الدكتور وجيه فانوس*
أصدر هشام طالِب، سنة 2015، بجهدٍ فرديٍّ استغرق منه سنوات طويلة، أوَّل عمل موسوعيِّ يهتمُّ بتاريخ بيروت، «موسوعةُ الحنينِ إلى بيروت». تنهض، هذه الموسوعة على جزئين أساسين كبيرين، تضمَّن كلٌّ منهما مواداً معرفيَّة عديدة، سعى جامعها إلى ما أمكن من تغطية لأحداث تاريخيَّة ترتبط بالمدينة، منذ ماضٍ سحيق لها، إلى زمانها المعاصر؛ كما ضُمَّ، إلى هذين الجزئين، ملحقٌ منفصلٌ، يَضُمُّ لوحات فنيَّة وفوتوغرافيَّة، وسوى ذلك من أمور تشكيلية وبيانية عن بيروت. عمد طالب، في هذه الموسوعة، إلى توثيق كثير من مراجعه؛ كما دأب، في مرَّات كثيرة، إلى عرض مُسْتَلاَّتٍ مُصَوَّرةٍ لِبعض ما اعتمد عليه من وثائق وبيانات.**
إنَّ هذا السَّعي، الذي ما قام به هشام طالب، ههنا، بحكم تنوِّع هذه المادة، فضلاً عن ما تتحلَّى به مجلدات العمل الثلاثة، من أناقة طباعةٍ وإخراج وتجليد يغري، بشكل عامِّ، بالإقبال عليه والإفادة من مادته المعرفيَّة. واقع الحال، إن هذا العمل لهشام طالب، يتربَّع بكل جدارة سعيداً في حضرة القارئ الثَّقافي العام، أكثر مما يقدر على سد ثغرات ما قد يتطلَّبه عملُ الباحث، ذي الاهتمامات المختصَّة والدَّقيقة، والذي يستكنه ما وراء الحدث التَّاريخي، ويتطلَّع إلى ما قد يكون من تداعيات له ونتائج. يبقى عمل هشام طالب، الذي هو إعلاميٌّ محترف، وباحث موسوعيٌّ، رائداً، في مجال تنفيذ موسوعة لتاريخ بيروت، فاتح باب تجربة قيِّمة في الاجتهاد التاريخي الموسوعي عن المدينة؛ كما يقف شاهداً على غياب أي دعمٍ رسميٍّ أو مؤسَّساتيٍّ عامٍّ في هذا المجال.
أصدر عصام شبارو، سنة 2018، متابعةً منه لكتابات تاريخية سابقة له عن بيروت، صدرت بين سنتي 2000 و2017، منها، «عين المْرَيْسِه» و«جمعيَّة المقاصد الخيريَّة الإسلاميَّة في بيروت»، و«الرَّئيس عمر الدَّاعوق»، و«الرَّئيس صائب سلام»؛ موسوعةَ «المُطَوَّل في تاريخ بيروت»، بعشرة مجلَّدات، وفي 7048 صفحة، وضمن تسلسل زمنيٍّ استغرق ثماني حقبٍ تاريخيَّة مرَّت بها بيروت. قسَّم شبارو الحقب التاريخيَّة التي تناولها، ووفاقاً لما أعطاها من تسميات، «العصر الكنعاني-الفنيقي»، و«الحكم الرُّوماني-البيزنطي»، و«الدَّولة العربيَّة الإسلاميَّة»، و«الدَّولة العثمانيَّة»، و«الانتداب الفرنسي»، و«الجمهوريَّة اللُّبنانيَّة المستقلَّة»، و«الحرب الأهليَّة»، و«عصر الحريري». وكان أن خصَّص، المجلَّد التَّاسع من هذه الموسوعة، المؤلَّف من 788 صفحة، لاستنتاجات توصَّل إليها، وكذلك لفهارس تصنيفيَّة تفصيليَّة شاملة، تناولت ما ورد في الموسوعة، برمَّتها، من شخصيَّات، وأماكن ومواقع؛ بما في ذلك مقار النِّقابات والأحزاب والمؤسَّسات والملاهي والفنادق والمؤسَّسات الطبيَّة والثَّقافيَّة والتِّجاريَّة والمصرفيَّة، وسوى ذلك. ولم يكتفِ شبارو، بهذا جميعه، أردف، هذه الأجزاء جميعها، بالجزء العاشر، وقد ضمَّ 510 صفحات، خصَّه بِعرض صُوَرٍ توثيقيَّة، تدور حول ما دارت عليه موضوعات هذه الموسوعة.
