كان قضاة الشرع بوجه عام يشكلون المحاكم العادية حتى أوائل الخلافة العثمانية استثني منها بعض قضايا العائلة التي كانت تمارسها المحاكم الكنسية، وقضايا الأجانب التي كانت من اختصاص المحاكم القنصلية بموجب نظام الامتيازات الأجنبيـة. وفيما عدا هذه المستثنيات، كان القضاء الشرعي هو القضاء العادي في الأحوال الشخصية والمالية والعقوبات .ومنذ أواسط القرن التاسع عشر بدأت موجة التنظيمات العثمانية فأصدرت الدولة قوانين عديدة مقتبسة عن القوانين والأنظمة الأوروبية – وذلك بعد إعلان «خطي شريف همايوني» سنة 1272 هـ – أمثال قانون التجارة وقانون الجزاء الهمايوني.
عندما صدر نظام تشكيل الولايات في 7 جمادى الآخرة سنة 1281 هـ/1864 م نص على إقامة ديوان تمييز في الولايات تنظر في أمور الجنايات ترفع أحكامه إلى الوالي فيصدق الأحكام إذا كان من صلاحيته، وإلا فيرفعها إلى ديوان التمييز في استانبول.
أما في مركز اللواء – كانت بيروت مركز لواء حتى سنة 1887م عندما أصبحت مركز ولاية – فيشكل مجلس تمييز حقوقي برئاسة الحاكم الشرعي (النائب).
أصدرت الدولة العثمانية، قوانين مقتبسة من الشريعة الإسلامية كمجلة الأحكام العدلية الذي استغرق العمل بها سبع سنوات من قبل جمعية خاصة من العلماء سميت «مجلة جمعيتي» اشترك في تنظيمها لجنة من ناظر ديوان الأحكام العدلية أحمد جودت ومفتش الأوقاف الهمايونية خليل وأحد أعضاء مجلس شورى الدولة سيف الدين، وأحد اعضاء ديوان الأحكام العدلية أحمد خلوصي وأحمد حلمي من أعضاء ديوان الأحكام العالية. واحمد أمين الجندي من أعضاء مجلس شورى الدولة. وعلاء الدين إبن عابدين من أعضاء الجمعية.
وقدمت اللجنة تقريراً إلى الصدر الأعظم في غرة محرم 1286هـ/ 1869م صرحوا فيه بأنهم رتبوا المجلة عن المسائل والأمور الكثيرة الوقوع مجموعة من أقوال السادة الحنفية. أعطيت نسخة منها لمقام مشيخة الإسلام ونسخ أخرى لمن له مهارة ومعرفة كافية في علم الفقه وبعد إجراء ما لزم من التهذيب والتعديل فيها حررت منها نسخة عرضت على الصدر الأعظم. وقد صدرت إرادة سنية للعمل بها في شعبان سنة 1292هـ/1876م.
وتضمنت كتب المجلة الستة عشر (1851) مادة وضمت ما يلي: المقدمة وفيها بيان القواعد الفقهية او القواعد الكلية وضعت في مائة مادة منها: الضرورات تبيح المحظورات ولا ضرر ولا ضرار وإذا زال المانع عاد الممنوع ولا ينكر تغير الاحكام بتغير الازمان وإذا سقط الاصل سقط الفرع وإعمال الكلام اولى من إهماله ولا ينسب لساكت قول والغرم بالغنم ومن سعى لنقض ما تم من جهته فسعيه مردود عليه الخ.
ويختص الكتاب الأول ببيان الاصطلاحات الفقهية المتعلقة بالبيع والثاني بالإيجارات والثالث بالكفالة، والرابع بالحوالة، والخامس بالرهن، والسادس بالأمانات والسابع… والثامن بالغصب والإتلاف والتاسع بالحجر والإكراه والشفعة، والعاشر بالشركات والحادي عشر بالوكالة، والثاني عشر بالصلح والإبراء والثالث عشر بالأمور المتعلقة بالإقرار أما الرابع عشر فيختص بالدعوى، والخامس عشر بالبينات والتحليف والسادس عشر بالقضاء.
