«شامل ومرعي»، أحد الموضوعات التي يختزنها ما يمكن تسميته، اليوم، «شبه المسكوت» عنه من تاريخ لبنان الثَّقافي؛ وضمن هذه الموضوعات أمور وقضايا غنيَّة عديدة، بإمكانها، لو أُحسن النَّظر فيها، أن تساهم في جلاء حقائق عديدة ووقائغ مؤثِّرة وجميلة تركت بصمات أساس لها في تشكيل واقع العيش الثَّقافي في البلد.
شهِد لبنان، انطلاقاً من ثلاثينات القرن العشرين وحتَّى نهاية خمسينات ذلك القرن، ظهور ما صار يُعرف بين النَّاس بـ «شامل ومرعي»؛ وهو ثنائيٌّ فنِّيٌّ، تكوَّن من شابَّين من أبناء بيروت، أحدهما اسمه «محمَّد شامل الغول»، والآخر، «عبد الرَّحمن مرعي»؛ وكان أن ملأ هذا الثُّنائيُّ السَّاحة الفنيَّة، زمنذاك، مسرحاً وإذاعةً، وحتَى سينما، بحضورٍ قويٍّ وإقبالٍ جماهيريٍّ نخبويٍّ وشعبيٍّ حاشد.
آن للُّبنانيين اليوم، وخاصَّة في هذ المرحلة من عيشهم، التي يأملون فيها تُحقُّق سعيهم إلى بناء لبنان الوطن الحقيقي، أن يجهدوا في العمل على قراءةٍ موضوعيّة ومنصفة لتاريخهم؛ لا حُبّاً بالتّاريخ وحسب، بل حبّاً بالوطن وبناس الوطن وبالآتي من زمن هذا الوطن وأهله. وها أنّ موضوع «شامل ومرعي»، يقف شاهداً فذَّاً على حضور خمسين سنة، غنيَّة بالنَّشاط، من سنواتِ العيشِ التَّأسيسيِّ والفاعل لجوانب كبرى من الثَّقافة المعاصرة في لبنان. لا بدّ من التأكيد، ههنا، على أنّ هذه المادة، التي تقدّمها شهادة «شامل ومرعي»، لا تقف عند حدود ما يمكن أن يعرف بالحدث التّاريخي، الذي صنعه «شامل ومرعي»، وجوانب حقيقته؛ بل إنّها تتعدّى هذا الأمر، لتدُلّ على كثيرٍ من مجالات الإبداع الفنّي، وتصبّ في مجال تشكّلٍ للقِيم الثقافيَّة وتكوّن للمفاهيم الفنيَّة عند اللبنانيين عامَّة، وناس بيروت خاصَّة، في النِّصف الأوَّل من القرن العشرين. إنَّها شهادة زهاء نصف قرن مترعةٍ بالحيويَّة والعطاء، من سنوات صناعةٍ للثقافةِ والفنّ، ونبضٍ الحياة المعاصرة في وجود ناس هذا البلد. فهل للبنانيَّين، جميعِ اللبنانيين، أن يتناسوا هذه الشهادة، أو يهملوها؛ أو هل لهم إلاَّ أن يُصرّوا على وضعها في المكانة التي يحقّ لها أن تكون فيها، وأن يعمدوا إلى حُسنِ الإفادة من معطياتها؟
ولد محمَّد شامل الغول، سنة 1909، في حي شعبي ضمن ما كان يعرف بـمحلَّة «بوَّابة يعقوب» من مدينة بيروت؛ وكانت هذه المحلَّة تقع، آنئذٍ، غربيِّ ما يعرف اليوم بـ «ساحة رياض الصُّلح»، وتحديداً عند بداية الشَّارع الممتد من هذه السَّاحة صعوداً باتِّجاه الموقع الرَّاهن لـ «مسجد زقاق البلاط». و«محمَّد شامل»، اسم مركَّب، على عادة كثيرين من ناس بيروت المسلمين في إضافة اسم رسول الله محمَّد إلى أسماء أبنائهم.
على غير ما خَبِرَهُ محمَّد شامل، في حياته، من قساوة الطُّفولة وشظف العيش، فإن عبد الرَّحمن مرعي، سبق شامل إلى الحياة، إذ كانت ولادته سنة 1905، وكان هذه الولادة فيما كان يعرف بإسم منطقة «النَّاصرة» من مدينة بيروت؛ وهي منطقة كانت، حينذاك، مطرحاً لسكنى كثيرين من ذوي اليسار الماديِّ والرُّقي الاجتماعي؛ وكان موقع منزل أسرة عبد الرَّحمن مرعي، وقتذاك، حيث يقع اليوم الحي المعروف حاليَّاً بإسم «السُّوديكو».
تزوَّج والد محمَّد شامل، إثر وفاة زوجه الأولى، وانصرف مع زوجه الجديدة عن الاهتمام بطفله الرَّضيع «محمَّد شامل»؛ فما كان من جَدَّي الطِّفل لأمه، إلاَّ أن ضمَّا رضيعَ ابنتهما المتوفاة، إلى عهدتهما؛ لكن ما كاد الطِّفل يبلغ التاسعة من سني العمر، حتَّى توفي جدَّاه هذان؛ فرجع إلى العيش، مع والده، مُهْمَلاً من قِبَلِ زوج والده، ومحاطاً بظلمها له؛ إذ حرَّمت عليه ارتياد المدرسة تلميذاً، غير أنَّها أباحت له التَّوجُّه إلى باب المدرسة فقط، مرافقاً لأبنها «شفيق الغول»، التلميذ في تلك المدرسة، والذي أصبح يعرف فيما بعد بالفنان «شفيق حسن»، وحارساً له.
نشأ عبد الرَّحمن مرعي، في رغدٍ من العيش ووفرةِ من الجاه الاجتماعي، في كنف والده عبد الحفيظ، تاجر البصل الثري والمشهور في مدينة بيروت. كان «آل مرعي» ينتمون إلى رشيد بك مرعي، أحد كبار قادة الأسطول العثماني؛ كما كانت جدة عبد الرَّحمن، لوالدته، من آل بليق البيارتة؛ وعرفت العائلة، تالياً، بإسم «مرعي بليق». وكان عبد الرَّحمن، الأصغر بين شقيقيه، وقد ألحقه والده في واحدة من أهم دور العلم، زمنذاك، «الكليَّة الإسلاميَّة»، لمؤسِّسها الشيخ أحمد عبَّاس الأزهري؛ ثم انتقل عبد الرَّحمن لمتابعة دراستهِ في مدارس «الليسيه الفرنسية» في بيروت؛ والتحق، مِن ثَمَّ، بـ «معهد بياجيه (الفرنسي) لعلوم المحاسبة» وتخرّج فيه.