الطَّريف في كلِّ هذا الجهد الموسوعيِّ الضَّخم، الغَنِيِّ بوفرة مادَّته المعرفيَّة،العظيمة الإحاطة، والشَّديدة التَّنوُّع والشُّمول والعميق التَّبحُّر والدَّقيقة في توثيقها لمصادرها ومراجعها، والإحالة الواضحة إلى مصادرها الأساس ومراجعها المعتبرة؛ أنَّ عصام شبارو، قام بعمله على هذه الموسوعة، جَمْعاً وتَوْثيقاً وتَصنيفاً وعَرضاً، ومِن ثمَّ، تحليلاً واستنتاجاً، طوال ست وعشرين سنة (1982-2008)، أضاف إليها عشر سنوات أخرى (2008-2018)، للمراجعة والطباعة وتدقيقها، بمفرده، وعلى نفقته، ومن دون أيِّ دعم مؤسَّساتي، رسميٍّ كان أو خاصٍّ. تأتي مكافأة شبارو، في كل هذا، أنَّه أوّل من أنشأ موسوعة معرفيَّة تأريخيَّة وتاريخيَّة، شاملة ومفصَّلة عن بيروت. ولئن كان المعلِّم بطرس البستاني، المتوفَّى سنة 1883، يعرف في بأنه أول من قام بمحاولة حديثة في اللغة العربية لإخراج دائرة معارف كبرى، إذ وضع، كما هو معروف، «دائرة المعارف – قاموس عام لكل فن ومطلب»، في 11 جزءاً، ولا يزيد مجموع صفحاتها عن 8,800 صفحة؛ فإنَّ عصام شبارو، يقف في السَّاحة المعرفيَّة لبيروت، خاصَّةً، وللبنان عامَّة، رائداً فذّا، في وضع موسوعة معرفيَّة علميَّة وتخصُّصِيَّة مُوَثَّقة، عن بيروت؛ بكل ما هو متوافقٌ عليه، بين الدَّارسين، من عصور تاريخيَّةٍ لها، وما في كلِّ واحد من هذه العصور من فترات وحقب ومحطَّات وشؤون وشواهد، وكذلك بما قد يتطلَّبه كلُّ أمرٍ من هذه الموضوعات، من توثيقٍ وتظهيرٍ وشواهد.
أيَّا كان الحالُ، مِن غياب للدَّعم الرَّسميِّ، أو المؤسَّساتي، أو حتَّى الشَّخصي الفرديِّ أو المُشْتَرَك، عن العمل في الميدان الموسوعي، التَّأريخي والتَّاريخي، لبيروت؛ فإنَّ هذين الجهدين الفرديَّين والشَّخصييَّن، لهشام طالب وعصام شبارو، يؤكِّدان أنَّ مسيرة البحث العلميِّ لا تتوقَّف، أيَّاً كانت الصُّعوبات التي يواجهها القائمون بها. واقع الحال، إنَّ هذا ليس بحال الباحثين الموسوعييِّن وحدهم، في مجال العمل على تاريخ بيروت؛ فإن الغالبيَّة العُظمى، ممَّن اشتغلوا على التَّأريخ لبيروت والبحث في تاريخها، ومنهم من ورد ذِكرهم في سِياق هذا العرض المبتسر؛ والذين شغلوا سنوات عمرهم بدراسة وقائع معيَّنة من هذا التَّاريخ، وقدَّموا لها ما تمكّنوا منه من تحليل وما استطاعوا الوصول إليه من استنتاجات؛ إنَّما قاموا بكلَّ ما قاموا به، بمبادرات فرديَّة منهم، وعلى النَّفقة الخاصَّة لكلِّ منهم، وكثيرٌ من أعباء هذه النَّفقات كان على حساب احتياجاتهم الخاصَّة.
خلاصة الأمر، إنَّ بيروت، سيِّدة العواصم ولؤلؤة تاجها، غاليةٌ جدَّاً على قلوب الخُلَّصِ مِن أبنائها، وغزيزة إلى درجة الوله المجنون، عند الأوفياء من ناسها، وأثيرة حتَّى على الذَّاتِ عند أهل العِلمِ، من قادري وجودها والمعترفين بأهميَّته وأحقَّيَّته. ولذا، فما مِن أحدٍ، سعى إلى جهد تأريخيٍّ أو تاريخيٍّ، للمدينة، إلاَّ وأغنى، بما أستطاع الوصول إليهِ، وجود بيروت؛ وكذلك الأمر، فإنِّ بيروت بادلت، وما برحت تبادل، كلَّ من أغناها، بذِكْرِها لهُ في رحابِ ساحاتِ وجودها وتاريخها؛ أحياناً، بمثل ما أغناها به، وفي أحيان كثيرة، بما هو أكثر وأكثر.
