كتب شكري العسلي في كتابه القضاة والنواب عن القضاء في الدولة العثمانية ومما جاء فيه ان السلطان عثمان مؤسس الدولة استخدم قضاة للشرع والحكم بالدعاوى، وكانت الفتوى في عهد السلطان سليم موكولة الى عالم بالفقه وعلوم الشرع وفي عهد السلطان بايزيد الأول اسند منصب الفتيا الى محمد شمس الدين افندي. وكان المفتي ناظراً عاماً على جميع العلماء والقضاة والمدرسين .
وتم في عهد السلطان محمد الفاتح تنظيم مراتب العلماء وكان في آخر أيامه قاض واحد للعسكر – باعتبار ان العثمانيين كانوا اصلاً قبائل محاربة – فلما فتحت القسطنطينية وكثرت الأعمال قسم القضاء الى قاضي عسكر للروم ايلي أي للأراضي الواقعة في اوروبا – بلاد الروم – وقاضي عسكر الأناضولي في آسية.
تنصيب خضر بك قاضيا
ونصب خضر بك قاضياً على استانبول ومفتياًَ في مقر السلطنة واسند بعد ذلك منصب الفتيا الى رجلين شهيرين هما ابن كمال باشا وأبو السعود افندي، وكان كل منهما قاضياً للعسكر وأطلق بعد ذلك على منصب الإفتاء مقام المشيخة الإسلامية وصار هذا المنصب فوق منصب قاضي عسكر الروم ايلي وقاضي عسكر الأناضول كما اختصت به رئاسة الطرق العلمية وصار يقال لشيخ الإسلام «ولي النعم» وعّد أمر المعارف والعدل من حقوق مقام المشيخة حتى ان طلبة العلوم متى قيدوا اسماءهم في الدولة عند انجاز دروسهم عدّوا قضاة وكانت رتبة المولوية «المولى» منتهى رتب التدريس وفي سنة 1272 هـ فتح مكتب النواب وشرط ان يكون النائب من متخرجي هذه المدرسة.
ثم انقسم مستخدمو الشريعة الى قسمين الأول للفتوى والثاني للقضاء، وصار في مركز كل ولاية ولواء وقضاء مفتٍ وغدا المفتي مرجعاً لحل الأمور الشرعية وعّدا شيخ الإسلام المفتي الحقيقي وشرط في الإفتاء ان لا تعطى الفتوى لأرباب المصالح قبل تصديق شيخ الإسلام عليها.
وكما ان شيخ الإسلام يعين القضاة الموما اليهم، لا بد له كذلك من ان يخصص مفتياً لكل بلدة من البلاد التي يعين لها قاضياً ويكون من المتضلعين بمعرفة الأمور الشرعية لمراقبة ما يجريه ذلك القاضي من الأحكام الشاذة او ليستعين به القاضي في القضايا المشكلة فلا يبرم حكماً إلا من بعد ان يستشيره ويحصل على جواب ممضي ومختوم منه مبني على نص شرعي يوثق به.
وأصبح تعيين القضاة منذ صدور تعيين النواب سنة 1855 م يتم بنتيجة امتحان. وقد صنفوا الى خمس فئات هي 1) الموالي الدورية والمدرسين 2) الذين لم يسبق استخدامهم في الخدمة الشرعية سابقاً وأظهروا مقدرة لدى امتحانهم 3- 4- 5 ) من هم أقل استعداداً.
وبموجب هذا النظام حصرت النيابة الشرعية في مقر الولاية بالفئة الأولى وجعلت مدة النائب في القضاء القريب من مركز الولاية ثمانية عشر شهراً وفي القضاء البعيد سنتين قابلة للتجديد.
ولم تكن مدة ولاية قاضي بيروت قبل جعلها من الموالي الوردية ، محددة بمدة زمنية معينة. وكانت هذه المدة تخضع لعدة عوامل سياسية واجتماعية وكانت تنتهي بالاستقالة أو الإقالة أو بنقل القاضي أو وفاته.
