ازدهرت التجارة في بيروت وراجت عندما ترسّخ الأمن وسادت سلطة القانون. وتبع ذلك نهضة ثقافية وتجارية وعمرانية. تمثلت الثقافية بالاقبال على التعليم، ظهر في انتقال الكلية السورية (الجامعة الأميركية) الى رأس بيروت ولجوئها الى حيلة شرعية من نظام الوقف فتولّى سماسرة عثمانيون شراء الأراضي من مال الجامعة ووقفها لمصالحها يوم لم يكن من حق الأميركان التملّك في أراضي الدولة. وتمثلت التجارية بتنظيم مجلس التجارة وأصول عمله. وتمثلت العمرانية بإنشاء الأسواق والحمامات والخانات.
كان يوسف بيهم وإخوته من تجار بيروت المشهورين، فقد أرسل هنري غيز نائب قنصل فرنسا في بيروت رسالة في 15/1/1827م الى وزير خارجيته يذكر له فيها أسماء التجار المعتبرين في بيروت فكان منهم الحاج يوسف بيهم وإخوانه وعبد الرحمن البربير ومحمد قريطم وعبد القادر نجا وجرجس بسترس. وذاعت شهرة تجارة يوسف وإخوانه لا سيما مع الداخل العربي كما يتبيّن من الرسالة التي وضعها راتب الحسامي عن محل بيهم في القرن التاسع عشر (مخطوط – الجامعة الأميركية في بيروت).
ذكر القاضي الشيخ أحمد الأغر أنه جاء سنة 1817م لتوديع يوسف بيهم العيتاني الذي كان متوجهاً الى دمشق للتجارة فقال مرتجلاً:
توجّه نحو جلق في سرور فباب الله فيها والسلام
وترجع رابحاً ديناً ودنيا بسعد ثم عزّ لا يضام?
ذكرنا سابقا ان إبراهيم باشا أنشأ ثلاثة مجالس في بيروت: مجلس شورى بيروت وديوان الصحة وديوان التجارة كان جميع أعضائها من سكان بيروت. وكان مجلس التجارة في بيروت يقوم بدور تحكيمي بين التجار وفي إعطاء الرأي فيما خص المنازعات التي تنشأ فيما بينهم أو النظر في مطالب لأحدهم تجاه الآخر.
تنظيم تجارة المدينة
يذكر ان قانون التجارة الفرنسي صُدّق في 15/9/1807م ونشر في 1/1/1908م وقد أخذته الدولة العثمانية وأعلنته قانوناً لها في الثامن عشر من شهر رمضان المبارك سنة 1266هـ/ 1850م على أن يعمل به اعتباراً من شهر محرم الحرام سنة 1267هـ أي ما بعد سنة. أما نظام قلم دعاوى التجارة فقد صدر في السادس عشر من شهر ربيع الأول سنة 1285هـ/ 1868م ونص على أن يتألف القلم من مدير واحد وباشكاتب واحد ومترجمين وكتبة. ونص ذيل قانون التجارة على تبعية جميع محاكم التجارة لإدارة ديوان نظارة التجارة. يذكر انه في الثاني عشر من شهر ذي القعدة سنة 1292هـ/1875م صدر فرمان يقضي بربط هيئة المحاكم التجارية وقلم الدعاوى بنظارة العدلية.
عبد الله بيهم رئيس مجلس التجارة
تولّى عبد الله بيهم قبل سنة 1860م رئاسة مجلس التجارة في بيروت الذي كان مقرّه في حارة محمود نامي بك تجاه خان السيد (حمادة) في المرفأ ثم نقل سنة 1867م الى خان أنطون بك. وكان المعلم بطرس البستاني قد أصدر سنة 1859م كتاباً بعنوان «روضة التاجر في مسك الدفاتر» أهدى في خاتمة كتابه الى الحاج عبد الله بيهم رئيس مجلس التجارة ونقولا مدور أمين سر التجار «لفضل مساعيهما في مصالح التجارة ومصالح التجار والعموم من كل ملّة ومذهـب».
