اختلف المؤرّخون في عدد أبواب بيروت بين قائل بأنها أربعة وقائل بأنها خمسة الى قائل بأنها سبعة والذين قالوا سبعة برّروا ذلك بتقديس العدد سبعة. وينبغي التنويه بما عرفت به بيروت لدى الرحّالة الأجانب بأنها «المدينة المربعة» الأمر الذي يبرر برأينا القائل بأن الأبواب القديمة لبيروت لم تكن تزيد عن أربعة أبواب. ولا سيما أن من المعروف والمنطقي أن حماية المدينة والدفاع عنها يفرضان التقليل من المنافذ – الأبواب فكلما كثرت الأبواب صعب الدفاع عن المدينة. يذكر أن المماليك ابتدعوا نظاماً هندسياً أي تنظيماً مُدنياً للحماية يقوم على الدروب والزواريب المتعرجة كالمتاهة بين بيوت مبنية بالحجارة الرملية – كالمتاريس – ما يوجد رابطة متماسكة بين السكان ويؤمّن الدفاع عن المدينة من أي اعتداء أجنبي. والشواهد كثيرة على صمود المدافعين عن أشباه هذه المدن ما يبرّر المقولة: كلما وسّعنا الدروب، كلما باعدنا بين القلوب.
توسيع الطرق وفتح الأبواب
نهار الإثنين التاسع عشر من شهر ربيع الأول سنة 1260هـ/1844م قدم الوزير المشير محمد نامق باشا سرّ عساكر برية الشام من الأستانة الى بيروت، فمدحه مفتيها القاضي أحمد الأغر بقصيدة مطلعها:
برّية الشام بُشراها بها رافق
رب الأنام الرحيم المانح الرازق
وقد تجلى عليها بالرضى فغدت
سماء أرضِ الدُّنا منظورة الخالق
وحلّها الأنس حيث الفرحُ عمّ بها
والعدل ظلّلها في وقتها الرايق
وبالهنا والصفا والعزّ نمّقها
إذ حلّ فيها عليُّ الهمّةِ النامق
ولكن طرقات البلدة لم تمكّن الناس حينئذ من إظهار الأنس والفرح المشار إليهما. فالوالي المذكور لما قدم بيروت ليتولاها ويستلم مأموريته جاء بعربة فلم تتجاوز في سيرها ساحة البرج من باب يعقوب (السور) وتعذّر عليها السير واعتاص السبيل وتوعر المسلك إذ كان عرض بعض الطرق نصف مترو العريضة متراً واحداً. وكانت الأوحال تبتلع قصير القامة شتاءً وتغمره الرمال صيفاً. أما الطويل فإن سلم رأسه من وخز الصبيّر لا يسلم من أغصان الأشجار. فكان أول اهتمام السلطة بعد إخراج إبراهيم باشا توسيع الطرق وفتح الأبواب.
وتحت شعار التنظيم المدني وشرح منافع توسيع الطرق بحجة تسهيل مرور العابرين لتحصيل مصالحهم وحاجاتهم وتخليص الواحد منهم مما يقاسيه في سيره من الملاكمة والملاطمة فلا يعدم دابة ترشّه بالوحل فتتركه عبرة للناظرين أو حمّالاً يلطمه فيرميه أو سائق عربة يدهمه على غفلة فيرديه أو خشبة محملة تصيبه في رأسه فتعميه أو قطاراً من الجمال يستوقفه طويلاً أو قطيعاً من حمير الحجّارة لا فرار منه فتحت شعار التنظيم المشار إليه يتم هدم بيوت واقتطاع مساحات من الأراضي لتصبح ساحات عامة وتتم إزالة أسماء المحلات وتغيير المعالم والشواهد الأثرية.
أما الأبواب الأربعة القديمة لبيروت فكانت شرقاً باب السراي، وهو الباب الموصل الى سراي الحاكم مباشرة. وقبلة باب الدركاه عند رأس شارع المعرض. والباب الثالث هو باب الدباغة عند الشمال الشرقي لجهة المرفأ. والباب الرابع هو باب السنطية باتجاه مقبرة السنطية ومحلة رأس بيروت. يؤيد هذا الرأي أن الكونت دومنيل دو بويسون لم يذكر أية استحكامات دفاعية خاصة بأبواب بيروت إلا لأبواب السراي والدركاه والدباغة فقط. وأما أبواب يعقوب وأبو النصر وإدريس فلم تكن تتمتع بأية تحصينات دفاعية مما يعني أنها حديثة العهد. ونضيف بأن باب السنطية كان أيضاً مزوّداً بوسائل دفاعية. فقد ذكر دارفيو في رحلته لبيروت سنة 1660م «وجود خمسة أو ستة أبراج موزعة على طول ساحل بيروت وصولاً الى الباب الغربي للمدينة (السنطية) القديم جداً والمحكم المتين البناء».