رغم الحرمان الذي قاساه «محمَّد شامل»، بمنعه من الالتحاق بالمدرسة منذ الطفولة، فإنَّه عاش رغبة جامحة في نفسه لتحصيل ما يمكنه تحصيله من علوم ومعارف وثقافات. اختطَّ لنفسه، ووفاقاً لما كان يواجهه من ظروف وإمكانيَّات، دراسة لا هي منهجيَّة ولا هي منظمة؛ واقع الحال، لقد كانت دراسة تعتمد على ما يتوفر له من قراءات وما يمكنه التقاطه من معارف وأحاديث، وما يمكن أن يستوعبه عقله من أمور. ويبدو أنَّ محصَّلة هذا الجهد، ساهمت في تشجيع «محمَّد شامل» على التقدّم من «المعهد الشرقي في بيروت»، الذي كانت تشرف عليه «جامعة ليون» الفرنسية، للالتحاق بصفوفه. وكان أن خضع محمَّد شامل إلى امتحان دخول، تعويضاً عن عدم حيازته «شهادة البكالوريا» المطلوبة للالتحاق بالدراسة؛ فنجح في الامتحان، وإلتحق بالمعهد الذي تخرّج فيه سنة 1943 مجازاً في اللغة العربية وآدابها.
لطالما سمع، محمَّد شامل في طفولته، جدَّه لوالدته وهو ينشد «الموَّال البغداي»، الذي عُرِفَ بأدائه كثير من ناس بيروت، وردَّدوه في سهراتهم ومجالات تزجية بعض أوقاتهم؛ تعبيراً عن بعض مشاعرهم وأفكارهم؛ وكم كان يتباهى بعضهم بنظم أبياته وحسن تركيبها، كما يعتزُّ بعض آخر منهم بجميل أدائه للموَّال وعذوبة صوته في هذا الأداء. ولقد تسنَّى، لمحمَّد شامل، أيضاً، أن يصغي كثيراً إلى جدِّه لوالده، الذي اشتهر بروايته للقصص الشَّعبي، ومن ضمنه «قصَّة عنترة»، في بعض المقاهي الشَّعبية في بيروت. ويبدو أن ما علق في وجدان محمَّد شامل وذاكرته، من جدَّيه، أكان من باب الموَّال البغداي أو كان من باب القصص الشعبي، وخاصَّة «قصَّة عنترة»، جعل منه في مرحلة الشَّباب، محبَّاً للمسرح وما يعرض عليه من تمثيليات، وما يقدّم خلال هذه التَّمثيليات أو استراحة فصولها من أغانٍ وأناشيد. لقد بات محمَّد شامل، في صباه ومطلع شبابه، مسحوراً بهذا الفن ومأخوذاً بمتابعته وحضوره؛ خاصة وأن بعض الفرق المسرحية المصريَّة اعتادت أن تؤمَّ بيروت؛ وتقدّم بعضاً من أعمالها على مسارح في المدينة. ومن جهة أخرى، فإنَّ محمَّد شامل إلتحق، مثل كثيرين من رفاقه، من شباب بيروت في ذلك الزَّمن، كشَّافاً في «جمعيَّة الكَشَّاف المسلم».
شبَّ عبد الرَّحمن مرعي رياضيَّاً يهتم بتنمية عضلاته؛ وكان خفيف الظِّل، محبَّاً للحياة ولما فيها من طعام وشراب؛ كما كان كريماً مضيافاً إلى أبعد حد يتمكَّن منه. شارك، عبد الرَّحمن، خلال دراسته في مدرسة «الليسيه الفرنسية»، في بعض النشاطات المسرحية، التي كان يقدّمها تلامذة المدرسة إبَّان حفلات نهاية السنة الدراسيَّة؛ ومن جهة أخرى، فإنه التحق بـ «الكَشَّاف المسلم»؛ وشارك في المسرحيات التي كان أعضاء الكَشَّاف يقيمونها في المخيم؛ وصار في شبابه هاويَّاً لفن التَّمثيل، لا يبغي عن هوايته هذه فكاكاً بل يعيشها، وهو ابن الأبن المدلل للأسرة الأرستقراطيَّة الموسرة، رغبة وولهاً بعيداً عن أي مطلب مادي.
كانت بيروت، في الثلث الأوَّل من القرن العشرين، تضجُّ بنشاط ثقافيِّ اجتماعيٍّ متنوِّع التَّوجهات وغنيِّ النَّتائج. التقى، في هذه الأجواء، محمَّد شامل وعبد الرَّحمن مرعي، عبر النَّشاطات الكشفيَّة في «جمعيَّة الكَشَّاف المسلم»؛ ولم يكن فارق السِّن بينهما كثيراً، إذ إن عبد الرَّحمن كان يكبر محمَّد شامل بأربع سنوات. ويبدو أنَّ ثمَّة صداقة ومودَّة، بل أخوَّة حقيقيَّة، جمعت بين ابن الأسرة الارستقراطيَّة، عبد الرَّحمن، الذي ولد وفي فمه ملعقة من ذهب؛ وبين ابن الأسرة الشَّعبيَّة، محمَّد شامل، الذي عانى منذ أن ولد فقراً وحرماناً وقهراً؛ بيد أنَّ زمالة الكشفيَّة والهوس بالمسرح، شكَّلا اللُّحمة التي شدَّت واحدهما إلى الآخر؛ وظلَّ هذا الرباط قائماً بينهما منذ أيَّام الصبا إلى أن فرق الموت بينهما، بوفاة عبد الرَّحمن سنة 1958.
