فشلت جميع المؤامرات التي حيكت ضد أحمد باشا الجزار، كما فشلت التحالفات ومحاولات التخلص منه، وفي اعتقادي ان ذلك عائدا الى انه كان مخلصا للدولة العثمانية ولمصالحها ولم يعمل لمصلحته الخاصة عكس ممارسات الأمراء والمقاطعجية الذين حكموا بيروت ولبنان بدءا من المعنيين الى الشهابيين الذين كانت نهاية حكمهم يوم دخول الجزار ومن معه من المغاربة الى بيروت سنة 1771م. فقد حاول أبو الدهب سنة 1771م اغتيال الجزار في مصر فهرب الى الاسكندرية ومنها الى الاستانة ثم انتقل الى حلب فالشام وحضر الى عند الأمير يوسف في دير القمر وصحبته مملوكه سليم وعبده «أبو الموت». فأرسله الى بيروت ولبث فيها مدة قصيرة ذهب بعدها الى دمشق. وتعرّضت بيروت لهجمات من الاسطول الروسي وأبلغ الأمير يوسف عثمان باشا والي الشام بالأمر فأرسل كاخيته وصحبته أحمد بك الجزار وثلاثمائة نفر من المغاربة الى الأمير يوسف الذي أرسلهم الى بيروت وتسلّمها الجزار رغم تحذير محمد آغا كاخية عثمان باشا للأمير يوسف من عاقبة «أمر الجزار». وكان أبو الدهب قد طلب من الأمير يوسف قتل الجزار لقاء مائتي ألف ريال فردّ الأمير بأنه يخاف من ملامة الدولة كون حضوره كان بأمرها. وبل دخول الجزار الى بيروت مرَّ في ميدان البلشة فقوسه مغربي يقال له أبو عقلين فأصيب برقبته جرحا بسيطا وتمّ فتل المغربي.
وتسلّم الجزار بيروت فأخذ يدعم سورها وتحصيناتها ومنع اللبنانيين من دخول بيروت وصادر بعض أملاك الأمراء ووزع قواد عسكره البخاري والجبوري وأبو الموت وغيرهم على مناطق المدينة.
البخاري قائد العسكر
ولّى الجزار البخاري على العسكر في بيروت. وكانت كلمة الشيخ أحمد البربير مسموعة لدى الجزار ومن طريف ما ذكره قال «ومما اتفق لي أن الوزير الجزار – عامله الله بالرحمة في دار القرار – كان قد أرسل الى بيروت وأنابها رجلاً من المغاربة ومعه جملة عساكر منهم للمحافظة، فعاث عسكره عيث الجراد وشمّر عن ساق الأذى والفساد حتى اشتكت منه بقاع البلاد فضلاً عن العباد، فلزم أنني توجهت نحو رئيسه وكان يدعى بالبخاري ونصحته وخوّفته عقاب الباري فأجاب بأنه لا يقدر على ردّ جنوده وأنه يخشى من ذلك عدم وجوده. ففارقته وكتبت للوزير:
وزيرنا طاهر المزايا
فاقصد ندا جوده ويمّمْ
قد خصّ ببيروت بالبخاري
يا ليته خصّها بمسلم
فلما قرأ الجزار البيتين أمر كاتبه أن يكتب لذلك المغربي كتاباً يأمره فيه بالقدوم هو وعسكره الى عكا ولا يتباطأ مقدار طرفة عين فأزاله من يزيل الجبال وكفى الله المؤمنين شر القتال» (ذكر الحصني في «منتخبات التواريخ» البيتين بلفظ آخر هو أميرنا ذو المعالي أكرم به ثم أنعم قد خصّنا بالبخاري يا ليته كان مسلم تورية بين عالمي الحديث الإمامين مسلم والبخاري) وكلّف الجزار يونس نقولا الجبيلي بتنظيم عسكر المدينة فعرف بأبي عسكر.