وقد شرحها علي حيدر رئيس محكمة التمييز في الاستانة وأمين الفتيا وناظر العدلية الاسبق ومدرس المجلة في مدرسة الحقوق. وعرّب الشرح المحامي فهمي الحسيني كما شرحها بالعربية سليم رستم باز.
وكان السلطان قد أنشأ سنة 1288 هـ/1869م المحاكم النظامية إلى جانب القاضي الشرعي. ولم يكن اختصاص هذه المحاكم النظامية إلا في القضايا التي نص على موضوعاتها بإرادة سنية وما عدا ذلك يبقى من اختصاص القاضي الشرعي كمسائل الأحوال الشخصية سواء العائلية منها كالزواج والطلاق والنسب أم المالية كالنفقة والولاية والوصاية والحجر والمواريث، إضافة إلى الأوقاف. وذلك حتى سنة 1912م عندما صدر قانون الأصول الشرعية الذي أورد بشكل محدد المسائل التي ينظر فيها القاضي الشرعي.وفي 30 ايلول 1330 مالية (1912م) صدر قانون توجيه الجهات بالفصل بين السلطات القضائية النظامية والشرعية.
وقد لاحظنا ان تقنين مجلة الاحكام العدلية سهل على القضاة الفصل في الدعاوى وخفف من لجوئهم الى الفتاوى.
اختصاص القاضي الشرعي بسماع وتسجيل البيوعات العقارية
يتضح من الصكوك الشرعية القديمة أن القاضي الشرعي في بيروت أحمد الأغر الذي تولى القضاء سنة 1224 هـ/1810م كان يفصل في جميع الدعاوى الحقوقية الإسلامية وفي الدعاوى الحقوقية المختلطة بين المسلمين والنصارى وفي المشاكل الحقوقية النصرانية وذلك بين نصارى المدينة بعضهم مع بعض، وبين نصارى الجبل المجاورة.
في حزيران 1864م نشر إعلان بوجوب تحرير حجج الأملاك في المحكمة الشرعية وجاء فيه «بما أنه لحد الآن لم يصر حفظ الأصول المؤسسة بتحرير الحجج الشرعية في المحكمة المطهرة بكل ملك يباع ويشترى أو تجري عليه مقاسمة الشركاء كما يقتضي، بل قد يشاهد بعض حجج صار تحريرها في الخارج.
وحيث عن كون ذلك مغايراً للأصول الشرعية إلا أنه أيضاً هو السبب الأقوى لتشويش دفاتر الأملاك التي من نظامها أن لا تجري بها الانتقالات بدون حجج شرعية. وكذلك على الأهالي يوجد المحذور أرضاً بالمنازعة والدعاوى بالمستقبل لعدم وجود سند شرعي يضمن ذلك لأنه غني عن البيان أن هكذا أوراق خارجة لا يعتمد عليها قطعا، فلأجل التخلص من هذه الغوايل المحذورة وراحة الحكومة والأهالي يقتضي كل شارٍ وبايع أو مقاسم أن يحرر حجته في المحكمة المطهرة ثم يحضرها لدايرة الأملاك لكي تصير الانتقالات بموجبها، وكل من خالف ذلك فعدا عن ان لا تسمع له دعوى بالمستقبل مطلقاً بموجب ورقته المحررة خارج المحكمة لا شرعاً ولا نظاماً بل فوق ذلك كل من يظهر انه مستند على هكذا أوراق تجري بحقه المجازاة قانونا.
ولأجل اجراء التحريرات والتنبيهات اللازمة بهذا الخصوص فبحسب الأمر الكريم المشيري قد صار نشر هذا الإعلان».