أنضمَّ محمَّد شامل، في مطلع شبابه، حوالى سنة 1928، إلى مجموعة من شباب بيروت؛ برئاسة الشَّاعر والصحافي أحمد دمشقية، وبرعاية، مدير الشُّرطة في بيروت، الشَّاعر عبد الرَّحيم قليلات مع نخبة من مثقَّفي بيروت، منهم، الدكتور مصطفى خالدي والأستاذ عزت الأدلبي. أسَّس هؤلاء الشَّباب ما أطلقوا عليه اسم «منتدى التَّمثيل والرِّياضة»؛ وكان هذا المنتدى ينشط بِعضويَّة كوكبة من شباب بيروت، منها نور العويني ومحمَّد شامل ويوسف سوبرة وطه بعلبكي ومحمَّد جمعة. وكان، أن انبثقت عن هذا «المنتدى» وبهمَّة أعضائه، فرقة هواة للتَّمثيل المسرحي، عمدت إلى تقديم عروض لها في منطقة «زقاق البلاط»، من مدينة بيروت؛ ومن هذه العروض، مسرحيّة «ثعلبة» التي دعي إلى حضورها الشابٌ البيروتي الأرستقراطي وخرّيج «مدرسة اللاييك» ومن طلاب «معهد بيجييه الفرنسي للتّجارة»، عبد الرَّحمن مرعي؛ ويبدو أن عبد الرَّحمن مرعي، وجد في هذه المجموعة ضالته التي يبحث عنها في مجالات التَّمثيل، فانضم إليها معزِّزاً هذا الانضمام بصداقته مع محمَّد شامل.
تأسست، بعد حوالي السَّنتين، أي سنة 1930، جمعيَّة أخرى، عرفت باسم «جمعية الترقي الأدبي»؛ كان رئيسها أحمد دمشقية، وكان من أعضائها مجموعة من شباب بيروت أيضاً، من بينهم محمَّد شامل وعبد الرَّحمن مرعي وشفيق القاطرجي وناجي بدر ومحمَّد اللاز وخضر عيتاني وشفيق النقّاش. وتشكَّلت، من هذه الجمعيَّة، كذلك، فرقة مسرحيَّة تكوَّنت من شباب الجمعيَّة ورئيسها، وقدَّمت مسرحيّة باسم «بيروت على المسرح»؛ كتبها أحمد دمشقيّة، وهو الذي عرّب للفرقة، فيما بعد، مسرحيّة «القناع»، فضلاً عن أنّ الفرقة مثّلت، لاحقاً، مسرحيّة «الهاوية» لمحمود تيمور، ومن بعدها مسرحيّة «القبلة القاتلة»، وهي من معرّبات المصري فتّوح نشاطي لفرقة يوسف وهبي، ومن ثمَّ مسرحيّة «في جبال لبنان» التي اقتبسها عن الإسبانية ولبننها محمَّد شامل.
كان، ابن بيروت وأحد أبرز مثقَّفيها، الأديب عمر فاخوري، من المشرفين على أعمال هذه الفرقة، وخاصّةً في موضوعات مراقبة السَّلامة اللغزيَّة للنًّصوص الموضوعة باللغة العربيّة الفصحى، التي التزمتها الفرقة. ويبدو أنّ محمَّد شامل أقنع، في هذه المرحلة، عبد الرَّحمن مرعي بالانخراط في التَّمثيل الكوميدي، بعد تجربة التَّمثيل الدرامي؛ فبدأ بروز الثُّنائيّ «شامل ومرعي»، واشتهار شخصيّة «عبد العفو الإنكشاري» التي كان يكتب أدوارها محمَّد شامل ويؤدّيها عبد الرَّحمن مرعي.
***
قصَّة نجاحٍ وحكاية عن «مسكوت عنه» من التَّاريخ الثَّقافي في لبنان
إنَّ المادة التاريخية عن محمد شامل، في هذه الدراسة، مستقاة من تحقيق أجرته الصحافية السيدة دانيا يوسف؛ وجرى نشره في عدد من المواقع الإلكترونية. والمادة التاريخية عن عبد الرَّحمن مرعي، مستقاة من لقاء شخصي أجريته مع ابنه المهندس ربيع مرعي، في دارته في شارع فردان في بيروت، بعد ظهر يوم الجمعة 30/12/2016. والمادة التاريخية عن بعض الأحداث المتعلقة بالمسرح اللبناني، مستقاة من كتاب «المسرح اللبناني في نصف قرن»، للأستاذ محمَّد كريِّم، منشورات دار المقاصد، بيروت، سنة 2000.
ما أن اشترك «محمَّد شامل الغول» و«عبد الرَّحمن مرعي» في بعض أعمال التَّمثيل المسرحيِّ للهواة، ضمن نشاطات «جمعيَّة الكشَّاف المُسلم»؛ حتَّى «شهدت سنة 1928 أوَّل ظهور مسرحيٍّ لهما أمام «جمهور عامٍّ». كان هذا الظهور مع مجموعة شبابٍ، من أبناء بيروت المثقَّفين، انضمُّوا إلى فرقة «منتدى التَّمثيل والرِّياضة»؛ وكان هذا المنتدى، برئاسة «نور العويني»، ومن بين أعضائه «محمّد شامل الغول» و«يوسف سوبرة» و«طه بعلبكي» و«عبد الرَّحمن مرعي» و«محمّد جمعة»؛ وقدَّمت هذه الفرقة مسرحيَّة عنوانها «ثَعْلَبَة»، على خشبة مسرح أقامه أعضاؤها ضمن على أرض لا بناء عليها، وبتعبير البيارتة «بُورَة»، في منطقة «زقاق البلاط» من بيروت.
أنضمَّ، «محمَّد شامل الغول»، حوالي سنة 1930، إلى «جمعية ترقية التَّمـثيل الأدبي»، التي كان قد أسَّسها الصحافي والأديب الأستاذ «أحمد دمشقيَّة»؛ وكان ظهور لافت لشَّباب هذه الجمعيَّة، من أبناء بيروت، بمشاركتهم الأساس في تقديم مسرحيَّة حملت اسم «بيروت على المسرح»؛ وضعها الأستاذ أحمد دمشقيَّة، وقُدِّمت من على «مسرح الكريستال» في بيروت.
