولى على صيدا وصور وبيروت وطرابلس وباقي الثغور. وكان جوريل القائم بأعمال قنصلية فرنسا في بيروت قد أرسل رسالة الى وزير خارجيته يعلمه فيها بأن إبراهيم باشا دخل الى بيروت في الثاني من شهر نيسان 1832م مع فرقة من ستة آلاف عسكري تليه فرقة موسيقية عسكرية. وان الطرقات كانت مزدحمة بالناس ولا يمكن القول بان الجمهور كان مرحّباً به فلم يرفع أحد صوته ولم يتوقف أحد عن التدخين. وأثناء عبوره داخل المدينة خرجت من بين الحجارة حية شقراء طولها ثلاثة أقدام متجهة نحو الباشا فسارع أحد مرافقيه لسحقها بحجر ما اعتبر فألا حسنا.

قدوم القناصل والمستشارين الأجانب ولا سيما الفرنسيين

شهدت فترة حكم إبراهيم باشا لبيروت ودمشق حضور العدد الكبير من القناصل والمستشارين المدنيين والعسكريين الأجانب ولا سيما الفرنسيين بدءاً من قائد الجيش سليمان باشا الفرنساوي (جد الملكة نازلي) الى الخبير الفرنسي دروفيتي الذي كان صاحب فكرة شق طريق بيروت – دمشق لغاية تسهيل انتقال الجيش بين بيروت ودمشق (نفّذ هذا المشروع فيما بعد من الفرنسي الكونت دو بيرتوي). ولا يجب أن ننسى النفوذ الذي تمتع به هنري غيز قنصل فرنسا في بيروت ودوره في إنشاء المحجر الصحي (الكرنتينا). حتى يمكن القول ان حملة إبراهيم باشا كانت حملة ثانية من نابوليون بونابرت بعباءة مصرية.

ونذكر على سبيل المثال ان قنصلين، روسي ونمساوي، حضرا سنة 1787م الى صيدا ومرادهما سكن دمشق فلم يقبل أهل الشام وقالوا هذه باب الكعبة فلا يجب أن يقطن بها قناصل. وفي 21 رمضان 1249 هـ/1834م حضر مستر بيتر ابوت قنصل الانكليز من بيروت الى دمشق فاستقبله أمير اللواء مع ألف عسكري وكان يرافق القنصل أربعة وعشرون خيّالاً مع بيارقهم وثمانية قوّاصين وعبدين وثلاثة مترجمين ووكيل وخزندار وفرقة موسيقية. وسار الموكب يتقدّمه ثلاثون قواصاً للوزير ثم الخيّالة الذين حضروا مع القنصل من بيروت ثم قواصته بألبستهم المقصّبة وبأيديهم عصي من فضة ثم التراجمة في شالات كشمير ثم القنصل على حصانه وقد لبس على رأسه برنيطة مطعّمة بالماس. يذكر ان مستر بيتر ابوت عندما بلغته حملة إبراهيم باشا على بلاد الشام سارع الى الاجتماع مع الباشا في خيمته وأخذ يلومه بالكلام على حضوره الى بر الشام بدون رخصة من الدولة العليّة فاغتاظ إبراهيم وقال له «إعلم اني حضرت بالعساكر انتقاماً من عبد الله باشا (والي عكا) فان كان ذلك لا يوافق دولة الانكليز فعليها مخاطبة والدي فمتى أمرني بالرجوع عدلت عن هذا المشروع».

وتمّ بأمر إبراهيم باشا تعليق جرس في دير الكبوشيين في بيروت. وقد بعث القنصل الفرنسي فيها برسالة في 7/6/1832 يخبر فيها وزيره «بأن الكبوشيين كانوا منذ مدة يرغبون بتعليق جرس في ديرهم وانه أي القنصل وجد الفرصة مناسبة لذلك فتمّ وضع الجرس ويضيف بان رفع الجرس لم يسبب أي جدل بين السكان».

