أشرنا سابقاً الى حكم محمد علي لبلاد الشام كان السبب في فتنة سنة 1840م والتي امتدت الى سنة 1860 وأدّت الى مئات القتلى والجرحى في الجبل والى تخريب ودمار في القرى. وكان من نتيجة تلك الفتنة الطائفية نزوح الآلاف من الجبل الى بيروت. وإثر تلك الفتنة الطائفية التي عصفت بجبل لبنان كتب خليل الخوري في الثامن عشر من ذي القعدة سنة 1276 هجرية/ أيار 1860 ميلادية في صحيفة «حديقة الأخبار» (العدد 127) حرفياً ما يلي:
«لا يخفى أن كثيرين من فقراء النصارى في جبل لبنان، قد التجأوا إلى بيروت، منهزمين من نار الشرور التي ثارت في بلادهم، فصادفوا كل مرحمة ومجابرة من أهالي المدينة، ولا سيما أمة الإسلام، الذين بذلوا لهم المساعدة العظيمة، بإعطاء محلات للسكن، وبتفريق الخبز، وجمع الحسنات، وكل ما يؤول إلى نفعهم، مظهرين الغيرة التي هي من شعائر الإنسانية، وبذلك تمموا إكرام الغريب، ونالوا الأجر عند الله، والشكر عند الناس».
وتابع خليل الخوري يقول: «وهنا نثني على جناب العلّامة الشيخ محمد الحوت، صاحب البر والفضل الشهير، الذي لا يفتر عن الإنذار بالخير والصلاح، حسبما انطوت عليه سريرته السليمة، من محبة العموم وحب السلام. كما أننا لا ننكر فضل جناب العلّامة الشيخ عبد الله خالد، وجناب السيد عبد الله أفندي بيهم، رئيس مجلس التجارة، وجناب السيد محمد البربير، مع المتميّزين من وجوه الإسلام، الذين مارسوا أبهتهم بكل ما يوحّد الألفة والمحبة بين الجميع».
وقد جمع أهالي بيروت مبلغاً وافراً من المال. وأنشأوا في محلة الكرنتينـــا القديمة «دار الشفقة» لمساعدة الفقراء من أهالي الجبل، تولّى رئاسته مفتي بيروت الشيخ محمد المفتي الطرابلسي الأشرفي. كما أنشأ فؤاد باشا مجلساً للإعانة برئاسة ابنه ناظم باشا.
فؤاد باشا واستدراك تداعيات الفتنة
بسبب الفتنة الطائفية ومحاولة الدول الأوروبية (فرنسا وبريطانيا والنمسا وبروسيا وروسيا الدول التي وصفت بالمتحابة) استغلالها، احتاط السلطان للأمر فأرسل وزيره للشؤون الخارجية فؤاد باشا لإستيعاب التدخّل الأوروبي وإقرار الأمن وتثبيت سلطة الباب العالي. وقد وصل فؤاد باشا الى بيروت في 17 تموز (يوليو) 1860م واستقبل بحفاوة، وسكن لدى قدومه الى بيروت في حي القيراط وسمّيت الطريق الى داره طريق فؤاد باشا. مدحه الشيخ قاسم الكستي بأربع قصائد منها واحدة لما منحه السلطان سيفاً:
إعطاؤك السيف مثل القوس في المثلِ
لأن رأيك قد حاكاه في العملِ
خصّتك دولتنا لما رأتك على
نهج الصواب بسيفٍ سابق العدل
وأشار نقيب الأشراف الشيخ عبد الرحمن النحاس الى قيام فؤاد باشا بحلِّ المشكلات فقال:
إمام الهدى عبد المجيد قد ارتضى
مشيراً بأفق الكائنات وحيدُ
محمد من أرّختُ جاء بهديهِ
فؤادٌ بحل المشكلات فريدُ
وبُعيد وصول فؤاد باشا لبيروت زار قصر آل سرسق في الاشرفية فوضعت لوحتان على مدخل القصر كُتب على الأولى:
إذا جار الزمان عليك نادي
باسم مليكنا عبد المجيدِ
وكتب على الثانية:
أهلاً بمولانا الذي بمنّة التشريف جاد
أحيا الفؤاد بلطفه واللطف من سرّ الفؤاد
أجرى فؤاد باشا تعديلات لأعضاء مجلس الايالة، فعيّن فيه مكرمتلو حسين بيهم من أصحاب رتبة التدريس وجناب سعد الدين أفندي حمادة (التبس الأمر على من ذكر هذا الأخير بين سعد وسعد الله ومن الثابت انه سعد الدين) وجناب حبيب النقاش.