يروي الأستاذ شامل، عن هذه المحطَّة من مسيرته، أنَّ «سوق التَّمثيل» لم تكن رائجة، زمنذاك، ولم تكن لتلاقي إقبالاً جماهيريَّاً لافتاً؛ الأمر الذي اضطر معه أعضاء الفرقة إلى القيام بجولات، على بعض المتاجر والمنازل، للتَّعريف عن عملهم المسرحيِّ، ولتَسويقِ ما يمكنهم بيعه من بطاقات حضور تلك المسرحيَّة.
يبدو أن شباب بيروت هؤلاء، ومنهم، كما يذكر الأستاذ محمَّد شامل لاحقاً، «محمَّد المشارقي» و«شفيق القاطِرجي» و«محمَّد اللّاز» و«عبد الرَّحمن مرعي» و«خُضر العيتاني» و«إبراهيم رُشدي» و«بدر تَميم» و«رشاد العريس»، تمكَّنوا من إحرازِ شهرةً بتقديم تلكَ المسرحيَّة، ذات الطَّابع التَّراجيدي؛ وإن لم يحصِّلوا من هذا النَّشاط ربحاً ماليَّاً على الإطلاق. ورغم هذا، فسرعان ما عرَّب الأستاذ دمشقيَّة، عن الفرنسيَّة، نصَّاً مسرحيَّاً تراجيديَّاً، يدور حول مكائد العرشِ الفرنسيِّ زمن الملك «لويس الثَّالث عشر»؛ حين كانت السُّلطة الأساس، في القصر الملكي، بيد «الكاردينال مازاران»؛ الذي عمل على إخفاء أخٍ للويس الرَّابع عشر في سجنٍ منعزلٍ، واضعاً وجه الأخ السَّجين، إمعاناً في إخفائه، خلفَ قناعٍ حديدي؛ وكان أن أسند دور «الكاردينال مازاران»، في هذه المسرحيَّة، إلى الشَّاب «محمَّد شامل». لم يلبث حبل المسرحيَّات التراجيديَّةِ هذا، أن أمتدَّ؛ وكان يحمل معه هؤلاء الشبَّان البيارتة، ومعهم محمَّد شامل، عبر مسرحيَّات عربيَّة أو معرَّبة، لأساطين المسرح العربي، عهد ذاك، أمثال «يوسف وهبي» و«جورج أبيض» و«فاطمة رشدي». وكان أن أقدم، هؤلاء الشَّباب، من ثمَّ، على عرضِ نصِّ مسرحيَّة «الهاوية»، للأستاذ «محمود تيمور»، بإخراج مسرحيٍّ من وضعهم؛ إذ لم يكونوا قد خبروا من هذه المسرحيَّة سوى نصٍّ مطبوع لها في كتاب منشورٍ حصلوا عليه.
انشقَّ، مع مطلع أربعينات القرن العشرين، مجموعة من أعــضاء «جمعية ترقية التَّمـثيل الأدبي»، بقيادة «رشاد العَريس»، عن الجمعيَّة؛ وألفوا، في ما بينهم، جمعيَّة جديدة تهتم بالنَّشاط المسرحيِّ، حملت اسم «أسرة بيروت»؛ وانضمّ اليهم أعضاءٌ جددٌ؛ كان منهم «صلاح عَبُّوشي» و«محمَّد النَّقَّاش» و«مأمون أياس» و«محمود الحبّال» و«أنطون ربيز»؛ ولم يعنِ هذا خصاماً بين الجمعيتين على الإطلاق، بل كثيراً ما تشارك أعضاءٌ من الجمعيتين في أعمال مسرحيَّة واحدة. ما أن حطَّت سنوات «الحرب العالميَّة الثانيَّة» رحالها، في منتصف أربعينات القرن العشرين، حتَّى كان عقد «جمعية ترقية التَّمـثيل الأدبي» قد انفرط، وذهب أعضاؤها كلٌّ في سبيل اختطَّه لنفسه؛ ويبدو أنَّه لم يتبقَّ من هواة التَّمثيل النَّاشطين من هؤلاء الشَّباب سوى «محمَّد شامل» و«عبد الرَّحمن مرعي».
يبدو أن «محمَّد شامل» و«عبد الرَّحمن مرعي»، بعد انفراط عقد «الجمعيَّة» وتوقف نشاطها المسرحيِّ، ظلاَّ يهجسان بالوقوف على خشبة المسرح؛ لكن من أين لهما تحقيق ما يهجسان به، في الوقت الذي لم يعد ثمَّة فرقة مسرحيَّة تضمهما إليها؛ ولعلَّه لم يكن ميسوراً لهما ماليَّاً، عشيَّة خروج النَّاس في لبنان من ويلات «الحرب العالميَّة الثَّانية»، أن يؤسِّسا فرقة مسرحيَّة كاملة ويؤمِّنا لها احتياجاتها. كان «محمَّد شامل» و«عبد الرَّحمن مرعي»، بحكم خبرتهما في نشاطاتهما المسرحيَّة، في «جمعية ترقية التَّمـثيل الأدبي»، منغمسين في الأجواء المسرحيَّة للتراجيديا؛ وقد أتقن كلُّ واحدٍ منهما أدوات الفن التَّراجيدي وكيفيَّات العمل المسرحيِّ. ولعلَّ طلباً وردَ إليهما للمشاركة في احتفالٍ كان يجري التَّحضير له، آنذاكَ، في قاعة «الوست هول» West Hall، في «الجامعة الأميركيَّة في بيروت»؛ ساهم في وصولهما إلى حلٍّ يرضي طموحهما، وإن كان سيُحدِثُ تغييراً ما في مسيرتهما الفنيَّة.
رأى «محمَّد شامل» أنَّ بإمكانه، ولمَّا لم يبقَ، كما يشير القول الشَّعبيُّ، في «الميدان سوى حديدان»، أن يؤلِّف مع «عبد الرَّحمن مرعي»، لِما بينهما من رفقة مديدة عريقة وخبرة عمل مشتركة وأخوَّة متجذِّرة في وجدان كلٍّ منهما، ثنائيَّاً مسرحيَّاً، يلبِّيان به مشاركتهما في احتفال قاعة «الوست هول» West Hall، في «الجامعة الأميركيَّة في بيروت»؛ ويكون، هذا الثُّنائيُّ، كذلك، بديلاً لهما من وجود فرقة مسرحيَّة كاملة. ويبدو، من جهة أخرى، أنَّه تبيَّن لهذين الصَّديقين الزَّميلين، أن وجودهما معاً، بشكل ثنائيٍّ مسرحيٍّ، قد يوفِّر عليهما، أيضاً، الأعباء الماليَّة والماديَّة التي يتطلَّبُها العمل عبر الفرقة.
