كتب محمد جميل بيهم في كانون الثاني سنة 1909 تحت عنوان «البلدية والانتخابات» فقال «لو كان للبيروتيين كبير يعترف له الكل من مسلمين ومسيحيين ويهود بالرجاحة والسيادة لرغبنا إليه أن يدعو وجهاء البلدة وأعيانها ويقرر معهم أمر انتخاب أعضاء البلدية فيعيّنون من ذوي الهمّة والعفة والاقتدار رجالا يسعون للتصويت لهم من سائر الشعب. ولكن لسوء الحظ اعتاد السواد الأعظم من البيروتيين أن لا يعترف بأفضلية كبير ولا بأرجحية خبير بل يعتقد كل منهم إذا ملك قرشين أو تعلّم كلمتين انه رئيس البلدة وعين أعيانها فيرى من الحط من قدره أن يجيب الداعي إذ خيّل له الحسد ان في ذلك اعترافا بسيادة غيره… وآسفاه قضى المرحوم المفتي نحبه فقضي على منصبه من بعده ولا أدري أكان ذلك لتضارب المرشحين أو لإنتفاء وجود الصالحين أو هي ضربة من ضربات المستبدّين اللاتي يريدون بها إضعاف كل قوة»، (فما أشبه الليلة بالبارحة) (ذكرنا في أيام سابقة فراغ سدة الإفتاء بعد وفاة المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري).
انتخب عبد القادر الدنا سنة 1906 رئيسا للمجلس البلدي. غلبت عليه الصفة الأدبية في مطلع عمره فاهتم بالأدب والشعر والتصوف، ففي سنة 1876 أشرف على طبع كتاب «عقد الأجياد في الصافنات الجياد» الذي ألّفه صديقه الأمير محمد ابن الأمير عبد القادر الجزائري، وفي سنة 1881 نشأت صداقة بينه وبين أبو الهدى الصيادي الرفاعي، فروّج كتاب أبي الهدى المسمّى «الفيض المحمدي والمدد الاحمدي»، ومكّنت معرفة عبد القادر الدنا العميقة بالتركية من تعريب كتاب المؤرخ العثماني أحمد جودت باشا المسمّى «تاريخ الدولة العثمانية»، وقد ألف عبد القادر الدنا كتابا ضخما في عدة أجزاء بعنوان «كتاب تحفة العالم في أخبار سيد ولد آدم» طبع في بيروت سنة 1321هـ. كما أهّلته كفاءته لتولّي رئاسة محكمة التجارة سنة 1883. واتجه الى الصحافة فأسّس مع شقيقه محمد رشيد سنة 1886 جريدة «بيروت».
نفّذ الاتحاد والترقي سنة 1908 إنقلابا على السلطان عبد الحميد وعلى مستشاره أبو الهدى الصيادي وسارت مظاهرة في بيروت تطالب باستقالة الدنا، فتمّت إقالته وكلّف محمد أياس بالرئاسة لعدة أشهر. ثم كلّف سليم سلام بالرئاسة وبتنظيم الانتخابات.
الدوائر الانتخابية في بيروت
شكّلت في بيروت سنة 1864 أربع دوائر انتخابية ضمّت المناطق الجغرافية تحت أربعة أقسام: 1- محلات البلدة القديمة ضمن السور والتي أصبحت فيما بعد تعرف بمحلة المرفأ. 2- الصيفي والرميلة والرميل والأشرفية وراس النبع الشرقي. 3- الباشورة وزقاق البلاط والمصيطبة والمزرعة وراس النبع الغربي. 4- ميناء الحسن وجميزة يمين والمريسة وراس بيروت. وكانت هذه المحلات توزع على أيام الانتخاب العشرة سنة 1880 وتسعة لسنة 1909 وما يليها.
