د. إبراهيم حلواني*
مقالة 22: شارع جورج بيكو (1)
شارع جورج بيكو اسمه الرسميّ الآن شارع عمر الداعوق.
كان موجودا بشكل أوّليّ منذ 1884 وفق خريطة اطلعت عليها تعود إلى تلك السنة. يظهر هذا الشارع في كلّ خرائط بيروت اعتبارا من 1910.
الخريطة في الأسفل صممتها بانيا على شوارع بيروت قبل أن تصيبها الحداثة.
أكتب عن شارع جورج بيكو لأسباب كثيرة:
• سكن فيه مسيحيّون ومسلمون ويهود تآلفوا بسلام ومحبة، وكان مثالا للتعايش والتسامح والرقيّ.
• سكن فيه مشاهير وأثرياء ومتوسطو حال وفقراء.
• سكن فيه أجانب فرنسيون وبريطانيون وألمان ونمساويون وروس ويونانيون وأرمن وكرد …
• جمع بين القديم والحديث من البناء وبين الفخم والمتواضع.
• اصطفت على جنبيه محلات من كلّ المستويات.
• عجّ بالبضائع والمأكولات المحلية والأوروبية.
• أطلق أسماء ومؤسسات تجارية ومهنية نالت شهرة واسعة، سأتحدث عن المشهور منها معيّنا مواقعها على خرائط.
***
مقالة 23: شارع جورج بيكو (2) … الكوليج بروتستانت وستاركو ولويز فكمان
• سنة 1862، أي منذ حوالي 160 سنة، تأسست في بيروت إحدى أرقى المدارس الألمانية وأكثرها تكلفة (مكان ستاركو حاليا)، وكانت تحت إدارة راهبات ألمانيات. كان اسمها Diaconesses de Kaiserswerth.
• بعد خسارة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، حمل الفرنسيون الإرث الألماني وتحوّلت المدرسة منذ 1927 إلى الكلية البروتستانتية الفرنسية Collège Protestant Français.
• سنة 1928 كانت الكوليج بروتستنات تحت إدارة السيدة لويز فيكمان Louise Wegmann وكانت تضم 100 تلميذة.
• سنة 1955 تجاوز عدد تلاميذها الألف، وبيع الموقع إلى ستاركو لتفتتح الكلية موقعا جديدا لها في محلة قريطم.
• سنة 1965، وتكريما لمديرة مدرستهم القديمة والقديرة لويز فكمان، أسست جمعية قدامى تلاميذ الكوليج بروتستانت مدرسة لويز فيكمان المشهورة في لبنان حاليا.
حول الصورة:
العقار ذو الأشجار عند يمين الصورة كان مدرسة ألمانية ثم تحوّل إلى الكوليج بروتستانت قبل إنشاء ستاركو بداية 1955.
الطريق الفرعي يمين الصورة، حيث العمود، يواجه البحر وينتهي إلى أول الزيتونة من جهة الشرق (فندق بسول). الباب الظاهر يسارا هو مدخل قصر آل العيتاني القديم.
***
مقالة 24: شارع جورج بيكو (3) … الكوليج بروتستانت، أو البروسيا … من مهد طفولتي
كنا نسمّي الكوليج بروتستانت “البروسيا”. الآن أعرف أنّ لذلك علاقة بأصولها الألمانية: بروسيا كان اسما لمقاطعة ألمانية.
بين الكوليج بروتستانت ومنزلنا كان يفصل حائط مشترك.
خارج منزلنا، في نهاية الزاروب، كان ثمة باب حديدي أخضر لا يُفتح إلا قليلا.
أبو زاكي هو بواب البروسيا والناطور والجنيناتي.
في بعض العطل كان أبو زاكي يفتح الباب الأخضر مسايرة لنا، فكنا ندخل وأولاد جيراننا وأولاد أقاربنا الأتراب. كنا نسرح في الملاعب ونزور مداجن الطيور والأرانب والسلاحف …
كان أبو زاكي يغض الطرف عن لهونا بخراطيم الماء وتظاهرنا بريّ الحدائق. سلام لروحه.
بجوار السور المشترك، كان ثمة درج يطل على منزلنا وكان ينتهي إلى غرفتين تقصدهما المعلمات. عند عروجهن أو نزولهن كنّ يسألن والدتي أن يقطفن بعض الأزهار أو بعض الثمر من حمل مشمشتنا الجانحة صوبهن، وكانت والدتي تجيب ببسمة وترحيب كبير. كانت والدتي تخاطبهن بفرنسية طَلِقَة مستعملة كلمتين فقط: “وي وي، نو نو” وأحيانا “وي نو، نو وي”! سلام لروحها الطيبة.
عندما بدأ الحفر لبناء ستاركو، محلّ البروسيا، كنت في الثامنة من عمري. أفقنا فجر يوم على صوت مريع: تهدم جزء من الحائط المشترك وبعض أرض مطبخنا. أصلحوا الضرر سريعا.
***
مقالة 25: شارع جورج بيكو … الحياة الاجتماعية
شارع جورج بيكو كان شارعا تجاريا وسكنيا في الوقت عينه. صممتُ الخريطة في الأسفل بناء على شوارع بيروت قبل أن تصيبها الحداثة، وهي توضح الكثير.
أكثر سكان الشارع كانوا من المسيحيين الأرثوذكس والمسلمين واليهود، وكانوا من طبقات اجتماعية وثقافية متفاوتة. بالرغم من ذلك كانوا على درجة عالية من الرقيّ في التعامل والتواصل وتقبل الآخر. المشاكل كانت نادرة.