فكَّر «محمَّد شامل»، كما يذكر في أحاديثه، بالتَّحول، في هذه المرحلةِ، من «المسرح التراجيدي»، إلى «المسرح الكوميدي»؛ ويبدو أن هذا التَّوجُّه عند الأستاذ «محمَّد شامل» جاء نتيجة عدَّة عوامل، لعل من أبرزها، فضلاً عن أساسيَّة استمراره مع «عبد الرَّحمن مرعي» في العمل المسرحي، فقد يكون العمل الكوميدي، في تقديمه وتوفير إمكانيَّاته، عبر ثنائيٍّ، أشدّ فاعليَّة جماهيريَّة وتكلفةً ماليَّةً من العمل التراجيدي، الذي قد يتطلَّب أكثر من المحدوديَّة العدديَّة للثُّنائي.
العامل الآخر، الذي يمكن أن يكون قد ساهم في فكرة الثُّنائيّ الكوميدي، عند «محمَّد شامل» و«عبد الرَّحمن مرعي»، قد يكون في انتشار أنموذج ما يُعرف بـ «كوميديا الثُّنائيّ»، عالميَّاً، عبر ما كانت تعرضه شاشات السِّينما، من أعمال لـ «لوريل وهاردي» Laurel and Hardy؛ وهو ثنائي كوميدي اشتهر عبر أفلام السِّينما الأميركية، من أواخر عشرينات القرن العشرين وحتى منتصف أربعيناته. تألَّف هذا الثُّنائيّ من الإنجليزي ستان لوريل (1890-1965) والأميركي أوليفر هاردي (1892-1957)؛ ومثَّل فيه لوريل شخصيَّة الصَّديق الخبيث ولكن الطَّفولي لهاردي الرَّصين والطيِّب القلب. وثمَّة ثنائيٌّ كوميديٌّ أميركيٌّ آخر، ظهر في الإذاعة والسِّينما والتلفزيون، وكان من أكثر الفرق الكوميدية شهرة في أربعينات القرن العشرين وحتَّى السنوات الأولى من خمسينات ذلك القرن، ولاقى رواجاً طيِّباً بين النَاس؛ هو ثنائي «بود أبوت ولوي كاستيللو» Bud Abbott and Lou Costello. وقد يكون، من جهة أخرى، لمظاهر بدايات الرَّاحة النَّفسية والاجتماعيَّة للنَّاس، إثر إعلان انتهاء «الحرب العالميَّة الثانيَّة»، وانطلاق زخمِ النُّهوض الثَّقافي الذي شهدته بيروت، وبدأ لبنان يعيشه، ما ترك بصمة له على هذا التَّوجه الذي ارتآه الأستاذ «شامل».
***
ظهر «محمَّد شامل» و«عبد الرَّحمن مرعي»، قرابة اختتام العقد الرَّابع من القرن العشرين، على مسرح «الوست هول»، في «الجامعة الأميركيَّة في بيروت»، ثنائيَّاً كوميديَّاً، باسم «شامل ومرعي». لفت، هذا الثُّنائيُّ الصَّاعد، إليه الأنظار؛ وحاز دهشة جميع من شاهده وكلَّ من سمع بحواراته ونال إعجابهم. كان جمهور قاعة «الوست هول»، في غالبيَّته من المثقَّفين وأهل النُّخب الفكريَّة والاجتماعيَّة والسِّياسيَّة؛ وقد ساهم هذا في ازديادِ إعجاب كلِّ من سمع بهذا الظُّهور؛ وصار النَّاسُ في شوقٍ إلى مشاهدات جديدة ومتكرِّرة لـ «شامل ومرعي»؛ فكان أن فتحت «إذاعة الشَّرق الأدنى»، أبواب استديوهاتها في بيروت لهما؛ كما كانت قد شرَّعتها، كذلك، أمام نخبٍ من أهل الفن والثقافة في ذلك الزَّمن.
بدأت «إذاعة الشَّرق الأدنى»، Near East Broadcasting Station، البثَّ، بإدارة تابعةٍ لوزارة الخارجيَّة البريطانيَّة، سنة 1941، من مدينة «جِنين»، في فلسطين؛ ثمَّ عمد البريطانيُّون إلى نقل مكاتب هذه الإذاعة، لاحقاً، إلى مدينة «يافا»؛ التي كانت مركزاً ثقافيَّاً شديد النَّشاط والفعاليَّة في ذلك الوقت. وصار مقرُّ الإذاعة، إبَّان تصاعد الحملات الصهيونيَّة على العرب، سنة 1947، في «القدس»؛ كما جرى افتتاح استوديو تسجيل خاص بها في بيروت. ورغم كون «إذاعة الشَّرق الأدنى»، هذه، محطَّة إذاعةٍ سياسيَّة موجَّهة من قبل السُّلطات الإنكليزيِّة، فإنَّ قسم البرامج الفنيَّة فيها، حظي بحريَّة مطلقة في نشاطاته؛ وهنا يتمثَّل الدَّهاء السِّياسيُّ للإدارة البريطانيَّة في مساعيها لِجَذْبِ انتباهِ المستمعِ العربي العام إلى الإذاعة.
استقطبت «إذاعة الشَّرق الأدنى»، وقتذاك، كباراً من روَّاد من أهل الفن والثَّقافة، في أربعينات القرن العشرين وخمسيناته؛ منهم الشَّاعر الانتقادي «عمر الزِّعنِّي»، وكذلك الأدباء والكتَّاب والصحافيين أمثال «سميرة عزَّام» و«نبيل خوري» و«غانم الدَّجاني»، فضلاً عن روَّد الإخراج والإدارة الفنيَّة، أمثال «صبحي أبو لغد» و«صبري الشَّريف» و«محمَّد كريِّم» و«كامل قسطندي» و«عبد المجيد أبو لبن»، والملحنين والمغنين، أمثال «حليم الرٌّومي» و«الأخوين رحباني» و«محمد عبد الكريم» و«محمد غازي»؛ إضافة إلى الموسيقيين، أمثال «عبًّود عبد العال» و«قريد وحنَّا السَّلفيتي» و«عبد الكريم قزموز» و«إحسان الفاخوري»؛ « وقد ترك كلُّ واحدٍ من هؤلاء وزملائهم، الذين تعاونوا مع «إذاعة الشرق الأدنى»، بصمة خاصة له في مجال اختصاصه، مُذَّاك الحين، مروراً بستينات القرن العشرين وسبعيناته وربما حتَّى ما هو أبعد زمناً!