حنا بحري بك أمير اللواء الآمر الناهي

وعندما حضر إبراهيم باشا الى دمشق حضر معه الخواجا حنا ميخائيل بحري الذي كان قد نظّم أمور البلاد وحسابها قبل ذلك ونال إعجاب محمد علي. وميخائيل هو ابن عبود البحري الحمصي الأصل قدم الى عكا وتعلّم الآداب العربية على يد مفتيها، فنشأ كاتبا وشاعرا ماهرا تقرّب الى حكام وشعراء زمانه فتعرّف على مفتي بيروت وقاضيها الشيخ أحمد البربير ومدحه وعلى المفتي الشيخ عبد اللطيف فتح الله وقال فيه هذا الأخير:

لما نظمت الشعر ممتدحا به 

الفاضل بحري جلّ بفضله

وسبكته كالدر فيه نظما 

وقريحتي ليست تجود بمثله

قالوا رميت الدر في البحر الذي

لم يستحق له وليس بأهله

فأجبت ان الدر هذا أصله

ولكل شيء قد يعود لأصله

ولزم أبناؤه عبود وحنا وجرمانوس ديوان عبد الله باشا العظم. وكان حنا تعرّف على محمد علي باشا وآخى بينه وبين ابنه إبراهيم فلما بدأت حملة الشام رافق حنا إبراهيم باشا ووصى محمد علي كل منهما بالآخر. وحنا البحري هو أول من نال لقب بك وسكن في الصالحية فتوجهت أهالي البلد للسلام عليه. وقام بعد ذلك لترتيب الديوان فعيّن محتسباً يدور في الأسواق وقدّامه عشرة مرافقين بعضهم حامل العصي وبعضهم حامل الفلقة والبعض الميزان والبعض جواب (جمع جبوبة وهي العصا الغليظة ومن هنا القول السائر: «جوابه تحت باطه»). وكان بحر بك هو الآمر الناهي، فكان إذا دخل الى الديوان نهض له الجميع بمن فيهم المفتي ونقيب الأشراف، وما يقرّره ينفّذ دون اعتراض أو مراجعة، وكان الدمشقيون يسمعون ويكتمون غيظهم في قلوبهم. وتعرّف بحري بك الى مفتي بيروت الشيخ أحمد الأغر فمدحه المفتي سنة 1250هـ/1834م بقصيدتين مطلع الأولى:

دعوها فلا اسلو هواها مدا عمري 

ولو نشرت عظمي ففيه انطوى ظهري 

الى أن يقول:

ألقبها بالشمس عنها كناية 

كما لقب الأجواد ذا الجود بالبحر (ي)

أما القصيدة الثانية فهي أيضا رائية من بحر الخبب ومطلعها:

لم تبرز فايقة البدر                لسواي صاح من الخدرِ

بكر باكرت صبوح                 مرشفها من في كأس الثغر 

الى أن يقول:

قالوا اختاري منا بدلاً           عنه ودعيه الى الهجر

قالت من أنتم قالوا              نحن أولو جود وأولو أمر 

قالت ما جودكم إلا               كالنقطة من جود البحر (ي)

الثورة على إبراهيم باشا وانسحابه من البلاد

تعدّدت أسباب الثورة على التدابير التي اتخذها إبراهيم باشا في بلاد الشام والتي أدّت بالنتيجة الى تحالف السلطنة مع الدول الأجنبية لإخراج جيشه من بلاد الشام وكان من قراراته فتح خمارات بما لم يسبق له في الشام وصار عرض العرق والنبيذ في الشوارع والمقاهي. وبوشر بأمر من محمد علي بإجراء التجنيد العسكري في البلاد من سن 14 فما فوق الذي شكّل شرارة الثورة التي أنهت فيما بعد حكم محمد علي في بلاد الشام. ومن يوم خروجه بدأت فتنة سنة 1840 الطائفية والتي امتدّت الى الفتنة الكبرى سنة 1860…».

_____

*مؤرخ/ عضو شرف جمعية تراثنا بيروت

ملف “أيام بيروتية” 11

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website