كان عبد الله بيهم يفض الخلاف بين التجار، ويصدر الأحكام بين المتقاضين من خلال ما تمتع به من خبرة وحنكة وأصالة رأي وبُعد نظر وحكمة، وكان مكتبه عبارة عن طرّاحة فوق الحصير يتميّز عن بقية الحاضرين بغليون طويل (شبق) ومسبحة ومنضدة أمامه عليها دواة حبر نحاسية وقلم غزار وقرطاس ومرملة لتجفيف حبر الأحكام (قبل شيوع الورق النشاف) في زمن كانت عدّة التاجر ما عرف بدفتر دوبيا وقلم كوبيا. والكوبيا هي نوع من المعدن يميل لونه الى النيلي لا ينمحي خطه بسهولة يضعه التاجر على أذنه كي لا يضيع بين الأوراق والفواتير. أما المدفوع والمقبوض فيسجل بقيد مزدوج قيل فيه دوبيا من الإيطالية Doppia.
نشر في كانون الأول (ديسمبر) 1861م إعلان جاء فيه: «انه نظراً لتبديل هيئة مجلس التجارة القديمة بهيئة جديدة بحسب الأوامر الكريمة الصادرة من مقام نظارة التجارة الجليلة وبحسب البيورلدي الصادر من لدن دولتلو والي الإيالة المفخم فرئيس المجلس مع إثنين من أعضائه الدائمين من الآن وصاعداً يركزون بالمجلس لاستقبال الدعاوى التجارية واستماعها من الساعة خمسة عربية بكل يوم الى الساعة العاشرة».
نصب السلك الكهربائي بين بيروت ودمشق
وفي حضور فؤاد باشا في بيروت وولاية أحمد باشا القيصرلي صار سنة 1277هـ/ 1861م تركيب التلغراف البرقي من بيروت الى دمشق ما سهّل وسيلة الاتصال بين المدينتين لا سيما للتجار فقال الشيخ حسين بيهم:
للّهِ در السلكِ قد أدهشت
أفكارنا لما على الجو ساقْ
فأعجب الخلقُ بتاريخه
شبيه برقٍ أو شبيه البُراق
سوق السيد (حمادة) ثم سوق أياس
كانت أغلب الأسواق القديمة على اسم صاحبها كسوق الأمير أمين أو قيساريات لأبي اللمع والشيخ شاهين تلحوق وعبد السلام العماد. ثم تلتها أسواق بأسماء عائلات المدينة مثل أسواق حمادة وأياس وإدريس وسرسق وتويني وسيور ورعد وهاني وأبي النصر وبيهم وعيتاني. وكانت بعض الأسواق تنسب الى سلعة معينة كأسواق الحرير والجوخ والزجاج (القزاز) والقطن والخضار والقطايف والنرابيج. فيما نسبت أسواق أخرى الى أصحاب الصنعة كأسواق اللحامين والعقادين والنجارين والحدادين والمنجدين والأساكفة والبياطرة والبوابجية والعطارين والصناعة والشعارين (من صنع الشعريات – الشعاري وليس من نظم الشِعر). ونتيجة لتزاحم الأقدام عند أبواب المدينة دخولاً الى المدينة وخروجاً منها نشأت أسواق سمّيت بأسماء تلك الأبواب مثل سوق باب يعقوب توزعت فيه دكاكين المنجدين. وسوق باب السراي وعرف بسوق الفشخة. وسوق باب الدركاه عند رأس المعرض وسوق باب السنطية. وعرف سوق ميزان الحرير سفلي قيسارية التوتة. وسوق زاوية الشهداء قرب دار أبي عسكر وسوق ميناء بيروت.
كانت بيروت السبّاقة في إنشاء الأسواق الكبيرة المتخصصة والذي شاع وذاع بعد ذلك ووصل الى ما نشهده اليوم مما يطلق عليه «مول».
ففي سنة 1864م أنشأ سعد الدين حمادة وإخوانه في جوار أملاكهم في محلة الطويلة، سوقاً جميلاً سمّوه سوق السيد نسبة لوالدهم السيد عبد الفتاح آغا حمادة الذي تولّى أمن بيروت ورئاسة مجلس شوراها وكان معروفاً بإسم «فتيحة» على الطريقة الاسكندرانية.