وصار توضيح معاملات نقل الملكية سنة1881م كما يلي: يقدم البائع معروضاً يحال الى قلم الطابو ويستحضر ورقة النمرة من قلم الأملاك وشهادة المختارين ويدفع الرسم ويجري قيد معاملات البيع في قلم الطابو. ثم يذهب أحد كتاب الطابو والعاقدان إلى حضرة النائب الشرعي لإجراء البيع إذ هو المكلف وعليه المعول في إجراء عقده. ثم يذهبوا جميعاً لإجراء ذلك في مجلس الإدارة أيضاً ولا يمكن إجراؤه إلا بحضور عضوين على الأقل كما أنه لا يتم بيع مطلقاً بدون إجراء الحاكم الشرعـي.
أما الوكالة عن البائع إذا لم يحضر نفسه فلا يمكن قبولها الآن إلا بتسجيل التوكيل بحضور مأمور من طرف المحكمة الشرعية وحضور معرفين ويجري قيد ذلك في جريدة مخصوصة تكون مع المأمور الموما إليه ويمضي عليها الأصيل والوكيل والمعرفون ثم يحرر إعلام بذلك من الحاكم الشرعي يبيع الوكيل بموجبــــه».
الاعتراض على صلاحية القاضي الشرعي
ويتبين بعد الفصل بين المحاكم الشرعية والنظامية إن القاضي الشرعي كان ينظر بدعاوى بيع العقارات والمنقول وبالمنازعات الناشئة عن حقوق الجوار كفتح شبابيك والمطلات وبدعاوى الشفعة والبيع الوفائي والرهن والحجر وتحرير التركات وحصر الإرث والوصاية وإثبات إعسار المدينين مسلمين ومسيحيين والدعاوى الناشئة عن الزواج والطلاق بين المسلمين وتسجيل إقرارات إعتاق الأرقاء وسماع التوكيلات وتصديقها وإثبات أهلة شهري رمضان وشوال وتسجيل الأوقاف والمنازعات بين المستحقين وتأجير الوقف والحكر والجدك. والتولية ومحاسبة المتولين وعزلهم .وتعيين أئمة الزوايا والمساجد.
يذكر أن مسألة صلاحية المحكمة الشرعية في بيروت أثيرت سنة 1324هـ بدعوى محاسبة ورثة على شريك مورثهم وقد مثل فيها عن المدعى عليه المحامي أسعد الخوري إبراهيم الكعدي ودفع بعدم صلاحية المحكمة الشرعية لكون الدعوى خارجة عن وظيفتها متذرعاً بإرادة سنية مؤرخة في 16 رجب 1315 هـ/1897م المتضمن تفريق وظائف المحكمة الشرعية عن وظائف المحاكم النظامية وأن الدعوى من وظيفة المحكمة التجارية وأن ثبوت دعوى الشركة هي من صلاحية المحاكم التجارية وتبين أن الصلاحية قد اثيرت قبلاً ورفع أمرها إلى جانب الفتواخانة في اسطنبول، فحكمت بصلاحية المحكمة الشرعية.
ويذكر أن المحامي نخلة الشامات بوكالته عن محيي الدين الصمدي كان ادعى أمام المحكمة الشرعية ببدل إصلاحات دفعت عن مأجور في محلة النورية قرب كنيسة مار جرجس المارونية فقرر القاضي بهاء الدين في 20 رجب 1332 هـ/1914م «بما أن المدعى عليه لم يجب على الدعوى وأن هذه الدعوى هي عبارة عن دعوى إجارة وإذن بصرف ما ذكر على المأجور حسب ما هو مشروط بالمقاولة وهي ليست من الدعاوى العائدة وظيفة إلى المحكمة الشرعية بل لها الحق بسماعها عند تراضي الطرفين ، فعرف وكيل المدعي بأنه مختار بإقامتها في المحاكم العائدة رؤيتها إليهــا».
يشار اخيراً الى أن جنايات القتل كانت قبل فصل المحاكم تنظر في مجلس شرعي يعقد في مجلس تمييز لواء بيروت حيث يصار بعد التحقيق وسماع الشهود الى تحديد الدية أو الحكم بالقود أي بالإعدام إلا إذا عفا أهل القتيل فتطبق عقوبة المؤبد.
________
*مؤرخ/ عضو شرف جمعية تراثنا بيروت