يَذْهَبُ «عُمَر فاخوري»، في المُقدِّمةِ التي وضعها «لديوان الشَّهيد «عُمَر حَمَد»، إلى أنَّ الشَّاعرَ وُلِدَ سنة 1311 هجريَّة، وهذا التَّاريخ يُوافِقُ 1893-1894 ميلاديَّة. ويُتابع الفاخوري قائلاً: إنَّ «عُمَر حَمَد» مصريُّ الأصلِ، انتقلَ جدُّه من أرضِ الكنانة إلى بلدنا أيَّام حُكْمِ الأميرِ بشير الشّهابي». ولربَّما مالَ الرّأيُّ، ههنا، إلى القولِ بأنَّ هجرةَ هذا الجدّ، حصلت إبَّانَ «حملةِ إبراهيم باشا المصري»(1) على المنطقةِ سنة 1831. ويذكرُ الفاخوري أنَّ «عُمَر حَمَد» تلقَّى تعليمه الأوَّل في «مدرسةِ الشَّيخ شاتيلا» في بيروت، وفيها خَتَمَ قراءةَ القرآنِ الكريمِ للمرَّة الرَّابعة؛ وكانَ عمره، عهدَ ذاك، تِسع سنوات. ويتَّفقُ الفاخوري مع شقيقِ الشَّاعرِ، على أنَّ والد «عُمَر حَمَد» تُوفِيَ قبلَ أن يبلغَ الشَّاعرُ التَّاسعةَ من سنيِّ عُمره. وهذا يعني أنَّ «عُمَر حَمَد» واجهَ اليُتْمَ منذ سنة 1319هـ. (1901-1902م.).
ويبدو أنَّ عائلةَ الشَّاعر لم تكن، بعد وفاةِ والده، بقادرة على تمويل تعليم «عمر»؛ مما اضطرَّها إلى إخراجه من «مدرسة الشَّيخ شاتيلا»، وتأمين عمل له، يساعده على نفقات الحياة. أما ما لدينا من معلومات، حتَّى الآن، عن «مدرسة الشَّيخ شاتيلا» فمعدوم؛ ولعلّ هذه المدرسة لم تكن سوى واحدة من الكتاتيب البسيطة، التي كانت منتشرة في بعض أحياء بيروت حينذاك؛ وكان جُلُّ اهتمام القيّمين عليها تعليم الأولاد بعضَ أوليَّات تلاوة القرآن الكريم وحفظ سورهِ ودروس ابتدائيَّةٍ في عِلم الحساب (2).
يظهرُ أنَّ الطِّفلَ «عُمَر حَمَد»، كان محبَّاً للعِلم راغباً في متابعة دراسته؛ فكان يبكي أثناء عمله، الذي لم يحدد طبيعته لا شقيقه «أحمد حمد» ولا «عمر الفاخوري»، طالباً العودة إلى مقاعد الدراسة؛ ولم يكن لدى العائلة من حلٍّ عمليٍّ لهذا الطَّلب. وهكذا يواجه «عُمَر حَمَد» أوَّل مشكلة كبرى في حياته بعد وفاة والده؛ وهذه المشكلة بحدِّ ذاتها مهمَّة في نوعيَّتها لفهم شخصيَّة «عُمَر حَمَد»! فهذا الطّفل لم يكن يبكي طلباً لملابس أو للُعب أو لنزهات؛ بل كان يبكي لأنه حُرِم من العِلم. وأهميَّة هذا البكاء تزداد وضوحاً، إذا ما أدرك المرء أن عادة كثيرين، من الفقراء من أهل ذلك الزَّمن في بيروت، كانت توجيه أولادهم نحو العمل واكتساب حرفة أو صنعة ما أو وظيفةٍ، وليس نحو الدِّراسة. ولعلها ظاهرة فذَّة، في ذلك العهد، أن يَطلب «عُمَر حَمَد» الدِّراسة، وعادة أبناء جيله، حتى أولئك الذين لم يُحرموا نعمة الوالد، أن ينصرفوا إلى سوق العمل وليس إلى رحاب العِلم.
