بيروتلي عرب محيي الدين من البسطة إلى جناق قلعة

ميرلاي عثماني من بيروت. تلوين جمعية تراث بيروت.
عبد اللطيف فاخوري*

أسرة جلول من أسر بيروت العريقة، عُرف منها أحمد جلول أحد أعضاء مجلس المشورة التي شكّله إبراهيم باشا سنة 1832م برئاسة محمود بك. وقد عرفت محلة داخل بيروت بإسم محلة جلول قرب كنيسة الموارنة وجامع التوبة، وقد تكون منسوبة الى أحمد المذكور، وكانت تلك المحلة تحتوي على دار كبيرة مشتملة على سبعة أماكن ومطبخ وفسحة وبئر ماء نابع يملكها عبد القادر آغا ابن السيد أحمد جلول، باعها سنة 1284هـ/ 1867م الى الحاج محمود ابن الحاج محمد الكنفاني بمبلغ أربعة عشر ألف قرش.

وعرف من أبناء الأسرة محمد جلول الذي عثر سنة 1886م بأرضه في محلة الباشورة على دفينة، وصل خبرها الى السلطة فحضر المدعي العمومي الشيخ سعيد الجندي واستجلب الدفينة فتبيّن انها من المسكوكات الرومانية الفضية وبلغ عددها 977 قطعة، منها 497 قطعة صغيرة و480 قطعة كبيرة، وبلغ وزنها جميعها أربع أقات.

واشتهر من أبناء الأسرة المناضل الوطني القبضاي أحمد جلول والشاعر الزجلي عدنان جلول الذي أصدر سنة 1989م ديوانه الثاني بعنوان «كشكول الزجل».

ومن أبناء أسرة جلول محيي الدين، كان نحيل الجسم عصبي المزاج، انتسب الى مدرسة (كتّاب) المعلم عيسى قاسم (كتوعة) في محلة الحدرة (الى الجنوب من الجامع العمري الكبير).

وكان عمر فاخوري أحد رفاقه فيها، حفظ بعض سور من القرآن الكريم، وألمّ بالقراءة والكتابة والحساب، وامتاز عن رفاقه في الكتّاب بأنه كان يجيد الجري بسرعة فلم يكن يجاريه فيه أحد، وبحبّه للسباحة. وانتقلت أسرة محيي الدين جلول الى محلة البسطة الفوقا (بجوار المخفر) فنشأ على عادة شباب المحلة، شجاعاً مغامراً يأبى الضيم وينشد الحرية.

ودخلت الدولة العثمانية الحرب سنة 1914م فتمّ تجنيد محيي الدين وسيق مع رفاقه المجندين الى محطة القطار في مرفأ بيروت تمهيداً لنقلهم الى دمشق، التي كانت مركز توزيع المجندين.

وتبادل المجندون أخبار من سبقهم ممن شاركوا في حروب سابقة، كالشباب البيارتة الذين استشهدوا في حروب القرم والبلقان في مدن بلافنة وروسجق وفيدن والجبل الأسود وغيرها. وعندما تجاوز القطار مدينة عاليه وصار يسير صاعداً ببطء، اتفق محيي الدين ورفاقه على الهرب. ففتحوا باب المقطورة التي تقلّهم وقفزوا منها وتوزعوا في الأودية والتلال. ولدى وصول القطار الى دمشق واكتشاف فرار المجندين، عممت أسماؤهم وأوصافهم على المخافر من أجل توقيفهم وسوقهم الى دمشق، وسيّرت السلطة العسكرية دوريات في بيروت للبحث عنهم.

وصل محيي الدين جلول الى بيروت سيراً على الأقدام وقصد بيت أهله في محلة البسطة. وبقي فيه متخفياً حوالي شهرين، الى أن أعتقد أن الأمور قد هدأت فخرج الى حلاق المحلة سائراً بين الزواريب وفجأة وقفت في وجهه مفرزة من الجنود من شعبة كانت تسمّى شعبة «أخذِ عسكر» برئاسة قائدها الضابط حسن حسني، وسأله «نارده وثيقة» أي أين وثيقة التجنيد، وقد رسخت هذه العبارة الأخيرة في الذاكرة وغدت موضع تندّر، وبالسرعة التي يتمتع بها محيي الدين قفز بين رباع الصبّير وجرى بين الأزقة الى بيته. إلا ان الأمر لم يطل حتى شاهده الجنود في دكان قرب بيت أهله فقبض عليه وسيق الى دمشق ومنها الى حلب.

