الدكتور وجيه فانوس*
لقد تنوَّعت توجُّهات البحث التَّأريخي لمدينة بيروت، منذ المحطَّات الأولى لأربعينات القرن العشرين؛ فَلَئِن شَهِدَت، عشرينات القرن، جهوداً من الاهتمام التَّأريخي، التي ركَّزت إضاءاتها المعرفيَّة على الجوانب الرُّومانية والبيزنطيَة، من وجود المدينة؛ فإن أربعينات هذا القرن، بدأت تشهدُ لانشغالاتٍ تأريخيَّةٍ اهتمَّت بالتَّنوير على الجوانب العربيَّة والعثمانيَّة، من وجود المدينة. وقد يكون ثمَّة فاعليَّة واضحة، في هذا المجال، تعود إلى نَيْلِ لبنان الاستقلال، سنة 1943؛ وما تلا ذلك، مِن ظهور قويٍّ للاهتمامات البحثيَّة الوطنيَّة، بعيداً عن المفاهيم التَّثقيفيَّة، التي كانت مهيمنة، منذ مطلع عشرينات القرن، زمن سلطة الحكم الانتدابي الفرنسي ومفاهيمها. صار من الطَّبيعي، في هذه الحال، العمل، الموضوعي والعلمي، على إظهار الهويَّة التَّأريخيَّة الفعليَّة للبنانيين، الذين منذ أن ضمَّهم جناح «دولة لبنان الكبير»؛ وقد بات لهم، مع زوال سلطة الانتداب، وجودهم الوطني المستقل، بدءاً سنة 1943؛ بل صار، لزاماً عليهم، الخوض العلمي المنهجي، في ساحات مسؤوليَّة تأريخ شخصيَّتهم في الوطن، عبر وجودهم الحقيقي والعملي في آن.
وضع عبد القادر قبَّاني، بدايةً، عرضاً نشره في مجلَّة «الكشَّاف»، سنة 1927، موضوعه «بيروت: حياتها وتحوُّلاتها»؛ وهو عرض ذو اهتمامٍ تأريخي اجتماعيٌّ، ولعل فيه ما يُعتبَرُ إحدى بذور الدِّراسات التَّاريخيَّة الاجتماعيَّة، في نموِّ المدينة. وكان أن تابع، جورج يزبك، في السَّنة التَّالية، على هذا المنوال من الدرس التَّاريخي الاجتماعي؛ فنشر، سنة 1928، في مجلَّة «الكليَّة»، مقالاً موضوعه «الخدمة العسكريَّة في بيروت سنة 1253 هجريَّة». ونشر، شفيق طبَّاره، بعد هذا بحوالي ربع قرن، مجموعة من المقالات التَّأريخيَّة والتَّاريخية، معاً، بين سنتي 1955 و1957، في مجلَّة «أوراق لبنانيَّة»؛ تناول فيها بعض المواقع المكانيَّة في بيروت، ومنها سور المدينة وأبوابها، وبعض معابدها ومزاراتها، وكذلك المناطق القديمة المحيطة بها، والتي صارت جزءاً لا يتجزَّأ منها. ولعل المرء لا يجافي الواقع، في نظره إلى هذه الأعمال، على أنَّها من باب محاولات التَّأريخ التَّوصيفي المباشر؛ إذ يجد أنَّ معظمها نحا، في كثيرٍ من جوانبه، إلى الوصف المباشِر، وقلَّ أن اعتمدّ التَّوثيق الدَّقيق، أو وصل إلى ساحات التَّحليل المعمَّق والاستنتاج الأكَّاديمي الرَّكين.