هُوَ ذا حُبٌّ لِلْمَدِينَةِ، مِنْ ناسِها، لا يَنْضَب؛ وهي ذي علاقةُ وَجْدٍ بِها لا تَنْتَهي؛ وجَميعُ هذا عِشقٌ لن يَتَوقَّف تأريخُ وقائِعِه، وسَيَسْتَمرُّ السَّعيُ الدّؤوبُ إلى تحليلِ أحداثِهِ ودراستِها، وسيبقى الكدُّ العلميُّ الرَّصينُ الطَّامحُ إلى تبيانِ ما في العِلم عن بيروت مِن أبعادٍ ومفاهيمَ وقِيَمٍ، منارةً لدروب البحثِ وهدايةً مشعَّةً لِأَهْلِهِ.
ستبقى بيروت جَهْدَ مثابرةٍ حبيباً وعزيزاً، في ساحات المعرفةِ، لتأريخ أساس وتاريخ غنيٍ، لن ينفذا أبداً إنَّه مدادُ حِبْرٍ، صَميمُ تركيبته الوَلَهُ بسيِّدة العواصم؛ وهذا الحِبرَ لن يجفَّ، على الإطلاق. إنَّ الحِبْرُ، الذي يؤرِّخ لبيروت ويكتب عن تاريخها، سيبقى أخضرَ مِعطاءَ؛ وستبقى أنهارٌ المعرفةِ، تَعُبُّ مِن روافدِ عطاءاتِ الباحثين في انفساحاتِ وقائعِ وجود المدينةِ وتمدُّداتِها، طولاً وعرضاً وعمقاً وفي الآفاق.
بيروت، يا غِنى العُمرِ وحلم الوجود. بيروت، مهما تَكَسَّرتِ النِّصالُ على النِّصالِ اليومَ، ونحن نعيشُ تعاسة هذا الزَّمَنِ المَنْكُودِ والقَنُوطِ والمُعْدَمِ، نعاني فيه العذاب والوجعَ؛ فإنِّي باقٍ على عِشْقِ تُرابِكِ، مُصِرٌّ على التَّعلُّقِ بِحنايا زواريبِ أحيائِكِ، لصيقٌ بمنعطفاتِ شوارِعِكِ وغائصٌ في احتشاد النَّاسِ في ساحاتِكِ وأسواقك. سأظَلُّ، يا بيروت، مُدْمِنَ الهَوَسِ بشخصيّاتِ تاريخكِ الشَّعبِيِّ، والباحث الدَؤوب في بطولاتِ مثقَّفيكِ ولُقى علمائك، الذين بنوا معارف عصرِك؛ وسأواظِبُ، مثلَ أيِّ تلميذٍ مُبتدئٍ، لا همَّ لهُ سوى الفَوزَ بإعجاب أساتذتهِ والحصولَ على مرضاة والديهِ جرَّاء نيله هذا الإعجاب، أن تكوني يا مدينتي، ويا عُمري، ويا منطلق حياتي، عنوانَاً لوجدانِ حضوريِّ الإنسانيِّ.
بيروت، لن يمكنني إلاَّ أن أبقى مُقيماً على شَغَفٍ نَهِمٍ مَجنونٍ، لن يُبارِح كياني، ما حَيِّتُ؛ بأن تظلِّي، دَوْماً وأبداً، سِتَّ الدُّنيا، وأظلُّ لكِ، هذا العاشقُ المُغرَمُ، بل الصَّبُّ والمُسْتَهام في هواكِ، والمتمادي في وَلَهِهِ، بكِ، هائماً مُدنَفاً بكلِّ ما في كيانهِ من وعيٍّ وجنون.
_____
*رَئيسُ المَرْكَزِ الثَّقافِيِّ الإِسْلامِيِّ | رَئِيسُ نَدْوَة العَمَلِ الوَطَنِيّ | صديق جمعيّة تراثنا بيروت
** ملاحظة من إدارة الموقع: يحتوي كتاب “الحنين إلى بيروت” على عدة أخطاء تاريخية أشار إليها المؤرخ عبد اللطيف فاخوري في رسالة له على صفحته بعنوان “ما هكذا يكون الحنين إلى بيروت”. هنـــا … فاقتضى التنبيه.