فرنكوفونية بيروت: التجارة سبقت السياسة

منظر عام سنة 1880. تلوين نضال شومان، جمعية تراث بيروت
عبد اللطيف فاخوري*

في الثاني من شهر نيسان (ابريل) سنة 1832م دخل إبراهيم باشا بيروت من باب الدركاه (تجاه مبنى التياترو الكبير) على رأس جيش من ستة آلاف جندي بين فارس وراجل يرأسهم القائد سليمان باشا الفرنساوي المعروف بالكولونيل سيف. وفي سنة 1833م عيّن إبراهيم باشا محمود نامي بك محافظاً على بيروت وبقي كذلك حتى خروج الجيش المصري منها سنة 1840م. وشكّل الثالوث محمود نامي بك وسليمان باشا وهنري غيز الذي كان قنصلاً لفرنسا في بيروت قاعدة هرم النفوذ الفرنسي في المدينة التي استقطبت المجتمع المخملي والتجار الأوروبيين. مما يمكن اعتباره بداية تركيز المصالح الفرنسية والنفوذ الفرنسي في بيروت ولبنان الذي قد يكون أحد الأسباب التي مهّدت للإنتداب الفرنسي سنة 1918.

لكي يمكن فهم قوة النفوذ الفرنسي في حاشية إبراهيم باشا الذي انتقل معه الى بيروت يقتضي النظر في مراحل إنشاء الجيش المصري والإصلاحات التي قام بها والده محمد علي باشا الذي تولّى ولاية مصر سنة 1805م والإشارة الى الرجال الذين شكّلوا حاشيته. كانت أصداء جيش نابوليون قد وصلت إلى أسماع محمد علي، وأتيحت له سنة 1801م عندما وصل الى مصر، فرصة التعرّف عن قُرب الى جيش نابوليون ومراقبة أسلحته وكيفية بلائه في محاربة المماليك والإنتصار عليهم. وكان والي مصر قبل محمد علي قد أبقى عدداً من ضباط الجيش الفرنسي في خدمته. وأدرك المحيطون بمحمد علي إعجابه بنابوليون فكانوا يتقرّبون منه بإقناعه بأنه نابوليون الثاني. وقد أمر محمد علي بترجمة سيرة نابوليون الى التركية وطبعتها مطبعة بولاق سنة 1920م.

اتخذ محمد علي الجيش الفرنسي مثالاً له ينسج على منواله. وكان دروفيتي Drovetti قنصل فرنسا العام في القاهرة مقرّباً من محمد علي الذي طلب منه النصيحة، فاقترح عليه الجنرال بواييه Boyer أحد ضباط حملة بونابرت على مصر ليكون مستشاراً لمحمد علي للشؤون العسكرية (نشر الدكتور عادل إسماعيل عدداً من رسائل بواييه) وليواكب استقبال الضباط الفرنسيين الذي سيعهد إليهم مهمة تنظيم الجيش المصري وتدريب أفراده. وجاء مع بواييه الى مصر كولونيل المشاة غودان Gaudin والشقيقان دوتارليه وليفرون Livron ودخل بريس دافن Prisse d’Avenne (1807- 1879م) في خدمة الباشا، فعيّنه مهندساً للري ثم استاذاً للطوبوغرافية في مدرسة المشاة، ثم مربياً لأبناء إبراهيم باشا، وقد عرفته العامة في مصر بإسم إدريس أفندي (ويعود الى بريس الفضل في انجاز أطلس مشهور في ثلاثة مجلدات من الحجم الكبير عنوانه «الفن العربي» يضم مجموعة لوحات عن الفن الإسلامي).

تولّى سليمان بك الفرنساوي وعرف بالكولونيل سيف – رئاسة أركان الجيش المصري وهو أوكتاف جوزف انتيلم دي سيف (O.J.A. de Seves) ولد في مدينة ليون سنة 1788. شارك كضابط في الجيش الفرنسي في عهد الأمبراطورية في معركتي واترلو والطرف الأغر، وكان في طريقه الى فارس ليعمل مع الشاه حين توقف في مصر سنة 1819م ليعمل عند محمد علي ويلقّب بإسم سليمان باشا الفرنساوي. من أحفاده الملكة نازلي والدة الملك فاروق.

