إبراهيم باشا متنكّراً في قهوة «خبّيني» وسط بيروت

وثيقة قهوة “خبيني”
عبد اللطيف فاخوري*

كنت إذا تأخّرت عن زيارة عمتي، استقبلتني وهي تقول ساخرة: وين هالغيبـة، بقهوة خبّيني؟ وبقيت أتساءل عن القهوة المذكورة الى أن وقعت على وثيقة مؤرّخة في الثامن من شهر شعبان سنة 1273هـ/ 1857م وقرأت فيها أن الحاج حسن فخري بوكالته عن زوجته خديجة أحمد الغول وقف حصتها البالغة 12 قيراطاً من أصل 24 من الدار المعروفة بمنزل قاسم درويش الكائنة في محلة بني الحاج شاهين تجاه «قهوة خبّيني» وكان الوقف على قفة الخبز التي كانت توضع في دكان بسوق الفشخة (شارع ويغان) ويوزع الخبز منها مجاناً على فقراء بيروت يوم الجمعة بعد الصلاة.

وتبيّن بالتدقيق أن القهوة المذكورة كائنة في سوق البازركان قرب جامع الأمير منذر المعروف بجامع النوفرة لوجود بركة ونافورة في فنائه أو الجامـــــــــــــع المعلـــــــــق (لارتفاعه) عن الأرض بدرجات لجهة بابه الشرقي وذلك قبل فتح بابه الغربي المطلّ على شارع فخر الدين أي شارع المصارف، كما وعرف أيضاً في سجل أوقاف بيروت لسنة 1843م بإسم «جامع القهوة». وقد أفادتنا وثيقة مؤرّخة في 19 ربيع الأول سنـــة 1264هـ/ 1848م أن عبد الله البربير بوكالته عن حسنا سعيد نجا باع الى عبد الرحمن وعبد الله الطيارة وإبراهيم يوسف سربيه ربع دكان سفلي دار حسن الكوش الكائنة «بسوق العقادين القديم الشهير الآن بسوق البازركان».

والعقادون جمع عقاد وهو من يحترف في أنواع الخيطان: الحرير والصوف والقطن والشرائط. وقد أدركت سوق البازركان وفيه دكاكين لخياطي اللباس العربي من عبي وغنابيز وصداري مطرزة وشراويل ودكاكين للوازم الخياطين من السجق للبرادي، وقماطات للرأس وبريم للمخدات وأزرار وقطع حريرية مقصّبة وخرز ملون وشلل خيطان، وكانت لا تزال قبيل الحرب الأهلية توجد في السوق بقايا أنقاض مصنع الحاج توفيق يموت للزجاج التي قيل ان حيّة اتخذت وكراً لها فيه. وبقي المخضرمون يذكرون من السوق المحكمة الشرعية القديمة والزاروب المبروم الذي سمّي بالمبروم لوجود عامود إسطواني في وسطه. وحين أشيع أن جنيّة تظهر ليلاَ في الزاروب المذكور تبيّن أن ملاعباً كان يضع مخدة على كتفيه ويلبسها ملاية سوداء تنسدل على وجهه وقد ثقب فيها فتحتان لينظر منهما، فيخوّف السابلة.

وكان من الطبيعي بما أن النور ضعيف نهاراً لتراكب البيوت وضيق الطرق، أن تشكّل بعض أمكنة السوق مخبأ جيداً، ومن هذه الأماكن القهوة التي غلب عليها إســـــــــــــــم «خبّيني» وأضاف إليها البيارتة قولهم: «خبّيني ولا تلاقيني» وفي لهجتهم إضافة ياء الوسط الى فعل الأمر فيقولون: طعميني… إسقيني… عطيني… الخ..

إبراهيم باشا متنكّراً في قهوة «خبّيني» 

حدثت في قهوة «خبّيني» واقعة أيام إحتلال إبراهيم باشا لبيروت بين سنتي 1831 و1840م رواها الحاج علي حصرم. وحصرمَ الحبل لغة فتله شديداً، وحصرم القربة ملأها، وحصرم الثمر إذا ضمر عن النضج. والحصرم البخيل المتحصرم على ماله. يذكر أن آل حصرم وهم أسرة بيروتية قديمة كانت لهم أملاك في رأس بيروت قرب مخفر حبيش وكانوا يملكون كارات ديليجانس تجرها البغال والخيل الكدش وعمل أحدهم فتح الله حصرم في تجارة الحناطير والطنابر.