وأرادت القيادة العسكرية أن تعاقبه على فراره المتكرر من الخدمة العسكرية، فأصدرت الأمر بإرساله الى جبهـة «جناق قلعة» عند مضيق الدردنيل والتي دارت فيها في آذار 1915م أعظم معركة من معارك الحرب العالمية الأولى، فقد كانت خطة الحلفاء تقضي بالإستيلاء على هذا المضيق لأنه مدخل بحر مرمرة ومنه الى العاصمة العثمانية اسطنبول، وانضم محيي الدين الى الفرقة المقاتلة المؤلفة من ألفي جندي اتخذوا موقعهم في خنادق ولذلك سميت حرب الخنادق.

وكان الحلفاء قد انزلوا قواتهم عند البر التركي المواجه لمضيق الدردنيل وحفروا خنادق، وكانت أسلحتهم متفوّقة على أسلحة العثمانيين، ووقعت معركة ضارية بين الفريقين سجلها التاريخ بالنظر لعدد الضحايا التي خلّفتها. ويروي محيي الدين جلول: «صدرت لنا الأوامر بالهجوم العام إلا ان رشاشات ومدافع الحلفاء حصدت المئات من حولي ووقع أمامي قائد الفرقة وبقينا نتقدّم رغم خسائرنا حتى وصلنا الى خنادق الأعداء واستعملنا فيهم السلاح الأبيض… واعتقدت بأنني نجوت وتلفّت حولي عندما أحاط بنا الأعداء وأسرونا وأخذونا الى معسكرات الأسرى…».

وتحيّن محيي الدين الفرصة فتسلل من الشريط الشائك وجرى بأقصى سرعة حتى وصل الى تخوم قرية كانت بحماية الجيش العثماني، فأكل من بساتينها ما وجده من خضار وفاكهة واستولى على حمار صار يحمل عليه ويبيع ما يحصل عليه من ثمار وخضار. الى ان وصلت أخباره الى السلطة العسكرية فقبض عليه وأحيل الى المجلس العرفي بتهمة الفرار من الجندية. وصدر حكم بإعدامه خفّف الى السجن المؤبد، وصار لقبه «بيروتلي عرب محيي الدين». وأودع سجن القرية التي ما لبثت أن هاجمها الانكليز وتركتها الحامية العثمانية فهرب من السجن الى الجبال، وأثناء تجواله قبض عليه خيالة عثمانيون وأحيل الى القيادة التي احتارت بأمره إلا ان القائد الأعلى أدرك مواهب محيي الدين وجرأته ومغامرته فقرر إرساله الى جبهة فنحت بجوار مدينة أزمير التي كان الحلفاء يسعون لاحتلالها عن طريق البحر.

محيي الدين جلول ومعركة ازمير

ويصف محيي الدين جبهة ازمير فقال «كان عددنا لا يتجاوز الخمسمائة جندي ليس بينهم عربي غيري. أخذونا الى مسافة تبعد مئة متر من الساحل وأمرونا بحفر خنادق بشكل أهلّة وتم توزيع المدافع الرشاشة في الخندق الأول ومدافع الميدان بعدها وفي الآخر وضعت المدافع البعيدة المدى» ويتابع قائلاً «وضع الضابط الصرّة التي تحتوي رواتب الضباط والجنود على طاولة تمهيداً للدفع إلا ان الصخرة التي وضعت عليها الطاولة انهارت فجأة وسقطت الصرّة في البحر، وكنت الوحيد الذي يجيد السباحة وعرضت إنقاذها فقال لي الضابط: إذا أخرجتها فلك مكافأة مالية ووجبة ضابط في الجيش من اللحم والخبز الأبيض». وغاص محيي الدين في البحر وأخرج الصرّة بين تصفيق الجنود وإعجابهم وصار الصديق الوفي لهم وأخذوا يرقصون وينشدون. ويتابع محيي الدين «اختفت المدافع في الأرض ولم يعد يظهر منها سوى فوهاتها ثم وضعنا فوق الخنادق ألواحاً من التوتيا وفرشنا الأتربة فوقها ثم زرعنا الأتربة بالحشائش، وقال لنا الضابط: ستحضر بارجة انكليزية وستحاول إنزال العسكر الى البر لاحتلال المدينة فعليكم الاختفاء في الخنادق وإياكم أن تطلقوا طلقة واحدة إلا بأمري. وأعطانا رموز الإشارة بذلك، وأمر الجنود بوضع كمية من الليمون البرتقال في المراكب الراسية عند الشاطئ كطُعم للقادمين».