فباب يعقوب الذي كان موقعه عند أول ما كان يعرف بطلعة الأميركان، بلغ ارتفاعه مترين وسبعين سنتم وعرضه مثل ذلك وسمك حائطه خمسة وسبعون سنتم. وتألفت دفتاه من خشب مصفحتان بالحديد والمسامير وفي احداها فتحة صغيرة – خوخة – على العادة التي كانت جارية في الأبواب الكبيرة.
باب إدريس أو باب الأمينية
وبالعودة الى باب إدريس أو باب الأمينية نقول ان الشيخ عبد القادر قباني روى قصة فتح باب إدريس بأنه لما كانت صيدا إيالة قدم بيروت أحمد مخلص أفندي لتخطيط الطرق. واقتضى التخطيط فتح باب أبي النصر وفتح باب إدريس. «وكانت طريق باب إدريس في كرم توت يخص آل إدريس، وكانت والدتهم متقدمة في السن، فأغاظها جعل بستان التوت طريقاً، فأخذت تدعو علي أحمد مخلص أفندي فكان يجيبها بقوله سوف تخصّين أحمد مخلص بدعواتك الخيرية. ثم لما قدم مخلص باشا سنة 1866م والياً على سورية، قصد بوابة إدريس فوجد كرم التوت تحوّل الى مخازن ودكاكين ومنازل، فذهب الى بيت إدريس وسأل صاحبته ما إذا كانت ما تزال ساخطة عليه، فاعتذرت وأكثرت من شكره والدعاء له بالخير».
وأطلق على هذا الباب «باب الأمينية» وعلى المحلة التي نشأت بسبب فتحه «محلة الأمينية».
ونعتقد بأن لقب «الأمينية» المذكور وفتح باب إدريس لا يعودان الى أحمد مخلص باشا كما ذكر القباني، بل الى محمد أمين مخلص باشا الذي كان والياً على صيدا (بيروت ضمناً) سنة 1848م وعاد والياً عليها سنة 1850م. والذي مدحه مفتي بيروت وقاضيها الشيخ أحمد الأغر سنة 1268هـ/ 1850/51م بقوله:
ثغور أراضي ساحل الشام تقصدُ
وتشكر ما بين البلاد وتحمدُ
وأضحى بها روض الأماني مزهراً
سروراً وأفراحاً بها السرّ يخلد
وبيروت قد صارت سماءً لأرضها
وقد حلّها بدراً منيراً محمّد
أمين أبو الأنوار والي أمورها
فعيش بنيها فيه يصفو ويرغد
له صدق قول مع وفاء بوعده
وحكم وعدل قاطع ومؤبّد
وقال في بيروت بعهد الأمين المذكور:
بيروتنا عين ذات عِين
تذل من خان بعزّ الأمين
تقول حسني جامع مانع
يحيى به ناظره كل حين
ومن المعروف وفقاً للخرائط القديمة لبيروت أن المحلة المجاورة من الخارج لسور بيروت الغربي كانت في القرن التاسع عشر مستودعاً للغلال وزرائب للمواشي والبهائم وذلك نزولاً شمالاً الى ميناء القمح. ونتج عن فتح باب إدريس تنشيط حركة المرور والبناء. وتذكر صحيفة «حديقة الأخبار» أن طريق الأمينية مهّدت بعد ذلك. كما تشير عدة وثائق الى أن المحلة الكائنة داخل المدينة وخارجها (حول باب إدريس) صارت تعرف «بمحلة باب الأمينية» كما جاء في وثيقة مؤرّخة في 14 ربيع الآخر 1281هـ/1864م والتي باع بموجبها الحاج محمد صالح إدريس دكاناً الى الحاج أحمد إبن سليمان خليل.