مجلس محاكمات فوق العادة
وعاقب فؤاد باشا المسؤولين عن المجازر في دمشق والجبل. فشكّل مجلساً لمحاكمة المتورّطين بحوادث البلاد عرف بمجلس تحقيق إيالة صيدا أو مجلس فوق العادة عقد جلساته في القشلة الهمايونية برئاسة أحمد باشا والي إيالة صيدا وتولّى رشدي أفندي مفتي المأمورية المستقلة نيابة الرئاسة وعضوية مصطفى أفندي قبطان الدوننما (الاسطول) الشاهانية وأبرو أفندي والدكتور روسبنان من موظفي نظارة الخارجية وباش محاسبجي إيالة صيدا وشكري أفندي من أعضاء مجلس الايالة وأخيرا مفتي بيروت الشيخ محمد حسن المفتي الطرابلسي الأشرفي. وترأس المحكمة فيضي أفندي وضمّ مفتي بيروت الشيخ محمد المفتي الطرابلسي الأشرفي وعبد السلام عز الدين. وكان الشاعر محمد مصباح البربير موظفاً وكاتباً بالمجلس فمدح رئيسه:
قد اختاره والي الإيالة حكمة
وأعطي قسياً من لها كان باريا
به ابتهجت بيروت لما غدا بها
رئيساً على التحقيق بالعدل قاضيا
فيحكم لا يعدو على من أسا له
ولا لخليل تلتقيه مراعيا
كما مدح عبد السلام عز الدين فقال:
مولى لفض المشكلات لقد غدا
فرداً وليس بنصحه بضنينِ
في مجلس الإنصاف أضحى قائماً
يقضي ويحكم فيه بالقانونِ
وتقديراً من فؤاد باشا لأهالي بيروت ولدورهم في الابتعاد عن الفتنة الطائفية وفي مساعدة النازحين وبناء لسعيه منح السلطان عبد المجيد الأول ثلاث شعرات من اللحية النبوية الشريفة لبيروت. وقد وصلت الشعرات في آذار (مارس) 1862م برفقة أمير الحج الشريف حسن رضا باشا وصار وضعها ضمن صندوق داخل الحجرة الكائنة في الجامع العمري الكبير. وحصل التنسيب يومها من طرف فؤاد باشا بأن يكون مفتاح الصندوق بيد آل الفاخوري وحفظ بيد الشيخ محيي الدين الفاخوري كما أثبت بعد ذلك في محضر مجلس إدارة لواء بيروت سنة 1872م . كما عيّن الشيخ محيي الدين المشار إليه إماماً لجامع المجيدية ومتولياً على أوقاف الجامع وقد دفن في روضته. كما منح السلطان قطعة أرض لمحمد أبي النصر اليافي (خلط كثيرون بين هذا الأخير ووالده عمر اليافي) فوسّع زاويته وبنى سوقاً عرفت بسوق أبي النصر وبمقهى عرف بقهوة القزاز (الزجاج). وقطعة أرض للموارنة أنشأوا عليها كاتدرائية مار جرجس للموارنة.
يذكر انه بعد انحباس المطر في خريف 1860 تقرر خروج الأهالي من مختلف الملل الى الفلال طلب الرحمة من الله فحضر فؤاد باشا صباح الجمعة مصحوبا بموظفي الخارجية الى سطح خان الوحوش وحضرت العلماء والمشايخ وغبطة بطريرك الروم الأرثوذكس مع بعض مطارنته وقسوسه وقسوس الموارنة والروم الكاثوليك وحاخام اليهود. وكانت جماهير الأهالي واقفة في سهلة الطوبخانة (ساحة البرج القديم) تضجّ بالاستغاثة وطلب الرحمة وكان رؤساء الملل يتلون الصلوات والأدعية كل بدوره.
_____
*مؤرخ/ عضو شرف جمعية تراثنا بيروت
ملف “أيام بيروتية”
30 أيار/ مايو 2020