عُمَر حَمَد: ملامح من حياته وشعره وبيئته.. (الحلقة الثالثة) الطَّالب والمَدرسة والسياسة

بيروت كما كانت تبدو سنة التحاق حمد بالكلية العثمانية الإسلامية 1905
الدكتور وجيه فانوس*

لم يلتحق «عُمَر حَمَد»، بمدرسة تقليديَّة، مما كان منتشراً في بيروت ذلك الزَّمن؛ لكنَّ هذا الفتى، المحب للعلم والنَّاهد إلى ذرى المعرفة، انتسب إلى صرح علمي كبير في زمانه؛ إذ التحق بـ «الكُلِيَّة العُثمانِيَّة الإسلامِيَّة» في بيروت، لمؤسِّسها «الشَّيخ أحمد عبَّاس الأزهري». لم تكن هذه «الكُلِيَّة» مجرَّد مدرسة أو معهد لتدريس العلوم ونقل بعض المعارف، بل كانت مؤسَّسة تربويَّة ذات رسالة محدَّدة وواضحة تسعى إلى إعداد طلاَّبها ليكونوا أهلاً لمواجهة المستقبل كما تتطلُّبه حاجاتهم الشَّخصيَّة السامية، واحتياجات بلادهم وطائفتهم ودينهم(1). وواضح أنَّ «الكُلِيَّة العُثمانِيَّة الإسلامِيَّة» كانت تطمح إلى تأسيس فكر ووجود متميّزين عمَّا تقدِّمه المدارس التَّبشيريَّة الأجنبِيَّةِ المعاصرة لها، والأخرى المحلِيَّة الطَّائفية، كما تلك التَّابعة للسُّلطة العُثمانِيَّة الحاكمة. ولعل ما يقال حول جهود الطلاب الذين تخرّجوا منها وأعمالهم، لخير دليل على رغبتها في المثابرة والإصرار على تحقيق هذا الهدف.

ظهرت «الكُلِيَّة العُثمانِيَّة الإسلامِيَّة» مؤسَّسة متكاملة كما يبدو؛ إذ فيها قسم نهاري، للدراسة المنهجيَّة، وآخر مسائي، يسعى إلى مساعدة الطلاب على مراجعة دروسهم وإنجاز الفروض المعطاة لهم في النَّهار، وكان فيها، كذلك، قسم خاصٌّ لمبيت الطلاَّب والأساتذة. وفي تلك الكُلِيَّة، واستناداً إلى صورة لطلاَّبها مثبتة في طبعة كتاب «كيف ينهض العرب»، الذي صدر ضمن مجموعة الأعمال الكاملة لـ عمر فاخوري سنة 1981، يجد الباحث أنَّ من رفاق «عُمَر حَمَد»، عهد ذاك، مجموعة أصبحت من أبرز رجالات البلد في ميادين الثقافة والفكر والسياسة والطّب منها: «بهاء الدِّين الطبَّاع»، و«بشير النقَّاش»، و«عمر فاخوري»، و«عمر الزّعِنيّ»، و«معروف الأرناؤوط»، و«مليح سِنُّو». ويبدو من ملامح القوم، في الصورة المثبتة في الكتاب، أنَّ «عُمَر حَمَد» كان أكبر منهم سناً؛ بل وفي مرحلة دراسة أكثر تقدّماً من مرحلتهم(2). وهذا الأمر يتأكَّد من كلام «أحمد حمد» الذي يقول إن «الشَّيخ عبَّاس الأزهري» تكفَّل بمصاريف دراسة «عُمَر حَمَد» في سنته الدراسيَّةِ الثَّالثة من المنهج التَّعليمي، ثم كلّفه القيام بمهام الأشراف على تدريس التَّلاميذ في القسم المسائي، وأمَّن له إقامة دائمة في المدرسة باعتباره طالباً داخلياً(3).