قامت زاهية قدُّورة، سنة 1979، بخطوة تأسيسيَّة، في مجال تظهير تأريخ بيروت؛ إذ عمدت إلى كتاب «تاريخ دمشق»، لابن عساكر، المتوفَّى سنة 1167، واستخرجت منه، في جهد تجميعيٍّ توثيقيٍّ معتبر، ما رأته يتعلَّق بمدينة بيروت، في القرنين الأول والثَّاني للهجرة. وانشغل، من جهتهِ، الشَّيخ طه الوَلي، بين سنتي 1973 و1993، بوضع عملين تأسِّيسيَّن، أحدهما «تاريخ المساجد والجوامع الشَّريفة في بيروت»، وثانيهما «بيروت في التَّاريخ والحضارة والعمران»؛ فيكون، بهذا، من الرُّواد الذين اعتنوا بتأريخٍ للمساجد في بيروت؛ كما يكون من التَّاريخيين، الذين سعوا إلى البحث في موضوع حضاري تاريخي يتعلَّق بالمدينة. ولئن كان عمل زاهية قدُّورة، هذا، قد اتَّسم بالبُعد الأكّاديمي في وضع ما استخلصته من «ابن عساكر»، وترتيبه وعرضه؛ فإنَّ ما قدَّمه الشَّيخ الوَلي، اتَّسم بغلبة الوفرة المعرفيَّةِ، القائمة على السَّرد التَّوصيفي، على حسابِ كثيرٍ من مجالات التَّحليل المعمَّق والاستنتاج الرَّصين.
تمكَّن حسَّان حلاَّق، بين سنتي 1985 و1987، من تقديم خدمة أساسٍ، إلى البحث التَّأريخي للمدينة، إذ استعان بـ«سجلاَّت المحكمة الشرعيَّة في بيروت». تتَّضحُ أهميَّة هذا الأمر، في ما تحويهِ هذه السِّجلات، بحكم طبيعة مادتها، من وثائق، تُشير إلى أحداثٍ عديدةٍ ومتنوِّعةٍ؛ كما إنَّها ترصدُ معاملاتٍ كثيرةٍ ومتعدِّدة، وتذكُر، كذلك، مواقع غفيرة لأماكن ومطارح وساحات. لا بدَّ من الملاحظة، ههنا، أنَّ هذه السِّجلاَّت، لا تقف عارية في فضاء تاريخ بيروت، بل تتجلبب بذكرِ أناسٍ، من المسلمين وسواهم، ممَّن ارتبطوا بأحداثها وشهدوا على أمورها وسعوا في مناكب بنيانها. هذه، في واقع الحال، سجلاتٌ مَكْمَنٌ لوثائقَ ذات أبعادٍ اجتماعيَّة وتجاريَّة عامَّة. المؤسف، في أمر هذه السِّجلات، إنَّها تقتصر على شمولها الزَّمن البيروتي، بدءاً من سنة 1843 للميلاد، ولا تذهب إلى ما هو قبل هذا التَّاريخ؛ وأنَّ كثيراً من هذه السجلاَّت، ما برح ينتظر من يتابع العمل على تحقيق مواده وتوثيق أحداثه وتحليل مضامينه، ليتم استناج أغمار كبرى، ما برحت غائبة، من تاريخ المدينة. ولذا، فإنَّ الحسرة تبقى دائمةً، في التَّساؤل، العلميِّ والوجدانيِّ، عن مصير سجلات السَّنوات التي سبقت، وما يمكن أن تحويه من وثائق وشهادات. ولقد أصدر حلاَّق في مجال بيروت، «أوقاف المسلمين في بيروت في العهد العثماني»، و«التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في بيروت والولايات العثمانية في القرن التاسع عشر»، و«بيروت المحروسة في العهد العثماني».
شهدت سنوات الثَّمانينات، من القرن العشرين، وما بعدها، مساهمات وفيرة من العمل على تأريخ بيروت، والإشارة إلى ملامح حيويَّة من وجودها الاجتماعي؛ ولعلَّ ما وضعه كمال جرجي ربيز، سنة 1986، في كتابه «رزق الله عهيديك الإيَّام يا راس بيروت»، يقف علامة بداية الاهتمام باستعراض جوانب من التَّاريخ الاجتماعي للمدينة، وتحديداً بملامح من التَّأريخ الشَّعبي لبعض مجتمعها. ويقف عبد اللَّطيف فاخوري، في هذا المجال، رائداً، ينماز باعتماده على كثير من المرويَّات والأخبار المتوارثة، من جهة، وعلى ما استعان به من «سجلاَّت المحكمة الشَّرعيَّة في بيروت»، وكذلك، على خبرته المباشِرة في الموضوع البيروتي، ومع من تعاون معهم من الثّقات في معرفتهم للمدينة وناسها وأحداثها. أصدر عبد اللَّطيف فاخوري، سنة 1995، مع مختار عيتاني، كتاب «بيروتنا»؛ كما أصدر لاحقاً، مجموعات عديدة من الأعمال التي سعى عبرها إلى تغطية تأريخيَّة واسعة لجوانب اجتماعية وعمرانية من المدينة، في حقبة القرنين التَّاسع عشر والعشرين؛ منها، في سنة 2006، «تاريخ القضاء الشَّرعي في بيروت 1787-1917»، وسنة 2003، «منزول بيروت»، وسنة 2009، «البيارتة: حكايات أمثالهم ووقائع أيَّامهم»، وسنة 2018، «زوايا بيروت». ولئن كانت جهود عبد اللَّطيف فاخوري، هذه، تضع، بطابعها التَّجميعي والتَّكويني، مدماكاً أساساً في إنشاء مرتكزات معرفيَّة للتاريخ الاجتماعي للمدينة؛ فإنَّها تظلُّ دعوةً مفتوحةً للباحثين، في مجالات الدَّرس الاجتماعي، لينكبُّوا على ما تحمله من ذخائر معرفيَّة، تحليلاً وربطاً وسعياً إلى استنتاجات يمكن الاعتماد الأكاديمي عليها في كشف طبيعة المفاهيم الاجتماعيَّة للمدينة، والبيان الموضوعيِّ لِقِيَمِها ومدارت تطوُّر سلوكيَّاتِ ناسها وأفكارهم.