أصدر الأديب اسكندر أبكاريوس سنة 1910 كتاباً على نفقة محمد مكاوي سمّاه «المناقب الإبراهيمية والمآثر الخديوية» زعم فيه أن إبراهيم باشا كان على عادة الخلفاء قديماً، كثيراً ما يطوف متنكراً بين الناس ويجالس أصحاب الصنائع فيسمع حديثهم ويعرف قصدهم ومرامهم وأحياناً يذمّ نفسه أمامهم قاصداً كشف أسرارهم. ونقل الكاتب ما رواه له الحاج علي حصرم الذي كان يقيم قريباً من قهوة «خبّيني». قال الحاج علي: «بينما كنت جالساً إذ بدرويش قد أقبل عليّ وحيّاني وكان مربوع القامة مهيب المنظر وعليه حلّة من الصوف الأحمر، فرددت عليه السلام وتلقيته بالترحاب والإكرام ودعوته للجلوس، فجلس بقربي وقد مال إليه قلبي ولما استقرّ به المقام أخذ يباسطني ويسألني عن أحوال الأحكام وتصرفات الولاة والحكام وقال انه قد حضر في هذه الأيام من مدينة دمشق الشام، ثم أخرج من جيبه غليوناً صغيراً وجعل يدخّن به ويتأوّه كثيراً وهو يتنهد ويتحسّر مظهراً على نفسه الحزن والكدر ويتوجع من قلب محزون ويقول: إنّا للّه وإنّا إليه راجعون. فاستعظمت أمره وأشفقت عليه وسألته عن حاله ومصابـــه فقال: بالله دعني ولا تسأل عن حزني فإنه شديد وخصمي عنيد. فقلت أعلمني بواقع الحال ومن يكون خصمك من الرجال عسى أن تجد لك عن يدي فرجاً ومن هذه الشدائد خلاصاً ومخرجاً فان مصابك قد أثر بي وزادني كرباً على كربي. قال: خصمي هو إبراهيم الذي لا يحنّ على قلب سقيم ولا يشفق على أرملة أو يتيم. قلت له بماذا جار عليك وأوصل أذاه إليك؟ قال: كان لي أخ صغير كنت أحبه الحب الكثير وكان عوني وسندي وأعزّ عليّ من ولدي فأخذه مني رغماً وجبراً وأدخله في سلك عسكره غصباً وقهراً وأضرم في فؤادي لهباً وجمراً وجعلني أبكي عليه طول الدهر وجرعني لوعة الخنساء على أخيها صخر. فلما سمعت مقاله عذرته واستعظمت حاله وقلت: يا درويش الخير وقاك الله كل بؤس وضير لقد تكلمت بالصدق ونطقت بكلام الحق فإنه رجل صارم وحاكم ظالم قد أحرق صميم فؤادنا وأخذ أكثر أولادنا وأدخلهم في سلك العسكر وجعلنا نتحسّر عليهم نسأل الله وهو نعم المسؤول أن ينتقم منه بجاه الرسول ويرفع عنّا ضرره ويكفينا أذاه وشرّه…». 

وأضاف الحاج علي «وما زلت أحادثه بمثل هذا الكلام وأهوّن عليه الأمور العظام وأطعن في إبراهيم باشا وأدعو على حكمه أن يزول ويتلاشى وهو ينفخ ويتململ حتى تغيّرت حالته وارتاح واستبدل ذلك الحزن بالارتياح وبشّ بعدما كان قد عبس وجعل ينظر فيّ ويتفرّس ولما انتهيت من هذا المقال التفت إليّ وقال: جزاك الله عني خيراً ووقاك بؤساً وضيراً لقد زالت الآن كربتي وهانت عليّ مصيبتي ثم قال إنّا للّه ولا حول ولا قوة إلا بالله من مصائب الدهر وبلاياه ثم نهض فوقف وودّعني وانصرف».