محمد آغا الجبوري
قَدِم محمد آغا الجبوري مع الجزار الى بيروت فعيّنه متسلما على المدينة وعهد إليه بمسؤولية أمن مدخل المدينة من الباشورة وأقطعه بستانا كبيرا في الغلغول، ويتبيّن من الوثيقة المؤرخة في ذي الحجة سنة 1273هـ/ 1827م ان مصطفى عبد الكريم الجارودي باع الى الحاج محمد علي بيضون بيتين في الدار المعروفة «بدار الجبوري» سابقا الكائنة في محلة درويش داخل المدينة وهكذا يحدد دار الجبوري.
وبموجب حجّة شرعية مؤرخة في الحادي عشر من شهر ربيع الآخر سنة 1202هـ/1788م بمدة الشيخ إبراهيم أفندي الصائغ نائب بيروت المخرجة من سجل محفوظ بإمضاء وختم السيد أحمد الغر نائب بيروت (لا يعرف مصير هذا السجل) وقف أرض الغلغول وفيها تسعة دكاكين ومساكن علوية وسفلية وبرج يحدها شمالا وغربا الطريق السالك الآخذ الى الباشورة وقفا شرعيا على نفسه مدة حياته ثم من بعده على «أزواجه» مدة إقامتهن على أولادهن مع عدم زواجهن بغيره فإذا لم يقمن بهذين الشرطين فلهن ما يستحقين من الإرث بحسب الفريضة الشرعية من ريع الوقف وعلى بنته خديجة وما يحدث له من الذكور والإناث على الفريضة الشرعية ثم من بعد كل منهم على أولاده وأولاد أولاده الخ.. وآخره لجهة الحرمين الشريفين..».
ورد اسم مصطفى ابن محمد آغا الجبوري في عدة وثائق تعود لسنة 1259هـ/1843م. وفي الوثيقة المؤرخة في 11 ربيع الأول سنة 1265هـ/ 1849م باع فضول بربور قطعة أرض من جل كنعان بربور الكائن في الغلغول فوق عصور يحدها غربا بستان وقف الحاج محمد آغا الجبوري. وفي 11 جمادى الأولى سنة 1302هـ/ 1885م صرّح الحاج محمد ابن الحاج مصطفى بن محمد الجبوري بصفته المتولي على وقف جده ان من الجاري في الوقف قطعة أرض سليخ في محلة الغلغول مساحتها 1398 ذراعا معطّلة لا غلّة لها ويرغب بتأجيرها بالمعجلتين وبناء لتقرير الخبراء تم تأجيرها بعشرين ألف قرش معجلة ومرتب مائة قرش كل سنة الى طنوس بن أنطون شعيا.
يذكر ان مدير الأوقاف السابق الدكتور أسامة عانوتي اكتشف عملية تزوير أسفرت عن بيع الوقف فأحال الأمر الى القضاء الذي كلّف الخبير كامل البابا فأكد تزوير توقيع مدير الأوقاف الأسبق الأمير خالد شهاب وتواقيع الورثة المستحقين ولا تزال القضية عالقة منذ سنة 1959م.
نشير الى ان الجزار اكتشف يوما خيانة من بعض مماليكه وسراريه وعلى رأسهم سليم باشا وسليمان باشا وان شقيق سليم باشا أخرج المحابيس وقام المتمردون بقصف السراي ووافق الجزار على خروجهم وحاول سليم باشا التوسط لإعادتهم إلا ان الجزار رفض بخشونة عندها تصالح سليم باشا وسليمان باشا مع الأمير يوسف واتفقوا على العودة الى عكا لقتال الجزار وكتب سليم باشا الى الجبوري متسلم بيروت وأخبروه وطلبوا اتفاقه معهم فتمّ التدبير وتوجهوا الى عكا إلا ان الجزار انتصر عليهم وشتّت عسكرهم وضبط بيوتهم وأرسل ضبط بيت محمد آغا الجبوري في بيروت لأنه كان من جماعتهم ولهذا حضر الجبوري الى طرابلس واستقرّ فيها.
أبو الموت
أما ثالثة الأثافي للجزار فكان المدعو «أبو الموت» العبد المخلص للجزار. ويبدو أنه كان له من اسمه نصيب.