وفي سنة 1829م أحضر محمد علي من مدينة طولون الفرنسية المهندس سريزيCerisy (لويس شارل لوفيبور دي سريـزي) وجعله رئيساً على ترسانة الإسكندرية لصناعة السفن. ثم أنشئت المدرسة البحرية المصرية واقتبست نظاماتها من نظم المدارس البحرية الفرنسية. ومن العاملين في محيط محمد علي باشا وعلى اتصال بحاشيته لامبير بك، وهو مهندس فرنسي عيّن ناظراً لمدرسة المهندس خانة واشترك بدراسة مشروع القناطر البحرية. وجوميل فرنسي عمل في تنظيم مصانع النسيج. وهامون طبيب بيطري فرنسي نظم مدرسة الطب البيطري. وكلوت بك Clot الذي أسّس مدرسة الطب التي نقلت فيما بعد الى قصر العيني. ومنهم لينان دي بلفون مهندس الري. والمهندس باسكال كوست الذي بنى قصر محمد علي في شبرا.

محمود نامي بك الشهير بجركس

وكان محمود نامي بك الشهير بجركس من ضباط المدرسة البحرية ومقرّباً من محمد علي فانتخبه هذا الأخير مع بعض ضباط البحرية وأرسلهم الى فرنسا فتخصّص في الهندسة والرياضيات. واطّلع محمود نامي بك عن النظم الإدارية الفرنسية وحين عيّن محافظاً لبيروت نظم إدارة المدينة، فقام بتأليف مجلس شورى بيروت وديوان الصحة وديوان التجارة برئاسته. وفي عهد محمود نامي بك ازدهرت تجارة بيروت واتخذ كثير من التجار الأجانب بيروت محل إقامة له ولتجارته وتم توسيع الميناء. وجرى بالتنسيق مع القنصل الفرنسي هنري غيز إنشاء المحجر الصحي شرقي قلعة بيروت سنة 1834 (عند نقطة ميناء العقارب) الذي غلبت عليه شهرة «الكرنتينا» وسميت المحلة المعروفة بهذا الاسم. واللفظة من الفرنسية Quarantaine لأن مدة العزل الصحي في المحجر كانت تصل الى أربعين يوماً. وكان البيارتة أقاموا سنة 1860م في محلة الكرنتينا «دار الشفقة» برئاسة مفتي المدينة في حينه الشيخ محمد المفتي الطرابلسي الأشرفي وذلك إسهاماً منهم في إغاثة وإسعاف الذين لجأوا الى بيروت هرباً من فتنة الجبل. 

وكان الكونت دي لافرته Conte de la Ferte والكونت دي لامون Conte de Lemont قد أسّسا سنة 1836م معملاً لحل الحرير في حي الدحداح (الى الشرق من مبنى وزارة المالية الحالي من شارع بشارة الخوري). كما أسّس السادة نقولا وجورج بورطاليسPortalis سنة 1838م معملاً استحضروا له عدداً من الصنّاع الأوروبيين المهرة. كما أسّس الفرنسي جرتوس سنة 1861م معملاً للكبريت، التي شاعت في المدينة والرامية الى تحرير العبيد.

ولما حضرت الأم جيلاس رئيسة راهبات المحبة الى بيروت ومعها راهبتان أعطاهن بورطاليس منزله في المدينة لمدة تسعة أشهر، وكان للأم جيلاس في بيروت أعمال تُذكر فتُشكر، استحقّت عليها حب الأهالي واحترامهم، منها أول مستشفى فرنسي، وقد أدركنا شخصيا دير الراهبات التي بنته في بيروت وحلّت محله بناية العازارية اليوم.