يذكر أنه نتيجة المباشرة بفتح طريق بيروت – دمشق التي كان أحد مستشاري جيش إبراهيم باشا الفرنسيين قد اقترحه على قائد الجيش سليمان باشا الفرنساوي (الكولونيل سيف) عندما كان ممثلاً بلاد الشام تسهيلاً لانتقال الجيش بين بيروت ودمشق، إلا أنه لم يتيسر تنفيذه أثناء الوجود المصري. اقتضى تحسين طرق المدينة وكان من الضروري فتح بابي أبي النصر وإدريس تحقيقاً لمقولة لا تنطبق على الواقع الحقيقي والتي تقول بأن الشركة المذكورة تعمل لمصلحة المدينة. وهو أمر جيد لولا أن الأصح ان يقال ان المدينة هي التي تعمل لمصلحة الشركة وليس العكس.
وكان من أهم نتائج فتح باب إدريس وتمهيد طريق الأمينية ازدهار المنطقة الممتدة خارج الباب في مختلف الاتجاهات. أولها غرباً باتجاه رأس بيروت وثانيها شمالاً باتجاه ميناء القمح وميناء الحسن وثالثها باتجاه الجنوب الغربي نحو وادي أبي جميل. ويذكر أن مساحات كبيرة في تلك الأماكن كانت بتملّك الحاج عبد الله بيهم والحاج أحمد بن صالح بن أحمد الداعوق والد محمد أبي عمر (بك) الداعوق. وكان فيها منزل عمر بك الداعوق.
ففي تلك المحلة أنشأ عبد الله بيهم قصره في أواسط القرن التاسع عشر (تجاه مبنى ستاركو الحالي) والمبنى كنموذج للعمارة البيروتية القديمة لا يزال قائماً وقد حلّ فيه الأمير عبد القادر الجزائري ضيفاً مكرّماً حيث تليت قصائد الشعراء في مدحه كما شهد هذا القصر وقائع وأحداثاً مهمة وذكريات جميلة في تاريخ المدينة قبل أن يتحوّل الى مركز ثقافي فرنسي. وكان من الأجدر أن يعتبر «بيت بيروت» وليس البيت الذي اختير مؤخراً (في الناصرة عند مفرق السوديكو) والذي يرتبط بالذكريات السيئة للحرب الأهلية الدخيلة على بيروت. كما أشارت عدة وثائق الى الامينية فالحاج داود ابن عبد الكريم خطاب باع في 15 صفر سنة 1281هـ/1864م الى الخواجه شحاده ابن حاييم المغربي الموسوي قطعة أرض بمشتملاتها من أغراس توت وبري الكائنة في «محلة الأمينية» خارج بيروت مساحتها بحساب التربيع ستماية وثلاثون ذراعاً بمائة ليرة مجيدية. وبموجب الوثيقة المؤرّخة في 3 شعبان سنة 1306هـ/1889م حررت تركة عبد الله بيهم فكان من ضمنها داراً في طريق بيهم من محلة «الأمينية». وعدة دكاكين ومخازن بشراكة الحاج أحمد الداعوق. وأسهماً في سبعة مخازن وأربعة دكاكين في محلة «الأمينية» وطريق القشلة تحدّها قبلة الطريق الآخذ الى وادي أبو جميل وشمالاً طريق سالك الى رأس بيروت. وفي السابع من جمادى الثانية سنة 1308هـ/1891م حررت تركة الحاج أحمد الداعوق وضمّت خمسة بيوت في «محلة الأمينية». وثلاث اوط وقطعتي أرض وثلاثة دكاكين وربع السوق المعروف بسوق الجديد الكائن «بمحلة الأمينية» المشتمل على خمسة وعشرين مخزناً وحارتين علويتين.
أما الأمينية فقد أصابها ما أصاب محلات أخرى. فالطبقة السياسية التي واكبت الولاة العثمانيين وتبوأت المناصب ونالت الرتب والنياشين وأثرت من التجارة والمقاولات واستدرت من الشعراء قصائد المدح والتعظيم، الطبقة نفسها نقلت البارودة من كتف العثماني الى كتف الفرنساوي فسكتت عن تغييب أسماء المحلات والشوارع (كما سنبيّن ذلك فيما بعد) فأصبحت الأمينية جورج بيكو وشارع خليل باشا الصنائع والشارع الحميدي كليمنصو ودبرت شوارع ترضية لفوش وويغان وغورو وأصبح بعض فقهاء السلاطين علماء للمندوبين الفرنسيين وكان كل ذلك لمصلحة التجارة والتجار في حلفهم مع الحكام الجدد وبعض رجال الدين.
_____
*مؤرخ/ عضو شرف جمعية تراثنا بيروت
ملف “أيام بيروتية”
4 نيسان/ أبريل 2020