يذكر أن المحلة الواقعة بين زقاق البلاط والمصيطبة كانت تعرف بمحلة أبو يموت وأبو موت لدى العامة. إلى أن عرفت فيما بعد بمحلة يموت.
ويذكر أن الجزار عرض على الأمير يوسف الاتفاق لتسليمه بيروت، فاجتمعا في حي أبو الموت ونزل الأمير يوسف إلى محلة المصيطبة (وبالذات إلى محلة أبو الموت، وهذا الأخير كان مساعد الجزار وقَدِم معه عندما قَدِم إلى بيروت. وقد نسبت المحلة إليه وغدا اسمها محلة يموت وأرسل بطلب الجزار. فخرج هذا الأخير لملاقاته متسلّحاً ومعه خيّالة. وقام بصفّ عسكره الأرناؤوط من بوابة يعقوب إلى المصيطبة، احتياطاً من غدر الأمير. الذي قيل أنه كان اتفق مع من كان معه من الرجال على إعطائهم إشارة صفير، للهجوم على الجزار والقضاء عليه. إلا أنه لما وجد احتياطات الجزار، تراجع عن تنفيذ خطته ولم يصدر الإشارة التي كان قد اتفق عليها مع رجاله. واتفقا على إمهال الجزار أربعين يوماً لتسليم بيروت للأمير.
واجتمع الأمير والجزار، وتصافحا وتسالما. وزعم الجزار أنه يعمل لتحصين المدينة وتدعيم سورها لردّ اعتداءات القراصنة. وقال للأمير «أمهلني أربعين يوماً أسلّمك البلد بعدها». فوافق الأمير على مضض. ورجع الجزار ورجاله إلى البلد، وطلع الأمير ورجاله إلى الجبل. ومضت الأربعون يوماً، ومثلها أمثالها دون طائل. وقيل في حينه أن كل واحد كان محتاطاً وحذراً من غدر الآخر. وكما كان الأمير صاحياً لخيانة الجزار، كان هذا الأخير واعياً لعداء الأمير ورغبته بالتخلص منه بأية وسيلة.
وصحّ فيهما قول المثل: قال له لاطيلك، قال له صاليلك.
يروي المعمّرون أن حي أبو موت كان يحتوي على شجرة صاحبتها امرأة صالحة ينذر لها. وكانت العامة تعلّق قطعاً من القماش على الشجرة فعرفت «بأم شراطيط». وكان يوجد بقرب الشجرة غرفة وشاحط، وعلى الحائط بلاطة حفرت عليها عبارة «الداخل يقول بسم الله الرحمن الرحيم ادخلوها بسلام آمنين». قيل إنها مسكونة من الجن، فلم يسكنها أحد، وقد هدّمت فيما بعد.
وروي أن حي أبو موت كان يتضمن مقاماً لولي يدعى علي بن عليل. وأن الباقي من بيته كان تصوينة من الحجر الرملي، يضع الناس عليها الخميس ليلة الجمعة، الشمع والزيت إيفاء لنذر. وأن أثار الزيت المحروق كانت باقية إلى زمن غير بعيد. وقيل أن من كان يهزأ بكرامات الولي المذكور، ظهر عليه ليلاً. والولي المذكور هو علي بن عليل بن محمد بن يوسف بن يعقوب بن عبد الرحمن ابن الصحابي عبد الله بن عمر بن الخطاب، وضريحه عند شاطئ البحر المالح بساحل أرسوف، بين الرملة واللد، وكان عليه مشهد عظيم مأنوس ومنارة عظيمة مرتفعة. زاره عبد الغني النابلسي سنة 1700م، وروى أن أهل تلك النواحي في خفره وبركة سرّه، وأن الفرنج يعتقدون فيه ويعترفون بصلاحه، وأنهم إذا أقبلوا على ضريحه وهم في البحر كشفوا رؤوسهم ونكّسوها نحوه.
________
*مؤرخ/ عضو شرف جمعية تراثنا بيروت
ملف “أوراق بيروتية”