استقطب محمود نامي بك وجهاء بيروت وأعيانها وتجارها، كما عقد صداقات مع التجار الأجانب وقناصل الدول. يذكر انه أثناء حكم محمود بك لبيروت أنجب في 27 ذي الحجة 1254هـ (آذار 1839م) ابنه إبراهيم فخري بك الشهير بفخري بك.

ويذكر ان الداماد أحمد نامي بك – حفيد محمود نامي بك – عيّنته فرنسا أثناء انتدابها على سورية رئيساً للدولة السورية. ومَهرَ فخري بك في علم الهندسة وجال الأقطار الأوروبية فأتقن لغاتها وشاهد ما فيها من إصلاحات وتحسين، وكان قدر بيروت ينتظر تعيين مدحت باشا والياً على سورية – وكان فخري بك مقرّباً منه – لينطلق إصلاحها. وعيّن فخري بك سنة 1878م رئيساً لمجلس بلدية بيروت. وقد أوصى محمود نامي بك أن يدفن في بيروت.

فخري بك

وفي سنة 1888م جاء فخري بك من مصر مصطحباً جثة والده واتخذ له مدفناً مخصوصاً تعلوه قبة قريباً من مقام الإمام الأوزاعي، وكان فخري بك على صداقة متينة مع الجالية الأوروبية في بيروت لا سيما مع الفرنسيين. واهتم بتنظيم ساحة البرج وتحويلها كالحدائق الأوروبية وأرسل الى فرنسا بطلب مصابيح لإنارتها وفتح اكتتاباً للتبرع بالنفقات، فكان من المتبرعين الفرنسيان: اوبان صاحب المحل المعروف في السوق الطويلة، والكونت برتوي. كما شجع على إنشاء بورصة بيروت التي ظهرت الحاجة إليها نتيجة تطوّر الرأسمال الأجنبي التجاري، فاجتمع في آخر شباط سنة 1879م بعض أعيان التجار في مركز عمل السادة سرسق ودباس وشركاهم في بيروت وتدارسوا في إنشاء «بورس» Bourse وعيّنوا لجنة لتحضير إنشائها برئاسة الفرنسي ادمون بيرون وعضوية الفرنسي كريستيان مدير البنك العثماني وقرروا فتح بورصة سمّوها «بورس بيروت» وعقدت أول اجتماع لها في 15/3/1879. فأقرّ نظام البورصة وانتخب ادمون بيرون رئيساً لها. 

تجدر الإشارة الى انه أقيمت ليلة 18 كانون الثاني 1867م ليلة رقص مختلطة «فرانماسونيه» في محل اجتماع التجار بخان انطون بك، وفرض على الماسونيين حضورها بملابسهم الرسمية، وقد زيّنت الدار بالأنوار وأعلام الدول وحضرها والي سورية والقناصل وأعيان المدينة من الوطنيين والأجانب ودامت حتى الصباح.

منتدى سركل سورية

وتأسس في بيروت سنة 1883م منتدى اجتماعياً بإسم «سركل سورية» تألفت لجنة تأسيسية له من فخري بك رئيساً والفرنسيين كريستيان وبيرون نائبين للرئيس. وفي هذا النادي عقد اثنان وسبعون تاجراً اجتماعاً لإصلاح الخلل في موضوع الرسوم التي كانت تستوفيها السلطة على البضائع والأمتعة. ارتجل فيه اسكندر العازار خطاباً بيّن فيه حالة بيروت وأهمية مركزها التجاري وقام سليم نجار بترجمة الخطاب الى الفرنسية وانتهى الإجتماع بتأليف لجنة من اثني عشر عضواً، أربعة منهم كانوا فرنسيين.