تقسيم البلدية الى دائرتين: شرقية وغربية
يقول سليم علي سلام في مذكراته (ص117/118) «بعد أن اتممت انتخاب البلدية وتقديم النتيجة للولاية سنة 1909 صدر أمر الوالي بقسم الدائرة البلدية الى دائرتين: الواحدة شرقية والثانية غربية، وعيّن رسميا للشرقية بطرس أفندي داغر الأرثوذكسي البيروتي وللغربية المسلم منيح أفندي رمضان…». إلا ان مجلس الإدارة عاد وقرر في تشرين الثاني 1910 (نشر الخبر في الجريدة في 5/12/1910) توحيد الدائرتين واقترع على الرئاسة فكانت لمنيح رمضان الذي أعيد انتخابه سنة 1913. أما أسباب التقسيم وأسباب إلغائه فهو بحاجة الى دراسة على حدة ولا سيما بيان ما إذا كان إلغاء رئاسة بطرس داغر الأرثوذكسي قد عوّض عنه فيما بعد بتخصيص مركز محافظ بيروت للأرثوذكس؟
وتقول مي دايفي ان موقع محلتي الشرقية والغربية هو بالنسبة لكاتدرائية مار جرجس، وفي رأينا ان هذا التقسيم اعتمد بعد شق طريق الشام ثم شاع أثناء الحرب الأهلية.
وكان لكل من الرئيسين دوره في تاريخ المدينة. كان منيح رمضان مقرّبا من الوالي خالد بك الذي وسّع سوق الفشخة (ويغان) فهنّأ سميح بك نجل الوالي بتوجيه الرتبة المميّزة له سنة 1899 بقوله:
أولاك مولانا الخليفة رتبة ممتازة لتكون للأولى سبب
وأبرّ ثانية إليك مؤرخاً ليراك في أعلى المناصب والرتب.
أما بطرس بن فضول بن الخوري بطرس داغر الأرثوذكسي البيروتي فكانت له عدة مواقف مشهودة في الدفاع عن مصالح المدينة ولا سيما تجاه شركات الامتياز ولا سيما شركة مياه بيروت، كما كانت له أعمال خيرية مهمة فقد تبرع بمائة ليرة ذهبية لجمعية المقاصد لإنشاء مدرسة للبنات كما وقف عشرين ألف ليرة مآلها للفقراء».
معيار التقسيم والحاجة إلى عدة دوائر
لم يبقَ من محاضر المجلس البلدي ما يفيد المعيار الذي اتخذ لتوزيع الدوائر الانتخابية بين الدائرتين الشرقية والغربية. فلم يتبيّن النطاق الجغرافي ولا عدد أعضاء كل دائرة ومركزها وصلاحيتها وان كان من المرجح القول بأن الفائزين في انتخابات 1909 وزّعوا بين الدائرتين. فكل دائرة ضمّت مسلمين ومسيحيين أي لم تختص كل دائرة بطائفة. ويبدو ان الوالي وزّع رئاسة الدائرتين بين مسيحي بيروتي أرثوذكسي ومسلم بيروتي.
وتدلُّ إحالة الوالي لكتاب قنصل أميركا الى الدائرة الشرقية ان محلة رأس بيروت كانت تابعة لتلك الدائرة. وقد علمنا من إعلان نشر في 1/3/1909 ان الدائرة الغربية برئاسة منيح رمضان قررت بيع سطوح معصرة السبليني في محلة الفشخة. ونرجح بأن مقر دائرتي البلدية كان في المبنى المجاور غربا للسراي الصغير. وقد يقال بأن سبب التقسيم الرغبة في توزيع المهام بين الدائرتين لتنامي عدد السكان وتعدد الحاجات والخدمات، مع العلم بأن عدد سكان بيروت بلغ سنة 1906 مائة ألف نسمة ارتفع سنة 1908 الى 132 ألف نسمة ووصل سنة 1910 الى مائة وخمسين ألف نسمة. فكانت دائرة بلدية واحدة كافية لتأمين حاجات البلدة. علما بأن مناطق بيروت خارج السور كان غالبها بساتين وكروما معدّة لزراعة الخضار وتربية الماشية، وقد غلب وصف كل منها بإسم مزرعة فقيل: مزرعة راس بيروت ومزرعة الأشرفية ومزرعة المصيطبة الخ…
أما اليوم ومع شيوع فكرة اللامركزية وبلوغ عدد سكان بيروت أكثر من مليونين؟ فأصبحت غالب مناطقها مطاعم وأماكن سياحية وحدائق وساحات وأماكن عبادة ومسابح وفنادق وأسواق تجارية وناطحات سحاب ومراكز حكومية بحيث تحتاج كل محلة الى دائرة بلدية.