كانت «جمعية المقاصد الخيريَّة الإسلاميَّة في بيروت»، في ذلك العهد، من أبرز المؤسَّسات التَّربويَّة التي تُعنى بتوفيرِ العِلم والتَّربية في البلد. ولكن في المرحلة التي كان «عُمَر حَمَد» يعاني فيها ما يعانيه من مآسي العيش وحرمانه مِن العِلم، كانت «جمعيَّة المقاصد» تواجه صعوبات خانقة. فلأسباب عديدة، لعلَّ من أبرزها الخلاف بين بعض مناهج التَّعليم في مدارس «الجمعية» والمناهج المقررة من قِبل الدَّولة العثمانيَّة، فإنَّ السُّلطات الحاكمة أقدمت على حلِّ الجمعيَّة سنة 1882، وحولّت الإشراف على أعمالها إلى «شعبة المعارف»؛ فتوقفت النَّشاطات التَّعليميَّة لهذه الجمعية منذ ذلك التاريخ ولغاية سنة 1908. وفي تلك الأثناء، وفي سنة 1895 تحديداً، كان انشاء «الكليَّة العثمانيَّة الإسلاميَّة» بهمَّة الشَّيخ أحمد عبَّاس الأزهري وثلَّةٍ من أهل العِلم والثقافة في بيروت(3). لكن هذه المؤسَّسة، وبسبب ضعفٍ في مواردها الماليَّة، كانت غير قادرة على تقديم المنح الدراسيَّة للمعوزين ممّن يقصدها من طلاَّب العِلم. ولعلَّ حل هذه المشكلة كان في تقديم «جمعيَّة المقاصد الخيريَّة الإسلاميَّة في بيروت» المنح الماليَّة لتعليم المعوزين من طلاَّب «الكليَّة العثمانيَّة الإسلاميَّة». وهكذا قُدِّر لـ «عُمَر حَمَد» أن يدخل في عداد طلاب «الكلية العثمانيَّة الإسلاميَّة»، بتمويل مقاصدي(4)! وهذا الحدث الهام في تاريخ «عُمَر حَمَد» يُثبته شقيقه «أحمد حمد»، في ما دوَّنه من تاريخ لأخيه. لكن متى دخل «عُمَر حَمَد» إلى «الكليَّة العثمانيَّة الإسلاميَّة»؟ هنا يجد الباحث بعض تضارب. فشقيق الشَّاعر يقول إن «عُمَر حَمَد» أمضى أيَّاماً بعيد وفاة والده محروماً من مقاعد الدِّراسة مُجبراً على العمل المأجور، ثم كان له أن يلتحق بمدرسة «الشَّيخ عبَّاس»، أي «الكليَّة العثمانيَّة الإسلامية». وهذا يعني أنَّ «عُمَر حَمَد» التحق بصفوف الدِّراسة في «الكليَّة العثمانيَّة الإسلاميَّة» سنة 1319ه. (1901-1902م). أمًّا «عمر فاخوري»، فيذكر أنَّ «عُمَر حَمَد» أمضى أربع سنوات يعمل لتحصيل الرِّزق بعيداً عن أجواء الدِّراسة، ثم كان له أن يلتحق بالمدرسة بعد ذلك. وهذا يعني أنَّه أدخل إلى «الكليَّة العثمانيَّة الإسلاميَّة» سنة 1323هـ (1905-1906م). ويبقى القول، ههنا، بين أنَّ «عمر حمد» التحق للدراسة في «الكليَّة العثمانيَّة»، وله ثماني سنوات من العمر؛ أو انَّهُ التحق بها، وهو في عمر الثَّانية عشرة، كما يروي «عمر فاخوري»!