وتابع الحاج علي حصرم قائلاً «ولم تكن إلا ساعة من النهار حتى أحاط بي ثلاثة أنفار وقالوا: قم يا فلان فان إبراهيم باشا يدعوك الآن. فخفق فؤادي واضطرب وقلت لهم ما هو الداعي لهذا الطلب فانني رجل فقير فماذا يريد مني حضرة الوزير؟ فقالوا قمْ بالعجل ولا تسأل فزاد خوفي واحتسبت وقمت معهم وذهبت وما زلنا نسير حتى وصلنا إلى قصر كبير فأدخلوني إلى حجرة لطيفة تحتوي على تحف ظريفة من الفرش الفاخر وأنواع الأنسجة والحرائر فوجدته جالساً في صدر المكان وحوله جماعة من الأعيان وقواد العساكر والفرسان فتأمّلته بالعيان وإذا به الإنسان الذي زارني سابقا وجرى لي معه ما جرى وكان فتقدّمت إليه وقبّلت الأرض بين يديه فقال: اعلم يا فلان انه قد بلغني عنك الآن من بعض الأعوان بانك تطعن في حكمي وتشكو من جوري وظلمي وقلت عني ما هو كذا وكذا فاذكر لي الآن ما الذي رأيت مني من الظلم والعدوان. فانقطع ظهري وحرت في أمري وأيقنت بالهلاك فوقعت على قدميه وأخذت أثني عليه وقلت لا أحد إلا ويشكر منك إلا الدراويش الفقراء الذين أخذت أخوتهم عسكراً فإنهم يستعظمون الأمر ويعدّونه من باب الظلم».

وأخذ الحاج حصرم يبيّن للباشا حسن الجندية وضرورتها لقيام الدولة وصيانة البلاد والأموال وتابع قائلاً «إنما كان جل المقصود تسلية ذلك الدرويش عن حزنه على أخيه فتبسّم ضاحكاً من هذا الخطاب وقد أعجبه غاية الإعجاب ثم طيّب قلبي وصفح عن ذنبي وأمرني بالجلوس فجلست وآنسني بحديثه فاستأنست وبعد هذا الحديث أمر لي بألف غرش على سبيل الإنعام».

الزوج موجود والإبن مولود والأخ إذا راح لا يعود

كانت القرعة العسكرية في عهد إبراهيم باشا شديدة الوطأة على مسلمي بيروت لأنهم كانوا ينتظمون في سلك الجندية. وكانت العادة في التجنيد ان الحكومة إذا احتاجت الى جند، أمرت بإقفال أبواب المدينة وإلقاء القبض على من فيها من الشباب، ثم تنتقي منهم أصحاب السن الموافقة للجندية وتطلق الباقين.

وعند موعد آذان الظهر في أحد ألأيام سمع الناس من مئذنة أحد مساجد بيروت القديمة ضمن السور إمرأة من أسرة العيتاني تؤذّن ما أثار لغطاً شديداً نظراً لغرابة هذا الأمر وعدم أسبقياته، فانزلت المرأة وسيقت الى إبراهيم باشا. ولدى سؤالها عما أقدمت عليه، قالت بأن السبب يعود الى عدم وجود رجال لأن إبراهيم باشا جنّد زوجها وأخاها وابنها. فطلب منها الباشا أن تختار واحداً منهم مبدياً إستعداده لتسريحه فأجابت بأن الزوج موجود والإبن مولود ولكن الأخ ان راح فلن يعود. أعجب الباشا بجوابها وأمر بإطلاق الثلاثة. وللحادثة المذكورة حكايات تشبهها، منها واحدة حصلت زمن الخليفة العباسي المستنصر، ويذكر كتاب «الشعر الإغريقي» ص.280 الى أن مسرحية سوفوكل المؤلفة سنة 242 قبل الميلاد أوردت على لسان بطلتها انتيجون قولها ان الزوج والإبن يمكن تعويضهما ولكن الأخ لا يعوّض.

وكان من جملة مساعي يعقوب ابكاريوس والد اسكندر مع إبراهيم باشا ان أطلق الباشا عشرة أنفار من أهل بيروت من الخدمة العسكرية ممن كانوا من فقراء الحال وأصحاب العيال منهم أحمد مرزا وعبد الرحمن المغربل وأحمد العانوتي وأحمد طقطق الدلال وغيرهم.

_____

*مؤرخ/ عضو شرف جمعية تراثنا بيروت

ملف “أيام بيروتية” 12

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website