وبعد يومين ظهرت البارجة في ساحل ازمير واقتربت وأنزلت زورقاً أخذ يطلق النار على الساحل ولما لم يجد حركة أو جواباً نزل الجنود منه وتجمعوا حول مراكب الليمون فرحين، وأشاروا الى البارجة فتقدّمت قرب الساحل وأطلقت مدافعها في مواقع بعيدة عنه فلم يجبها أحد فاطمأنت وأنزلت جنودها نحو البر، وهنا يقول محيي الدين «أمر القائد التركي بإطلاق المدافع وفقاً للترتيب التالي: تتكفل الرشاشات بالزوارق ومن فيها ممن أنزل الى البر، وتقوم المدافع الثقيلة بقصف البارجة، وكانت مدفعيتنا ماهرة بالتصويب فأصابت البارجة وفتحت فيها ثغرة فاختلّ توازنها وبدأت تغرق وخرج العسكر منها. فهجمنا عليهم بالسلاح الأبيض وأخذناهم أسرى مع الربان الذي وصل الى الشاطئ سباحة وعلى كتفه كلبه المدلل وسقناهم نحو القيادة وكان عددهم ثلاثين جندياً». وسرّت الدولة بالنصر ومنح كل جندي ومنهم محيي الدين الوسام العثماني المجيدي مع براءة خطية باسمه وعشر مجيديات.

الخوجه (المعلم) محيي الدين شيخ القرية وإمامها

واعتاد محيي الدين على المغامرة وأثناء إعطاء الجنود إجازة بإسم «تبديل هوا» حتى وجدها فرصة سانحة للهرب ولكن ما لبث ان قبض عليه ورأى المجلس العرفي نفيه الى قرية نائية في داخل الأناضول مع الطابور الذي كان يطارد الفارين والعصاة والمجرمين، وأصيب بحمى التيفوئيد فأدخل المستشفى للمعالجة وقبل خروجه من المستشفى توفيت والدة قائد الفرقة الذي أخذ يبحث عن شيخ يقرأ القرآن في غرفة المتوفاة، وذكر له البعض انهم سمعوا البيروتي يقرأ القرآن، فاستدعاه وأمره بالتلاوة طيلة اسبوع، فقرأ بصوت رخيم ما حفظه في كتّاب المعلم عيسى قاسم، وبعد الاسبوع تمنّى أهل القرية على القائد إبقاء خوجه محيي الدين إماما لقريتهم فألبسوه جبة الشيخ المتوفى وعمامته وجعلوه الإمام والمقرئ والمؤذن واعتقد سكان القرية بحسن طويته.

واشتاق محيي الدين الى أهله وبلده، فسار عبر الجبال الى حلب ثم وصل بعد أيام الى بيروت الى بيت أخته وبعد شهر تقريباً من وصوله أعلنت الهدنة وانسحبت الحامية التركية من بيروت. وقد روى كل ما مرَّ معه من مغامرات وما شهد من معارك وأهوال في جناق قلعة وفي ازمير الى نسيبنا ابن شقيقته القاضي محمود نعمان والذي بدوره رواها لنا. وهي الرواية الوحيدة تقريبا ممن شارك في حملة ازمير وجناق قلعة من البيارتة الذين استشهد منهم كثيرون، وأقيمت لهم مع بقية أقرانهم الشاميين مقبرة خاصة ضمن المقبرة العامة.

_____

مؤرخ/ عضو شرف جمعية تراثنا بيروت

ملف “أيام بيروتية”

10 تشرين الأول/ أكتوبر 2020

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website