اما القضاء فيتولاه شيخ الإسلام من السلطنة وكان مجلس انتخاب الحكام ينتخب الحكام ويصادق عليه شيخ الإسلام ويختمه قاضي عسكر وهكذا حصر امر القضاء في قاضي عسكر الأناضول الذي غدا قاضياً على آسيا وإفريقيا ، وقاضي عسكر الروم ايلي الذي غدا قاضياً على الروم ايلي ( الأرضي الواقعة في اوروبا).
اما بقية البلاد فيحكمها «نواب» هؤلاء القضاة فلكل مركز ولاية نائب ولكل مركز لواء نائب ولكل مركز قضاء نائب.
فنواب آسيا وإفريقيا هم نواب قاضي عسكر الأناضول ونواب اوروبا هم نواب قاضي عسكر الروم ايلي وكان للنيابة رتب منها خامسة ورابعة وثالثة ومسبوق ومستخدم الخ.
ويعود أصل إطلاق كلمة النائب على القاضي الى مفهوم الإنابة القضائية المعروف في الإسلام. فالسلطان او الخليفة هو صاحب السلطة القضائية التي يفوضها من يشاء كي ينوب عنه في ممارستها لإحقاق الحق وتحقيق العدالة. وقد عبر عن هذه النيابة الشيخ احمد العريشي قاضي عسكر مصر رداً على سؤال علماء الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798م والمتعلق بتنظيم القضاء في مصر فقال في جوابه «وأما صفات وكيفية لبسهم هما كنايتان عن إذن كبير القضاة لهم بسماع الدعوى وفصل الخصومات وكتابة الوقائع الشرعية وقيدها في السجلات المحفوظة ويكون المأذون نائباً عن موليه».
أول نائب شرعي لبيروت
يذكر أن أول نائب شرعي عين لبيروت من قبل قاضي عسكر الأناضـول هـو حالت خليل بيرامي من خريجي معهد القضاة في إسطنبول بعد أن جعلت بيروت مولوية دورية يعين نائبها الشرعي من خريجي المعهد المذكور.
وقد وصل النائب المذكور الى بيروت في محرم سنة 1267هـ /1850م وافتتح سجله الشرعي بعبارة « الحمد لله الذي شرع كتب الصكوك والسجلات تحرزاً عن ضياع حقوق المسلمين والمسلمات والصلاة والسلام على نبيه محمد أفضل الأنبياء في الهدايات وعلى آله وأصحابه واضح الحجج والبينات ، وبعد فهذه اتخذت جريدة جيدة بكتب الصكوك والسجلات في زمن العيد المفتقر الى كرم ربه الجليل بيرامي زاده السيد حالت خليل القاضي بمدينة بيروت عفي عنهما لسنة سبع وستين ومايتين بعد الألف في غرة محـــرم الحرام».
واستقبله الشيخ أحمد الأغر ومدحه بقوله:
أصبحت بيروتُ في الأنس الجليل ورغيد العيش والخير الجزيلْ
وأمــــانٌ وبهــــــاءٌ وصفــــــــــــا وهواءٌ رايقٌ يشفي العليل
وغدت للائذيــــــن حرمــــــــــــاً حيث فيها حلّ مولانا خليل
الإمـــام الجهبـــذ الحاكـــمُ فيـ ها بشرع الله في أقوى دليل
هاكمُ مولــــى غدت نصول أحـ كامه أمضى من السيف الصقيل
قاطع في حكمــــه بالحــــق أعـ نـاق بُطلٍ وأباد الدرخبيل
فطوى الظلم بنشـــر العدل في حكمه بين عزيزٍ وذليل
حبرُ علـــمٍ بحرُ حلـــمٍ زاخــرٌ برُ فعلٍ ربُّ فضلٍ وجميل
جامعُ الخيـــر ومفتـــاحُ السعادة كنزُ الدرّ مختار النبيل
________
*مؤرخ/ عضو شرف جمعية تراثنا بيروت