كان «محمَّد شامل»، إن جاز التَّعبير، مُهندِّس الثُّنائيّ، «شامل ومِرعي»؛ إذ انفرد برسم شخصيَّاته ووضع حواراته؛ وكانت الشَّخصية المحوريَّة للثُّنائي، والتي تفرَّد «عبد الرَّحمن مرعي» بأدائها، هي شخصيَّة «عبد العَفو الإنكشاري»، الإنسان السَّاذج الذي يواجه أحداث الحياة وأمورها وقضاياها ببساطة تقارب الغباء؛ لكنها بساطة شديدة الصدق والعفويَّة. أما الشَّخصية المواجهة لـ «عبد العفو الانكشاري»، ضمن بناية الثُّنائيّ، فلم يضعها «محمَّد شامل» ضمن اسم محدَّد، بل هي حضور قد يتجلَّى بشخص مدير مسؤول أو أب شفوق أو معلِّم مدرسة حريص أو شرطيٍّ زمِّيت؛ وكان «محمَّد شامل» من يؤدِّي هذا التَّجلِّي لشخصيَّة الثُّنائيّ الآخر. وغنيٌّ عن التَّفصيل، أنَّ دراميَّة النَّص الكوميدي كانت تنهض، ههنا، على خلفيَّات سوء الفهم أو خطأ التَّقدير، النَّاجمين عن تلاقي «عبد العفو الإنكشاري»، بسذاجته وغبائه وصدقه معاً، مع رصانة الثُّنائيّ المواجِه له، بذكائه وحصافته وطيبته في الوقت عينه.
ثمَّة إمكانيَّةٌ لعاملين آخرين، لن يمكن إهمال البحث فيهما على الإطلاق، ضمن عناصر تشكيل «محمَّد شامل» للثُّنائي «شامل ومرعي». يتجلَّى أوَّل هذين العاملين في الحضور الشَّخصي والذَّاتي لكلٍّ من «محمَّد شامل» و«عبد الرَّحمن مرعي». «شامل» الذي عركته الحياة بهمومها ومشاكلها وتحدياتها حتَّى الثُّمالة، و«مرعي» الذي لم يجد من الحياة إلاَّ البحبوحة واليسار والإقبال الفرح على وجودها. «شامل»، حامل الهم، و«مرعي»، الهازئ بالهموم. «شامل»، المتمكِّن من وضع النُّصوص التَّمثيليَّة والتَّحكُّم بمساراتها، و«مرعي»، المهتم بالأداء التَّمثيلي الذي كان يضعه «شامل». أما العامل الآخر، فقد يعود إلى ما نشأ عليهِ «محمَّد شامل» من أجواء الثَّقافة الشَّعبيَّة عبر عيشه في أجواءٍ فيها جدِّه لأمه، منشد «الموَّال البغدادي»، وجدّه لأبيه، راوي قصص عنترة وسواه في المقاهي الشعبيَّة؛ وبينهما ما يتجاذبه الناس، عهد ذاك، من مرويَّات شعبيَّة من حكايات عروض «خيال الظِّل»، وقد اشتهرت منها شخصيتان متناقضتان ومتكاملتان، في الوقت عينه، هما «كركوز»، الساذج والغبي والعفوي غير المبالي بل والمُتَبالِد؛ و«عيواظ»، الذَّكي والرَّصين والحريص والواعي وحامل المسؤوليَّة.
انطلق ثنائي «شامل ومرعي» بنجاح مذهلٍ سريعٍ وصامدٍ ومتصاعِدٍ في آن، عبر سلسلة متلاحقةٍ من الحفلات على مسرح قاعة «الوست هول»؛ وصار خلال ذلك يلبِّي دعواتٍ إلى تقديم عروضٍ له في حفلات خاصَّة في بيوت عائلاتٍ راقيةٍ، ضمن المحيط الجغرافيِّ لناس الجامعة الأميركيَّة في بيروت وأصدقائهم وبعض ناس السِّياسة والوجاهة الاجتماعيَّة. ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحدِّ على الإطلاق؛ إزداد الإقبال على الثُّنائيّ «شامل ومرعي»؛ حتَّى استقطبته «إذاعة الشرق الأدنى»، ذات الانتشار الإذاعي الواسع، زمنئذٍ، في حلقات خاصَّة، وعبر مشاركات ضمن برنامجها الثَّقافي والكوميدي الرَّائد، في تلك الحقبة، «إِنْسَ همومك»، الذي كان يٌخرجه الأستاذ محمَّد كريِّم. وكان، عند توقُّف «إذاعة الشرق الأدنى»، سنة 1965، احتجاجاً من العاملين فيها على «العدوان الثُّلاثي» على مصر، أن انتقل عمل الثُّنائيّ إلى «دار الإذاعة اللُّبنانيَّة من بيروت»، وتابع الأستاذ محمَّد كريِّم إخراج حلقات «شامل ومرعي»، التي بلغت أكثر من مئتي نصٍّ مسرحيٍّ وإذاعي، كما روى الأستاذ «محمَّد شامل» لاحقاً.
لعلَّ بالإمكان التَّأكيد، بعد هذا العرض المقتضب لجوانب من مسيرة الثُّنائيّ «شامل ومرعي»، على أمور عديدة مسكوت عنها، من واقع الحياة الثَّقافيَّة والاجتماعيَّة والفنيَّة في النّصف الأوّل من القرن العشرين في لبنان. إنَّها أمور أساسيَّة وتأسيسيَّة في آن؛ وقد بات من الواجب الوطني ومن حق الثَّقافة الوطنيَّة والوفاء لجهود ناسها، العودة إليها؛ والعمل على الإضاءة على جوانبها ودراستها؛ بل والإفادة من تجاربها وخفاياها في المراحل المقبلة من الزَّمن.