حقَّق «عُمَر حَمَد» حلمه الأوَّل، وهو ما يزال فتى طريَّ العود؛ وهنا قد يميل الباحث إلى تأكيد شهادة «عمر فاخوري» حول سِن «عُمَر حَمَد» يوم التحق هذا الأخير بـ «الكُلِيَّة العُثمانِيَّة الإسلامِيَّة». فإذا ما كان «حمد» التحق بالكُلِيَّة سنة 1323هـ (1905-1906)، فمن الطَّبيعي أنَّه، وبعد أربع سنوات من هذا التَّاريخ، أصبح في سن السَّادسة عشرة؛ وهذه السِّن تخوِّله مبدئيَّاً، القيام بالإشراف على تنفيذ تلاميذ المرحلة الابتدائيَّة لدروسهم. بينما لو أخذ المرء حسابات «أحمد حمد»، من دون سواها، في اعتباره لكانت سن «عُمَر حَمَد»، عهد ذاك، حوالي إحدى عشرة سنة؛ وهذا الأمر قد يجعل أمر إشراف «عمر حمد» على تدريس التَّلاميذ في المرحلة الابتدائيَّة مستبعداً أو ضعيف الاحتمال، خاصَّة وأن هؤلاء التَّلاميذ هم، مبدئيَّاً في مثل سنِّه أولاً، ولا بدَّ لهم من أن يكونوا، في مستوى صفِّه الدِّراسي. الأمر الآخر، هو إقامة «عُمَر حَمَد» في القسم الدَّاخلي، وهذه ربما كانت مستبعدة لطفل في عامه العاشر يعيش بعيداً عن أهله.

ويمكن القول، من تحليل أخبار هذه المرحلة، أن «عُمَر حَمَد» كان يعيش مع أسرة محدودة الدَّخل، عجزت عن تعليمه، فحصّل العِلم، في صفوف «الكليَّة العثمانيَّة الإسلاميَّة»، بمنحة «مقاصديَّة»؛ ثم تمكَّن، بجهده وتفوّقه، أن يحظى برعاية مدرسته؛ التي أمَّنت له العمل والإقامة في رحابها. طالبٌ عصاميٌّ، ومتعلِّمٌ فَذٌّ بارز بين أقرانه. في رحاب «الكُلِيَّة العُثمانِيَّة الإسلامِيَّة» كان طالب، آخر فيه ملامح كثيرة تشابه ما كان عند «عُمَر حَمَد»؛ إنَّه طالبٌ درس في «الكُلِيَّة»، ثمَّ عُهِدَ إليه، أيضاً، بتدريس التلاميذ الذين دونه في المستوى الدِّراسي، وكان له أن يحصل، كذلك، على إقامة في «الكُلِيَّة»، بل وظيفة فيها؛ وكان يكبر «عُمَر حَمَد» بحوالي ثلاث سنوات. وكان من الطبيعي أن تنمو صداقة بين هذين الزَّميلين، وكان لهذه الصَّداقة أن تتفاعل وتكبر حتى تصبح سيرة حياة، ورفقة جهاد، وشراكة استشهاد. هذا الطالب كان اسمه «عبد الغَني العْريِّسي». والعريِّسي يشترك مع «عُمَر حَمَد» في أن جدَّه «عبد الرَّحمن العريسي» اللِّيبي الأصل، قد وصل إلى بيروت مهاجراً من مصر(4). ولعلَّ هذا الجدُّ وصل إلى بيروت في عين الظُّروف والأسباب التي وصل فيها جدُّ «عُمَر حَمَد»! بيئة مشتركة، وظروف واحدة، والحصاد واحد؛ مع فارق بسيط، هو فارق السِّن بين الشَّابَّين، وما قد يتبعه من فارق في التَّجربة والنُّضج. فـ «عبد الغني العريسي»، الذي سطّر صفحات جهاده المعروفة، يعتبر واحداً من أبرز النَّاشطين والمفكِّرين والدُّعاة إلى «المؤتمر العربي في باريس»، وما سبق هذا المؤتمر أو نتج عنه من أحداث.