الخضار والفجل والخسّ من رأس بيروت
قَدِم سكان رأس بيروت من مناطق جبلية وقروية وزراعية من البقاع أو قرى الجبل فمن الطبيعي أن تكون لديهم خبرة في المواسم وحراثة الأرض ونكشها ومواعيد البذار والسقاية وجني المحاصيل وبيعها تربية المواشي والاستفادة من صوفها وحليبها ولحمها وترييح التربة شهري آب وأيلول (أي 60 يوماً) والترييح يعني حرثها وتسميدها دون زرع. وأن يكونوا أقوياء الشكيمة أشدّاء في البرية ومع الواوية كما قيل عندما انتقلت المدرسة الكلية – الجامعة الأميركية إلــــــى رأس وحراسة الزرع والضرع ومراقبة الساحل والتصدّي لأي اعتداء. وكانت بيوتهم متواضعة عدا بعض الأبراج غالبها مسقوف بالجسور والأخشاب مع مصطبة تحيط بها أشجار التوت والتين والجميز وتتخلل بين الأشجار جلول الخضار ومساكب الحشائش، فيقضون في بساتينهم أحلى السهرات على ضوء قمر رأس بيروت الذي اعتقدوا أنه خلق للسهر والسمر.
زرعوا الخضار الموسمية وحملوها قبل شروق الشمس الى وسط المدينة فباعوها وعادوا مساءً بعد غروبها الى بيوتهم. زرعوا الباذنجان والكوسى والملفوف والبندورة والفول والحمص واللوبياء ومساكب الكزبرة والبقدونس والبقلة والخس والفجل واللفت. وكانوا يسقون زراعاتهم من آبار جمع فيها الماء تمييزاً لها عن الآبار النابعة وكانوا يأخذون الماء مداورة من بئر الزاوية (جامع الحمرا) بواسطة خنزيرة البئر وهي خشبة فوق فم البئر يلتف عليها الحبل. علماً بأن مياه نهر الكلب وصلت إلــــى رأس بيروت سنة 1899م عند البركة في «حاووز الساعاتية»، والحاووز يعني البركة أي المكان الذي يحوز الماء فيه.
وكان على مزارعي رأس بيروت عند جلب بضاعتهم إلى داخل المدينة بيعها بالجملة إلى من عُرف (بمعلمي الخضرة) وهؤلاء يصرفونها إلى أصحاب الدكاكين لقاء جعالة على المزارع الذي لم يكن باستطاعته بيع محصوله بغير واسطة المعلم. كما أنه لم تكن توجد ساحات لعرض الخضار وبيعها. وكان نتاج الأرض الطيبة وفيراً وقد ذاعت شهرة ثلاثة أصناف من رأس بيروت هي: الفجل من بستان الغرزوزي والقرع من بستان مصطفى العيتاني (أبو إبراهيم) والخسّ.