من هذه الأمور أنَّ الحياة الثقافيَّة في بيروت، ولبنان تالياً، شهدت مساعٍ كبرى من ناس البلد في مجالات عصرنة الفعل الثَّقافي والنُّهوض به. وأنَّ ثمَّة جهوداً جبَّارة وتضحيَّات جمَّة وريادات بارزة وقائدة، قامت بها نخب من شباب بيروت الرَّاقي؛ أمثال «محمَّد شامل الغول» و«عبد الرَّحمن مرعي» وصحبهما، لنشر فنٍّ مسرحيٍّ معاصر، يُراعي ما في الموروث التُّراثي لناس الوطن، من أصالة، ولا يتخلَّف عن ركب المعاصرة والعالميَّة. وأنَّ الفاعليَّة الثقافيَّة في ذلك الزَّمن تمكَّنت من توحيد جهودٍ من أبناء البيئة الشعبيَّة مع جهودٍ لأبناء الارستقراطيَّة، كما كان الحال بين «محمَّد شامل» و«عبد الرَّحمن مرعي»، في سبيل تعزيز حركة ثقافيَّة ومسرحيَّة ناشطة.
إنَّ أبناء العائلات كافَّة من بيروت، كما حال أعضاء «جمعية ترقية التَّمـثيل الأدبي» و«أسرة بيروت»، لم يتأخروا على الإطلاق عن بذل جهودهم، المعطاء والمضحية، للمشاركة في هذا التَّوجُّه الثَّقافي. وإنَّ الحركة المسرحيَّة، في النّصف الأوّل من القرن العشرين في لبنان، وجدت في مدينة بيروت أرضاً خصبةً ومجتمعاً مرحِّباً ومتعاوناً وساحةً أساساً ومنطلقاً فسيحاً لانتشارها؛ أكان ذلك بالجهود الخاصَّة والشَّخصية، أو كان عبر المؤسَّسات الجامعيَّة. وأنَّ ثمَّة روَّاد ثقافةٍ كُثر، وتحديداً من بيروت ومن أبناء أبرز عائلاتها، مثل آل «العويني» و«القاطرجي» و«اللّاز» و«مرعي» و«الغول» و«العيتاني» و«تميم» و«العريس» و« عبُّوشي» و«النقَّاش» و«أياس» و«الحبّال» و«ربيز»، قدَّموا جهودهم، بعيداً عن أيِّ مكسب مادي، في سبيل تعزيز النُّهوض الثَّقافي ورفع راية الوجود المسرحي في لبنان.
***
مِسْكُ بعضِ «المَسْكوت عنه» وعَنْبَرَه من تاريخ لبنان الثقافي
لقد بات واضحاً، أنَّه مِنَ المُجْحِفِ بحقِّ الثَّقافة الوطنيَّة، بل ومن المُعيبِ المَعْرِفيِّ العِلْمِيِّ، أن تظلَّ هذه الجهود، التي قام بها مُحمَّد شامل الغول وعبد الرَّحمن مرعي ورفاقٌ كثرٌ لهما، منذ منتصف عشرينات القرن الماضي وحتَّى مطلع ستيناته؛ وما رافق تلك الأعمال والنَّشاطات من عذابات الرِّيادة ومغامرات التَّجريب، قابعةً في الوجدان المعرفيِّ ضمن «المسكوت عنه» و«المُتجاهَل» أو «المُغْفَل»، بل وأحياناً «المرذول» أو حتَّى «المُسْتَهْزَأ به»، من تاريخ الوطن.
لعلَّ من أبرزِ أصحابِ هذه الجهود، «المسكوت عنها»، وقادة هذه الرِّيادات، المُغَيَّبُ ذِكرها، على سبيل المثال وليس الحَصْرِ على الإطلاق، ما قام به الأستاذ «أحمد دِمَشْقِيَّة»؛ وقد كان أَحَدَ أعلامِ الصَّحافَةِ، تحريراً وإنشاءً، ومن مُؤسِّسي النَّهضةِ المسرحيَّة، تأليفاً للنُّصوصِ وترجمةً لبعضها، ومن أركانِ العملِ الإذاعيِّ؛ وهو أيضاً والدُ الباحثِ اللغوي والأستاذ الجامعي المرحوم الدكتور «عفيف دمشقيَّة». ومن أصحاب هذه الجهود المُغَيَّبة الأستاذ «رشاد العريس»؛ الذي كان، فضلاً عن نشاطاته التًّأسيسيَّة في المجال المسرحي، من أبرز اختصاصيِّ التًّربية والتَّعليم المُجدِّدين في لبنان؛ إذ كان من مؤسِّسي مدرسة «بيت الأطفال»، في مدارس «جمعيَّة المقاصد الخيريَّة الإسلاميَّة في بيروت»؛ بل كان المشرف الأوَّل على هذه المدرسة، التي أصبحت واحدة من أهم المؤسَّسات التَّعليميَّة والتَّربويَّة النَّموذجيَّة للأطفال في لبنان، وباتت تُعرف في الأوساط العامَّة باسم «مدرسة بابا رشاد».