أما «الكليَّة العثمانيَّة الإسلاميَّة»، هذه، فلم تكن، عهد ذاك، مدرسة عاديَّة! لقد أنشئت في زمن اشتدَّ فيه التَّنافس في بيروت على تقديم العِلم من قبل طوائف البلد الدِّينيَّة وبجهود محليَّة وأجنبيَّة. وكانت كلُّ طائفة أو مجموعة تسعى إلى ممارسة ما تمثُّله من فكر وتوجُّه دينيٍّ واجتماعيٍّ وسياسيٍّ من خلال ما تُنشئه من مدارس وما تقوم بهِ من نشاطات تربويَّة وعلميَّة. فكان للبعثات الكاثوليكية الفرنسيَّة مدارسها، التي بدأت الإعداد لمشاريعها منذ سنة 1841م؛ وكان من نتيجة ذلك مدارس «راهبات النَّاصرة»، ومدارس «راهبات المحبَّة»، و«مدارس الفرير»، ومدرسة «أخوات العائلة المقدَّسة»، ومدارس «القدِّيس يوسف اليسوعيَّة»؛ كما سعى الإيطاليُّون إلى تأسيس المدارس، فكانت لهم مجموعة منها مدرسة ابتدائيَّة للصّبيان، وأخرى للبنات، وثالثة تجاريَّة مهنيَّة. ولا ينسى المرء في هذا المجال مدارس البعثة الإنجيليَّة للبنات، ومدرسة العميان، و«المدرسة الاستعداديَّة الأميركيَّة». أما الإنكليز، فكانت لهم مدارسهم ومن أبرزها مدرسة ابتدائيَّة للصّبيان واثنتان للبنات. وكذلك الألمان، إذ كانت لهم «المدرسة الداخليَّة للبنات»، و«مدرسة البنات» في رأس بيروت. وكان للبعثة الرُّوسيَّة مدارسها التي توزَّعت بين ابتدائية واكليريكيَّة. أمّا الطَّوائف الدِّينيَّة المحليَّة فكان لها دور بارز في هذا المجال، الذي بات خصباً معطاءً. ويُذكر، ههنا، مدارس «الاتِّحاد الإسرائيلي العالي»، والمدارس المحليَّة التَّابعة للطَّوائف المسيحيَّة المحليَّة مثل «المدرسة البطريركيَّة» للرُّوم الكاثوليك، و«مدرسة الحِكمة» المارونيَّة، و«مدرسة الثَّلاثة أقمار» لطائفة الرُّوم الأرثوذكس، ومدرسة السِّريان الكاثوليك، ومدرسة الأرمن الكاثوليك.
في هذا الخضم الزَّاخر، كانت بعض المدارس التي أسّسها أفراد، ومن أبرزها «المدرسة الوطنيَّة» لبطرس البستاني، ومدرسة المعلم نقولا حداد، ومدرسة الخواجا إسبر عبود، ومدرسة الخواجا أسعد حاطوم. واللاَّفت للنَّظر أنَّ بعضهم أنشأ مدارس ليليَّة خاصَّة، وكانت أولاها «مدرسة القدِّيس جرجس»، التي أسِّست سنة 1886.
أما المدارس العثمانيَّة، التَّابعة للسُّلطة الحاكمة، فمن أبرزها «المدرسة الرُّشديَّة العسكريَّة»، إضافة إلى أربع مدارس ابتدائيَّة، وأربع أخرى متوسِّطة ومدرسةٍ ثانويَّةٍ ومدرسةٍ مهنيَّة؛ يضاف إلى هذا «المدرسة الرُّشديَّة الملكيَّة للبنات»، و«المكتب الإعدادي»، و«المدرسة السُّلطانيَّة»، و«مكتب الصَّنائع والتِّجارة الحميدي».
