زياد سامي عيتاني*
ذهبية اللون، دائرية الشكل، مرصعة بحبات السمسم الماسي، عابقة برائحة العز والعنفوان، مصنوعة بأياد لم تتلوث بالفساد ولا التلوث، ترمز إلى الأصالة والتاريخ، تختزل حقبات من زمن مضى، مرتبطة بذاكرة وطنية، تعود إلى زمن الإستقلال، حطمت كل أشكال الطبقية والتمايز الإجتماعي، تحولت إلى رمز للعدالة الإجتماعية، شاهدة على سقوط الإمتيازات والفوارق…
ليست جوهرة، ولا حجر كريم، ولا قطعة نفيسة، ولا أيقونة نادرة، ولا تاج ملكي معلق في متحف منسي؛ بل هي ببساطة “كعكة أبو علي” التي تفوقت على كل الساسة، بأنها تمكنت من أن توحد اللبنانيين، كل اللبنانيين بمختلف أطيافهم وطوائفهم وأذواقهم وتأثرهم وتفاعلهم مع كل الحضارات والثقافات المستلبة؛ فجمعتهم موحدين متراصين متحابين على حب الوطن والإنتماء إليه عن طريق الامعاء المتفوق على العقل؛ حتى صارت “كعكة أبو علي” توازي، لا بل تفوق في دلالتها وقدسيتها عند اللبنانيين “الأرزة” المخلدة لفكرة لبنان الوطن، الذي لم يبن بعد!
فمن منا ليس له الكثير من ذكريات والحنين مع “كعكة العصرونية”؟
تعود إلى أيام الطفولة والصبى، عندما كان بائع الكعك يجول في شوارع وأزقة بيروت العتيقة وكورنيشها البحري، واضعاً على رأسه “فرشاً” خشبياً تصطفّ عليه كعكات طازجة وساخنة، محمّرة ومغطاة بالسمسم اللذيذ، كأنها فاتنات تتباهَين بجمالهن، تفوح منها رائحة ذكية، رائحة البركة والأيام الحلوة، منادياً بأعلى صوته: “كعك كعك، عصرونية يا كعك.. يا كريييييم..”
ما يحدونا للحديث عن “كعكة أبو علي” في زمن العوز والعجز، بعد بروز أزمة رغيف قديمة متجددة، حيث أن الخبز لم يعد كفاف يومنا، هل من الممكن أن تصبح هذه “الكعكة” بديلاً عن الخبز الذي يسمى “العيش”، ليتمكن اللبناني من العيش في وطن “العيش” على طريقة ما نسب إلى “ماري أنطوانيت” (بغض النظر عن صحة رواية جان جاك روسو)!؟ أم أن حتى “الكعكة” التي كانت زاد الفقير ومتعة الغني، ستصبح من كماليات الميسورين وطبقة الحكام، ومن المحرمات على باقي الناس، الذين سيكونون عاجزين عن تأمينها!؟ وبالتالي تصبح شاهدة على الإنهيار الإجتماعي!؟
بإنتظار ما ستحمله لنا الأيام، نعود بالذاكرة إلى ذلك اليوم التي كانت “كعكة أبو علي” مصدر سعادة وفرح لكل من يتذوقها إما من فرنه مباشرة، وإما من بائع متجول في زمن الرخاء والنفوس الهادئة.
فكم كنا نقف ونحن صغاراً في موقف لا يخلو من “الشقاوة” عند نافذة منازلنا أو شرفاتها المطلّة على الشارع، نترقّب وصول ذاك الرجل المسنّ الطيّب المنادي على الكعك!؟ فتعلو أصواتنا مقلدين صيحاته لتتحول إلى “سمفونية بريئة”، تقابلها إبتسامة الرجل، رغم علامات التعب والإرهاق على وجهه المفعم بأمل الحياة…
وما أن ينزل “فرش” الكعك عن رأسه ويضعه على القاعدة الخشبية حتى يتحلق حوله الناس من كل الأعمار للحصول نصيبهم من كعكة أو “قليطة” بعد رشها بالزعتر والسماق، قبل أن يزورها التطور بإضافة الجبنة وغيرها من النكهات، التي أفقدتها مذاقها الأصلي.
يومها كانت رائحة “الكعكة” المتغلغلة في مختلف حواسنا دون إستئذان، كانت تهزم قدرتنا على مقاومتها، لم نكن نقوى على الصمود أمامها، تجذب أنظارنا، تغازل أحشاءنا، نستسلم لها، ونلتهما بشغف شديد.
مع تقدم الزمن، تطورت المهنة بإستخدام عربة الجر، مع سخان لتسخين الكعك وإضافة الجبن إليه، ثم إعتمدت صيغة الكعكة أفران تفننت في إنتاجه، وصنعت منه أشكالاً مختلفة.
صحيح أن “الكعكة” إرتبطت بإسم أبو علي حطيط الآتي من الجنوب والمواكب لصناعتها في بيروت منذ العام ١٩٤٠، لكن في الواقع إن عجينتها أخترعها أحد أبناء مدينة طرابلس، لتصل لاحقاً إلى بيروت، مع إدخال تعديل على الشكل دون المحتوى والمكونات، لتأخذ شكل الحلقة الذي نعرفه.
ويختصر أبو علي حطيط (المؤسس الحاضر رغم رحيله)، وفرنه الصغير الذي لم تغره آلات الخبز الحديثة، بل بقي محافظاً على بيت النار الحجري، وسقف المخبز المصنوع من الطين بشكل العقد التاريخي، وكأنه يعود الى ايام الحكم العثماني للبنان، حيث عجين الكعك متراص على ألواح خشبية، بعد الإنتهاء من عملية تحضيره التي تستغرق حوالي ثلاث ساعات، حيث أن العجين بعد أن يعجن بإضافة الماء والخميرة والملح له، يغطى بقماش من الخام لمدة ساعة حتى يختمر، بعد ذلك يتم “طبشه” أي رقه ورشه بالسمسم، تمهيداً لإدخاله إلى بيت النار المكون من حجارة نارية قادرة على تحمل درجات حرارة مرتفعة جداً، تجعل الكعكة تنضج بسرعة لا تتعدى بضع ثوان، وتأخذ شكلها المميز. وعندما تبرد، تعلق بشكل متناسق في “مشاكيك” بواسطة خيط، لتصبح جاهزة ساخنة مقمرة تقرمش بين الأسنان.
________
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي. عضو جمعية تراث بيروت.