تقتضي الإشارة الى ان تجارة الحرير أسهمت في توثيق العلاقات بين التجار الوطنيين والبيوت التجارية الفرنسية لا سيما أن الجزء الأكبر من تجارة الحرير كان مع تجار ليون الذين عيّنوا وكيلاً لهم في بيروت المدعو ارليس دو فور Arles du Four. كما قام تجار ليون سنة 1883م بإنشاء مكتب للمعلومات والبريد في بيروت ليكونوا على اتصال مع عملائهم المحليين.

إلا ان شهرة الكونت دي برتوي في بيروت وأعماله فاقت شهرة باقي الفرنسيين. هو إدمون دي برتوي Edmond De Perthuis إبن حاجب الملك لويس فيليب ولادته من بيت عريق النسب، قَدِم الى بيروت أول مرة سنة 1855م فتجوّل فيها وفي ضواحيها ثم سار الى دمشق فرأى ما بينهما من علاقات، فأدرك حاجتهما الى الطرق. فتوجّه سنة 1857م الى الأستانة ونال امتياز طريق الشام وحصل على فرمان بذلك وعاد الى بيروت حيث باشر العمل في الطريق سنة 1858م. وأقام برتوي في بيروت عشر سنوات، وكان عضواً عاملاً في مجلس بلدية بيروت الأول، وذلك قبل تشكيل الأنظمة البلدية وهو الذي حضّ الأهالي على إنشاء الطرق داخل البلدة. وسعى برتوي في جر مياه نهر الكلب الى بيروت ونال الإمتياز بذلك بإسم الفرنسي تفنين. ووجّه برتوي اهتمامه الى مرفأ بيروت، فاستقدم سنة 1863م مهندساً فرنسياً لدرس مشروع توسيعه، إلا أن الكونت لم يصادف التسهيلات اللازمة فصرف النظر عنه . 

مدحت باشا والياً على سورية

وإثر تعيين مدحت باشا والياً على سورية ووصوله الى بيروت سنة 1879م أعيد البحث بموضوع توسيع المرفأ، بهمّة وسعي فخري بك رئيس المجلس البلدي، فتقرر تسليم التعليمات الى الكونت دي برتوي. إلا ان اغتيال السلطان عبد العزيز واتهام مدحت باشا بالاشتراك به ونفيه وسجنه، جعلت المشروع ينام في أدراج قصر يلدز. وفي سنة 1887م منح امتياز المرفأ الى يوسف المطران الذي نقل المقاولة الى شركة فرنسية وكانت هذه عارفة بنشاط الكونت دي برتوي ومعرفته بأحوال البلاد فعهدت إليه برئاسة العمل فحضر وباشر عمله سنة 1893م. وبلغت مدة إقامة دي برتوي في بيروت 31 سنة. وحاز ثروة كبيرة. وكانت استثمارات الفرنسيين تتعاظم سنة بعد سنة وذلك إضافة الى التجار الفرنسيين الذين أسّسوا محلات لهم في المرفأ والسوق الطويلة وغيرها. ففي سنة 1889م باشرت شركة غاز بيروت العثمانية وهي شركة فرنسية بمد أنابيب غاز الى البيوت – كانت بيروت أول مدينة في البلاد العربية يمدّ الغاز الى بيوتها بالأنابيب – ثم بدأت الشركة المذكورة بانتاج الثلج الإصطناعي واستعانت بالدكتور دوبران الذي كان أستاذاً للطب في كلية القديس يوسف لإعطائها شهادة بصحة ثلجها وصلاحه للاستعمال. (ولا يزال منزله موجوداً في محلة كركول الدروز وكان مقرا لمدرسة ليسيه عبد القادر).

فلا غرابة بعد سقوط الدولة العثمانية سنة 1918م أن يتوّج النشاط الأوروبي عامة والفرنسي خاصة بمنح فرنسا الإنتداب على لبنان. أما المقارنة بين الدور الفرنسي قبل الإنتداب وبعده فله محل آخر.

_____

مؤرخ/ عضو شرف جمعية تراثنا بيروت

ملف “أيام بيروتية”

3 تشرين الأول/ أكتوبر 2020

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website