يضاف إلى كل هذا، أن من يبحث برويَّةٍ في تاريخ المسرح في لبنان، سيجد أنّ ابن بيروت، «رائف فاخوري»، كان مؤسّساً لفرقةٍ تمثيليّةٍ مارست نشاطاتها منذ منتصف العقد الأول من القرن العشرين؛ وكان من أعضائها «بيارتةٌ» منهم، «وجيه فاخوري» و«محمَّد المَسالِخي» و«محمود عيتاني» و«عمر الزّعني» و«محمَّد الصّانِع» و«عبد الحميد عيتاني» و«عفيف بَيْهُم» و«عَوْن غندور» و«خليل زَنْتوت» و«بهاء الدِّين الطبّاع» و«فَوْزي الدّاعوق» و«سعد الدِّين قباني» و«عبد الرَّحمن طيّارة». كما سيجدُ هذا الباحث، كذلك، أنّ بيروتيّاً آخر، هو «علي العريس»، وقد اشتُهِر باسمهِ الفنِّيِّ (علي مُوْمنَة)، قد أنشأ، سنة 1936 فرقة مسرحيّة تخصّصت بالمسرحِ الاستعراضيِّ، وتألّفت هذه الفرقةُ من زهاء 72 شخصاً، واستقرّت مدّةً طويلةً في «ساحة البرج»، وتحديداً في ما عرف يومذاك بــ «مسرح نادية»، في تلك المرحلة، («مسرح فاروق»)؛ وكان برنامجها يتغيّر أسبوعياً. ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ، فـلـ «علي العريس» نشاطات رائدة، مغيّبة، في مجال السينما اللبنانية وفنّ الديكور؛ ولا يمكن للمرء إلاّ أن يذكّر أنّ «العريس» قد يكون أوَّل مخرجٍ سينمائيٍّ لبنانيٍّ؛ إذ أخرج سنة 1943 فيلم «بيَّاعة الورد» وفيلم «كوكب أميرة الصحراء» سنة 1946؛ كما أنَّ ما هو قائم لليوم، من زخارف تشكيليَّة لونيّة في بهو «دار الإفتاء» في بيروت، وعند مدخل «الجامع العُمَريِّ الكبير»، هو من صنع «علي العريس». وثمّة بيروتي لامعٌ آخر، لكنه، أيضاً وأيضاً، من بين مجموعة «المسكوت عنه» هذه؛ إنَّه «عبد الحفيظ محمصاني»، الذي كان من المربِّين المرموقين في مدارس «جمعيّة المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت»، وقد شارك في النَّشاط المسرحي، خلال حقبة الثَّلاثينات والأربعينات من القرن العشرين؛ وألَّف أكثر من فرقة مسرحيَّة؛ وكان، من بين ممثلي فرقه «رشيد علامة» و«سليمان الباشا»، وقد صارا من كبار أهل المسرح والتَّمثيل في لبنان.
من هذا كله، يمكن الانتباه إلى خمس ملاحظات أساس:
1) تؤكِّد هذه الجهود على أنّ ثمّة حركة مسرحيّة كبيرة وناشطة، كانت تجري في لبنان؛ وأنَّ عدداً لا بأس به من مثقَّفي بيروت وأبنائها كانوا من أبرز النّاشطين في هذا المجال؛ وفي هذا ما يؤكِّد أساسيّة الدّور الذي قام به أبناء بيروت في دنيا المسرح في لبنان.
2) يشيرُ كون ناس هذه الفرق المسرحيَّة، من مؤسسين لها وممثِّلين فيها، ينتمون إلى معظم العائلات البيروتيَّة المشهورة؛ وكون قسماً، لا بأس به، من هؤلاء الأشخاص كان من أعضاء «جمعيّة الكشاف المسلم»، كما كان من بينهم المربُّون المشهورون في كبريات المؤسَّسات التَّربويَّة في بيروت، وخاصة مدارس «جمعية المقاصد الخيريَّة الإسلاميَّة»؛ أنّ الإقبال على النَّشاطات المسرحيّة وممارستها، كان أمرا مقبولا من النّاحية الاجتماعيَّة في بيروت، بل كان، على ما يظهر، أمراً مرحبَّاً به؛ ولا يغيبنَّ عن البال، أبدا، أنَّ «محمَّد شامل» كان، كذلك، من مربِّي المقاصد، إذ تولّى إدارة إحدى مدارسها، في منطقة «عين المريّسة»، لردحٍ طويل من الزَّمن.
3) يشير الواقعُ الحاصلُ اليوم، إلى أنَّ هذه الجهود المسرحيّة ما برحت مغيَّبة عن الدَّرس العلميِّ الرَّصين، وقلّ من عمل على الانتباه إليها وتحليلها وتثمينها.
4) إنَّ في هذا ما يؤكد على خطأ في بعضِ التَّوجُّهات السَّائدة حالياً، والقائلة بأن المسرح في لبنان ازدهر بدأً من ستِّينات القرن العشرين؛ فالمسرح المعاصر بدأ في لبنان مع «مارون النقّاش» في القرن التَّاسع عشر، وترعرع وازدهر وانتشر مع هذه النُّخّب من أبناء بيروت، في النّصف الأوَّل من القرن العشرين، ثمّ شهد منعطفا «ثقافيّا» في مسيرته منذ ستِّينات القرن المنصرم.
5) إنَّ في هذا كله ما يشدد على مصداقيَّة ِالتَّوجُّه النَّقديِّ الذي يذهب إلى أنَّ «المسرح أمرٌ مديني»؛ بل هو أمرٌ شديد الارتباط بالمدينة وناسها ومفاهيمها وقيمها.
لا بدّ من إعادة نظر حقيقيّة وموضوعيّة مسؤولة في هذه المحطَّة الثقافيَّة من تاريخ لبنان؛ ولا بدّ من إعادة اعتبار وتقدير لكثير من النّاس الذين جرى إهمالُ وجودهم والتَّغاضي عن منجزاتهم، والسكوت عن كثير من المفاهيم التي غيّبت أو زوّرت من تاريخ لبنان الثَّقافي ومن حقيقة فاعليّة دور مجتمع بيروت في مجال الفنّ المسرحي، في الحقبة الممتدّة من مطلع القرن العشرين وحتّى منتصفه. ولا بدّ، ضمن إعادة النَّظر هذه، من دراسة متأنِّيَة وأكاديميّة موثّقة لجهود الرُّواد الحقيقيين للمسرح في لبنان؛ وخاصّة لـ «محمَّد شامل»؛ الذي بدأ نشاطه منذ العقد الثَّاني من القرن العشرين، وتابع هذا النَّشاط، بعد أن توقَّف آخرون من زملائه. فـ «محمَّد شامل» هو الاستمرار الحقيقي لكلِّ الجهود، التي قدّمها المجتمع البيروتي وأبناؤه، في مجال المسرح في لبنان؛ وهي جهود طال زمان تغييبها، حتّى بات التّغيب وكأنَّهُ فعل تشويهٍ مقصودٍ للواقِعِ والحقيقةِ وتزويرٌ لهما.
________
*رَئيسُ المَرْكَزِ الثَّقافِيِّ الإِسْلامِيِّ/ صديق جمعية تراث بيروت