عبد الغني العريسي

الكُلِيَّة العُثمانِيَّة الإسلامِيَّة» في عهد تلمذة «عُمَر حَمَد» فيها، كانت خليَّة نحل فكريَّة وسياسيَّة؛ كما كانت مدرسة تعلِّم الأجيال أصول التَّربية والمعارف؛ ولا يمكن لأيِّ باحث أن يُهمل فاعِليَّة هذه الكُلِيَّة في العمل السِّياسي في تلك المرحلة. فمؤسِّس الكُلِيَّة، «الشِّيخ أحمد عبَّاس الأزهري»(5)، أشرف بتصميم على إعداد أفواج تتوقد فيها شعلة اليقظة العربية وتنادي بالحرية. وكان معه في بداية الأمر «عبد القادر قبَّاني»، ثم شاركه في إدارة المدرسة الدكتور «بشير القصَّار»، كما هو معروف؛ وكان معهما، فيما بعد، «عبد الغني العريْسي». ولعل توجُّه المدرسة السِّياسي يظهر واضحاً من خلال نشاطاتها في إقامة المهرجانات الخطابيَّة، ذات التَّوجُّه العربيِّ، والملتقيات الشِّعريَّة، الحاضَّة على قيم آداب العربيَّة، في باحته؛ والتي كان «عُمَر حَمَد» واحداً من أسياد منبر الشِّعر فيها، أو من خلال الأفكار التي انتشر خرِّيجوها وأبناؤها ينادون بها ويمارسون العيش من خلالها؛ كما فعل «عبد الغني العريْسي»، و«عمر فاخوري»، و«عادل أرسلان»، و«رياض الصُّلح»، و«شكيب الجابري»، و«عمر الزِّعْنِّي»، و«نجيب بليق»، و«عبد الله اليافي»، و«عبد الله المشنوق». ويلاحظ الباحث أن ثمة خيطاً يربط فكر كل هؤلاء ويتجسّد في العمق العربي الإسلامي، مع كل ما في خصوصيَّة ممارسة كل واحد منهم. ولعل دراسة تركِّز على استكشاف آفاق ودوافع هذا الوجود الفكريِّ الاجتماعيِّ والسِّياسيِّ، القمينة باهتمام الباحثين والدَّارسين، لخريجي «مدرسة الشَّيخ عبَّاس»، كما شاع اسم الكُلِيَّة فيما بعد.

أمضى «عُمَر حَمَد» فتوَّته، إذن، في «الكُلِيَّة العُثمانِيَّة الإسلامِيَّة»، تلميذاً ومدرِّساً، وخطيباً، منفعلاً بالجوِّ العام الذي كان فيها. ثم كان له أن يمشي بقية مشوار العمر مع عبد الغني العريسي. لقد اشتهر «عُمَر حَمَد» بين رفاقه في الكُلِيَّة بأنَّه «الشَّاعر»؛ وإلى هذا يُشير «عمر فاخوري»، في مقدِّمته لـ «ديوان عمر حمد». وواقع الحال، فإنَّ معظم قصائد «حمد»، ألقيت من منبر «الكُلِيَّة»، كما يلاحظ قارئ «الدِّيوان». وفي هذه القصائد، كما في بقيَّة ما نظمه «عُمَر حَمَد»، جَوُّ «الكُلِيَّة الإسلامِيَّة»، وإشعاعٌ فكريٌّ سياسيٌّ عربيٌّ كان قد بدأ يتفتَّح بقوَّةٍ وإصرارٍ في البلاد. وفي هذه الأثناء أسِّست جريدة «المُفيد»(6)؛ وفي «المُفيد» نشر «عمر حمد» قصائد له، كانت مدخله إلى عالم الممارسة السِّياسيَّة العلنيَّة؛ وكانت، كذلك، مفتاحاً للسُّلطة الحاكمة لبداية اضطهادها للشَّاعر الفتى وملاحقته.

هوامش:

(1) – سراج الدين أحمد، «الحركة التربوية وتطوّرها في سورية ولبنان خلال القرن التاسع عشر»، مقالة نشرت في مجلة الأبحاث، السنة الرابعة، الجزء الثالث، أيلول 1950، ص. 333.

(2) – فاخوري عمر، كيف ينهض العرب، منشورات دار الآفاق الجديدة، 1981، بيروت ص. 183.

(3) – حمد عمر، ديوان الشهيد، ص. 130.

(4) – العريسي عبد الغني، مختارات المفيد، تقديم ناجي علوش، دار الطليعة، بيروت، 1981، ص. 11.

(5) – شحادة مهى، الإنتاج الفكري لعلماء السنّة في لبنان، دراسة أُعدّت لنيل شهادة الجدارة في علم اجتماع المعرفة من الجامعة اللبنانية؛ معهد العلوم الاجتماعية – الفرع الأول، 1980 – 1981، ص. 10.

(6) – صدرت «المفيد» سنة 1909. أصدرها عبد الغني العريسي وفؤاد حنتس، وواصلت الصدور حتى سنة 1915. ولقد توفى فؤاد حنتس سنة 1913، فحلّ محله عارف الشهابي. لمزيد من التفاصيل راجع: العريسي عبد الغني، مختارات المفيد، ص. 11-12.

________

 *رئيس المركز الثَّقافي الإسلامي

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website