عند البيع والشراء، لا عصبية ولا طائفية ولا تمييز، بل ما تفرض حاجتك. أكثر المنازل كان خلف المباني والواجهات التجارية، والكثير منها كان يقع ضمن حدائق وفسحات.
التزاور كان يتمّ بين عائلة وجيرانها الأقرب. التأثيرات السياسة ما كانت لتفسد ذات البين، حتى خلال أحداث العام 1958.
أذكر من المدارس مدرسة الأليانس لليهود، مقابل ستاركو، ومدرسة راهبات البيزنسون إلى الغرب منها، ومدرسة الفرير Collège de La Salle في نهاية الشارع مقابل قصر الداعوق. مدرسة الحكمة ومدرسة المحبة كانتا بعيدتين نسبيا، في شارع كليمنصو. باستثناء الأليانس، كانت تلك المدارس تستقبل أحيانا كثيرة أولاد الموسرين من المسلمين.
***
مقالة 26: شارع جورج بيكو … الترين
مهما كان اسمه بالأجنبية، ترام أو ترام كهربائي أو ترامواي، فنحن كنا نسميه “ترين”. لا يجوز أن أحدث عن شارع جورج بيكو دون ذكر الترين.
ترين بيروت تألف من قاطرة أو قاطرتين، يقوده سائق ويجول فيه بائع التذاكر percepteur، وأحيانا كان مفتش يصعد على حين غرّة: إن كنت ممن تهربوا من شراء تذكرة فأنت في حرج.
كُثُرٌ كانوا يقعون في الحرج.
في الخمسينات والستينات، كان ثمن التذكرة 5 قروش، أو 10 لمن أراد الاستراحة على مقعد منجد ومغلف بالقش اللماع الأنيق.
تسيّرُ الترين شبكة من خطوط الكهرباء.
لا زلت أسمع صوت الترين مقتحما شارع جورج بيكو بسرعة مخيفة. كان يطنطن بالجرس محذرا وكانت له قعقعات تصمّ الآذان. ذلك عندما تكون الطريق شبه خالية من السيارات.
أقسى اللحظات كانت عندما تفلت “السنكة” من مكانها فتنتصب وتضرب يمنة ويسرة مشرقطة بالكهرباء باثة الرعب في القلوب. ولكن لم تكن إصابات.
قليلا ما كان يخرج عن السكة، أذكر أنه فعلها مرة في ساحة رياض الصلح، عند المنعطف، متجها نزولا من محلة البسطة.
بداية كان لون عربات الترين أصفر، ثم أصبح أخضر في عهد الشركة الفرنسية. حوالي 1960 دهنته الدولة بالأحمر والأبيض. انتهى أمره عام 1964 حين حلّ محله أوتوبيس الدولة.
***
مقالة 27: شارع جورج بيكو … السيارات
في أواسط الخمسينات، كنت أقف وابن الجيران عند طرف الزاروب نتبارى في التعرّف على أنواع السيارات:
فورد، ميركوري، شفروليه، أولدز موبيل، بيجو، أوبل، ستروان، رينو، بويك، ديسوتو، بونتياك، كرايلزر …
الكاديلاك كانت الملكة، وكانت نادرة جدا. لم يمتلكها إلا كبار القوم ولم تخرج من مخبئها إلا للرسميات. كان لها سائقها الخاص.
معظم السيارات كانت أميركية أو فرنسية أو ألمانية.
السيارات القديمة كانت كبيرة سوداء أو ذات ألوان قاتمة، وكانت لها رفارف ومصدات صلبة. وكنت لتجد في الشارع سيارات فورد أبو دعسة وسيارات تعود إلى الثلاثينات.
الصغيرة وزاهية الألوان بدأت تكثر في أواخر الخمسينات، وفي الستينات بدأت سيارات المرسيدس تطغى.
الأيام الباردة كانت تشكل تحديا صباحيا للسائقين عندما لا يستجيب المحرك. كانوا يشغلونه بدوّارة Manivelle يدوية معدنية يقحمونها في المحرك من جهة مقدّم السيارة.
***
مقالة 28: شارع جورج بيكو … قصر بيهم
الخريطة أدناه بنيتها استنادا إلى شوارع بيروت قبل السبعينات.
• آل بيهم
هم من الأسر البيروتية العريقة التي تفرعت من أسرة آل العيتاني.
لعبوا أدورا رائدة منذ الحكم العثماني حتى اليوم. منهم:
عمر بيهم: لعب دورا مهما في وأد فتنة 1860.
عبدالله بيهم (الأول) بنى قصر بيهم سنة 1850، ومسجد عين المريسة سنة 1887.
عبدالله بيهم (الثاني، 1879 – 1962) تولى رئاسة وزراء لبنان ثلاث مرات بين 1936 و 1943.
• قصر بيهم
قام في وسط شارع جورج بيكو، مقابل ستاركو حاليا.
بناه عبدالله بيهم (الأول) سنة 1850.
سنة 1856 نزل فيه الأمير عبد القادر الجزائري ضيفا على عبدالله بيهم، لمدة سبعة أشهر.
سنة 1910 صار في عهدة الدولة الفرنسية.
سنة 1946 أصبح مقر المعهد الفرنسيّ للآثار.
سنة 1977 أصبح المعهد الفرنسيّ لآثار الشرق الأوسط.
المبنى ما زال قائما جزئيا وقد تمّ ترميمه. تواجدت دارة أخرى لآل بيهم مقابل القصر بمحاذاة ستاركو (زالت الآن)، وكان يفصل بين الدارة والقصر شارع جورج بيكو.
________
أستاذ الرياضيات في الجامعة اللبنانية سابقاً. باحث وعضو جمعية تراث بيروت.