وصف سوق السيد في حينه بأنه «سوق عظيم مستطيل ينفذ على أربع جهات. ويحتوي على مخازن ودكاكين على الجانبين. وجميعها متقنة الدهان والترتيب. وقد تبلطت أرجاؤه وأقيمت في وسطه بين أقسامه الأربعة قبة ارتفعت فوق أربعة دكاكين مقابلة لبعضها. وبنيت في وسط السوق بركة ماء بنافورة جُعلت سبيلاً (أصبحت فيما بعد بركة العنتبلي). وحفر في أعلى القبة بجوانبها الأربعة التأريخ الآتي من نظم الشيخ حسين بيهم (حبذا لو صُوّرت هذه الأبيات المحفورة قبل هدم السوق):
لّله قبة سوق شاد رونقه
بنو حمادة آل الجاه والنُسكِ
تُنسيك من جلِّق باب البريد كما
بالسعد أرخت تزري قبّة الفلك
وبلغ عدد الدكاكين والمخازن في جوانب السوق تسعين. وأقيمت في ظهره ثلاث دوار للسكن أو للمكاتب التجارية. وفي صيف سنة 1877م اشترى السادة أياس إخوان (محمد وأحمد عثمان أياس) سوق السيد وقاموا بتحسينه. فجمعوا فيه باعة الأقمشة من الشيت والخام وسقفوه بجملون يقي الناس من حرّ الصيف ومطر الشتاء. وبيّضوا جدرانه وحسّنوا البركة التي في وسطه وزخرفوا ما فوقها. فكان من أجمل الأسواق. وقد زار والي سورية مدحت باشا السوق سنة 1879م فسُرّ من حسن البناء والطريق ورصفها بالبلاط الذي لم يكن له وجود في غيرها من طرق البلدة.
حمام الدركاه وخلاف في نظم تأريخه
كان أحمد آغا حمزة (سنو) وشريكه إلياس سلوم قد بنيا سنة 1864م ما كان يعرف بحمام الدركة (الدركاه) وكان موقعه تجاه مبنى التياترو الكبير الحالي. وقد بذلا العناية بحسن نظافته وزخرفة بنائه على أحسن حال وأظرف شكل، ولكن تأريخه اقترن بنادرة طريفة. فقد جرت عادة أصحاب الحمامات أن يثبتوا على مدخل الحمام بلاطة تحفر عليها أبيات من الشعر تؤرّخ لبناء الحمام. وقد قصد حمزة وسلوم الشاعر عمر الأنسي وطلبا منه تأريخاً ليكتب على الحمام الجديد، فنظم الأبيات الآتية:
أيا حسن حمام حوى الحسن والبها
فلا زال من عين الحسود سليما
سما بهجة بالواردين وزينة
كأن شموساً أشرقت ونجوما
لأحمد آغا وابن سلوم لم تزل
محامد تهديها الأنام عموما
هما أنشآه طبق ما اقترح المنى
فأصبح نفعاً للديار عميما
فمن يأته ينظر على النار جنة
ويعجب منها من يكون حكيما
تناجي أنابيب المياه حياضه
فتسمع صوتاً للرخام رخيما
ثم بعد أن أخذ حمزة وسلوم الأبيات المذكورة من الشاعر، ردّها إليه أحدهما قائلاً: انها لم تخرط له عقلاً ولم يعرف لها قياساً وشكلاً. ثم قام بنقش أبيات غيرها على باب الحمام. فغارت وقتئذ أصحاب حرفة الأدب وأجمعوا على أن يقول بالحمام ما يجب أن يقال وإلا من عثرته لا يقال. ونظم بعضهم أبياتاً في ذلك. وفي نهاية الأمر أقاموا في المسألة حكماً بينهم، فحكم بمحو الأبيات التي نقشها أصحاب الحمام عدا شطرة التاريخ جزاء لفعله وعبرة لغيره. وقد محيت فعلاً.
يذكر ان حمزة وسلوم اشتريا أرض الحمام وكانت ملاصقة لسور المدينة من علي الادلبي رئيس مجلس تجارة بيروت في حينه، وذلك بوكالة هذا الأخير عن محمد طاهر باشا مأمور موقع بيروت بثمن قدره سبعون ألف غرش عن كل غرش منها أربعون مصرية.
خان أنطون بك أنشأه أنطون بك مصرلي اوغلي أي ابن مصر وكان مؤلفا من عدة طبقات وتميّز بقناطر واتخذت فيه مكاتب للبريد كما ضمّ عشرات من المخازن وبقي قائما حتى الحرب الأهلية سنة 1975.
_____
*مؤرخ/ عضو شرف جمعية تراثنا بيروت
ملف “أوراق بيروتية”
13 حزيران/ يونيو 2020