لا يخفى أنَّ كثيرين تابعوا الجهود المضنية في البحث والكتابة والدراسة في مجالات التأريخ لبيروت؛ والعمل، تالياً، على الدَّرس التَّاريخي، للمتحصِّل من هذا التَّأريخ. والنَّتيجة، أنَّ المكتبة التَّاريخية للمدينة، وخاصَّة، ما يغطِّي منها الحقبات الممتدَّة من القرن الثَّامن عشر وحتَّى الوقت الحاضر، شديدة التَّنوُّع ووفيرة المعارف؛ تشهدُ لكلِّ مَن عمل في ساحاتها، بما قدَّم في مجالات اهتمامه بها.
يبقى، مع كلِّ هذا، أمر لا بدَّ منه، وهو كيف يمكن أن يُجْمَعَ شتات هذين الاهتمامين الأساسين، للخوض المعرفيِّ في ساحات وجود بيروت المتعدِّدة والمتنوِّعة، الممعنة منها في القِدَمِ وتلك النَّاهدة إلى المعاصرة والمشاركة في صناعة الزمن الراهن؟ فهل مِن جَمْعٍ ممكن لكلِّ هذه الوفرة المعرفية؛ وتخليصها، من ثمَّ، من تشتُّتها المعرفي ذي الغزارة والغنى؟ هل مِن من مؤسَّسةٍ أكاديميَّة، مدعومة بتمويل كافٍ لهذه المهمَّة، ومؤازرة بمجموعات متخصصة من الباحثين في شتى المحطات التَّاريخيَّة والموضوعات المرتبطة بها أو المنبثقة عنها، تجهد لجمع هذا تأريخ المدينة وتاريخها، من هذا الغنى الوفير الذي تحويه مكتبتها؛ وتسعى، من ثَمَّ، إلى سدِّ ما يمكن من الثَّغرات التَّأريخيَّة فيه، وما يجب التَّعامل معه من الأمور الأخرى في مجالات التَّاريخ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والعسكري، ناهيك بالفضاءات الثقتفية والأدبية والفنيَّة؟ هي ذي رؤية إلى نظامٍ معرفيٍّ موسوعيٍّ أكَّاديميٍ متكامل؛ تكون جمعاً موثَّقاً لتاريخ المدينة، كما تكون مصدراً مُعتَبَراً لمادتها التَّاريخيَّة المعرفيَّة، وكذلك، أداةً علميَّة يَسهُل الوصولُ إليها والتَّعامل معها، من قِبَل الباحث الأكاديمي والدَّارس العلمي، وكذلك من جهة القارئ ذي الاهتمام العام، أو المتحرِّي عن معلومة بحدِّ ذاتها؟
(وإلى اللقاء، مع الحلقة الرابعة والأخيرة: التَّوجُّهات المَوْسُوعِيَّة)
_____
*رَئيسُ المَرْكَزِ الثَّقافِيِّ الإِسْلامِيِّ
رَئِيسُ نَدْوَة العَمَلِ الوَطَنِيّ
صديق جمعيّة تراثنا بيروت