محضر جلسة دائرة بلدية بيروت الشرقية ومنع بيع الخضار
ويبدو أن إنتاج الأرض من الخضار ومنها الخسّ كان يكفي مؤونة العائلة ويغني المزارع عن بيع أرضه. إلا أنه كانت للخسّ شهرة خاصة. فقد اشتهر خسّ رأس بيروت بكبره وبأن ثلاث خسات منها كانت تملأ السلّ. حتى شاع المثل المنسوب إلى عمر بك الداعوق القائل: «خسّ زراع ولا تبيع من أرضك دراع». إلا أن هذا الخس تسبّب سنة 1910م بانتشار مرض التيفوئيد في راس بيروت وأصاب
طلابا من الجامعة الأميركية ما دعا رئيس الجامعة الى إبلاغ قنصل أميركا الذي أرسل كتابا الى والي بيروت الذي حوّله الى الدائرة الشرقية..
وننشر لأول مرة فيما يلي خلاصة أحد محاضر الدائرة الشرقية التي عقدت في 9 شباط 1910 وفيه «انعقدت جلسة برئاسة بطرس داغر رئيس الدائرة الشرقية وبحضور الأعضاء حسن قرنفل وجرجي رزق الله ونصري ارقش وسعيد أبو شهلا وأمين كفوري (من الدائرة الغربية) وعثمان النقيب وعبد الحفيظ طباره (من الدائرة الشرقية)، وتُلي في الجلسة كتاب ورد من قنصل الولايات المتحدة الأميركية مؤرّخ في 8 شباط 1910م ومحوّل من الولاية الى دائرتي البلدية الشرقية يتضمن وجود مرض الحمى التيفوئيدية في مكتب الأميركان الكائن في محلة رأس
بيروت وفي بعض بيوت المحلة المذكورة ناشئ عن وضع الزبالة والأقذار في البساتين، فقرر المجلس إلزام أصحاب البساتين على طمر الزبالة تحت طائلة الحكم على المخالف بالجزاء النقدي ورفع الزبالة ورميها في البحر على نفقته. كما قرر إجراء التطهيرات الفنية في الطرقات ومنع نقل القاذورات التي تستخرج من مرتفقات البيوت على الدواب كما كان حاصلاً قبل ذلك، بل إلزام أصحاب البيوت على نقلها سريعاً.
كما تُلي في الجلسة تقرير أطباء البلدية، فتقرر منع الخس والفجل والبقدونس والنعنع والكزبرة وما شاكلها من الخضار التي تؤكل بدون طبخ. وجرى التنبيه على معلمي الخضار ليمتنعوا عن بيع هذه الأصناف. وأصدر طبيب البلدية حبيب شحلاوي نبذة قال فيها «ثبت لنا بعض الفحص ان تفشي هذا النوع من الحمى وانحصارها في جهــات راس بيروت دون سواها ناجم عن أكل الخضر الواردة من تلك المحلة وأخصّها الخس، وقد تحققنا بأن بعض التلامذة والأهالي الذين يقصدون بساتين رأس بيروت لأجل النزهة يتناولون الخسّ دون غسله لعدم وجود الماء في تلك المحلة وإن وجدوا ماءً فهو ماء الناعورة القذرة. وأن منشأ الجراثيم المعدية من أقذار المراحيض والأوساخ التي تطرح في البساتين وتنتقل منها إلى الخضار لذلك يحظر تسميد البساتين الأوساخ قبل أن تحفظ تحت التراب مدة كافية».
وبعد تعميم تدابير المجلس البلدي حضر إلى دار الحكومة مزارعو محلة رأس بيروت واحتجوا على منع الخضار لما يلحقهم من الأضرار المادية فوعدهم الوالي بالنظر في الأمر مع المجلس البلدي والأطباء. وبعد أيـــام أذاع د. هوارد بلس رئيس المدرسة الكلية بأن ما شاع عن تفشي الحمى في المدرسة مبالغ فيه وأن الذين أصيبوا وأرسلوا الى المستشفى البروسياني كانوا 25 طالباً.
وشاع فيما بعد أن سبب تفشي الحمى سنة 1910م مجرور المستشفى البروسياني المكشوف.
_____
*مؤرخ/ عضو شرف جمعية تراثنا بيروت
ملف “أيام بيروتية”
25 أيلول/ سبتمبر 2020