وكان للمسلمين مدارسهم الخاصة، ومنها «مدرسة طاهر التَّنير»، و«مدرسة الشَّيخ مصطفى الغلاييني»، و«مدرسة الشَّيخ محمَّد المجذوب»، و«مدرسة دار العلوم»، و«المدرسة الرَّشيديَّة»، و«مدرسة زاوية الشُّهداء»، و«المدرسة القادِرِيَّة»، و«مدرسة الشَّيخ مصطفى نجا للبنات»، وقد عُرفت باسم «ثمرة الإحسان». لكن معظم هذه المدارس كانت مدارس ابتدائية، تعليمها بسيط لا يخرج عن التَّمرُّس بالمبادئ الأولى للعلوم الدِّينيَّة وعلوم القراءة والكتابة والحساب؛ بيد أنَّ التَّمييز النَّوعي ظهرَ يوم أُنشئت «مدارس جمعيَّة المقاصد الخيريَّة الإسلاميَّة في بيروت» للبنات وللذُّكور، على حدٍّ سواء. غير أنَّ هذه المدارس اصطدمت مع السُّلطة الحاكمة، التي عملت، كما سبقت الإشارة، على حلِّ «الجمعيَّة» وتحويل مدارسها إلى العمل تحت الإشراف المباشِر للسُّلطة الحاكمة. ثم كان ظهور «الكليَّة العثمانيَّة الإسلاميَّة»، التي سعت لتكون ندَّاً للمدارس الكبيرة في البلد (5).
في المرحلة التي أدخل فيها «عُمَر حَمَد» إلى «الكليَّة العثمانيَّة الإسلاميَّة»، كانت الدِّراسة فيها تُقسم إلى مرحلتين، سُمِّيَت أولاهما المرحلة «التَّمهيديَّةٌ»، تستغرقُ الدِّراسة فيها أربع سنوات تعليميَّةٍ، وتُدرَّس فيها العلوم الدِّينيَّة مع مبادئ اللُّغتين العربيَّة والفرنسيَّة؛ والمرحلةُ الثَّانية، تسمَّى المرحلة «الاستعداديَّة»، وتستغرق الدِّراسةُ فيها أربع سنوات؛ يتلقَّى التلميذ خلالها ما سُمِيَ بـ «العلوم الرَّاقية»، فيخرج، وفاقاً لما كانت تنشره إدارةُ هذه الكليَّة، رجل علم وعمل. وقد حدد «الشَّيخ أحمد عبَّاس الأزهري»، مؤسِّس «الكليَّة»، مهمَّتها بأنَّها «معهدٌ علميٌ راقٍ يُدَرِّسُ جميع العلوم والفنون التي تخوِّل المتخرِّج أن يكون حاصلاً على شهادتها، وأن يكون رجلاً علميَّاً وإداريَّاً يُلبِّي حاجات البلاد بعلمٍ راسخٍ وحقائق زاهية، متمسِّكاً بعرى الوطنيَّة ومتسلِّحاً بالعلم والمعرفة… كما أنَّها تحرص على مجاراة المدارس الرَّاقية ومدارس بقيَّة الطَّوائف والقيام بحاجات الطَّائفة في المحافظة على التَّربية الوطنيَّة والأخلاق المِلِيَّةِ والعقائد الدِّينيَّة» (6).
هوامش:
(1) «عُمَر حَمَد»، ديوان الشهيد، ص 6.
(2) يُراجع: حويلي محمد علي، التطوّر الثقافي لمدينة بيروت منذ الفتح المصري لبلاد الشام وحتى الحرب العالمية الأولى (1831-1914)، أطروحة أعدّت لنيل شهادة الدكتوراه اللبنانية في التاريخ، الجامعة اللبنانية – كلية الآداب والعلوم الإنسانية – الفرع الأول، 1990، ص. 176ـــ179.
(3) حويلي محمد علي، التطوّر الثقافي، ص. 179ـــ181
(4) حمد عمر، ديوان الشهيد، ص 130.
(5) لمزيد من المعلومات المفصّلة حول المؤسسات التربوية والتعليمية في بيروت في هذه المرحلة يُنظر:
– حويلي علي، التطوّر الثقافي، ص. 126ــــ 193
– سراج الدين أحمد، «الحركة التربوية وتطوّرها في سورية ولبنان خلال القرن التاسع عشر»، مقالة نشرت في مجلة الأبحاث، السنة الرابعة، الجزء الثالث، أيلول 1950، ص 333.
– زيدان جرجي، «تاريخ النهضة العلمية الأخيرة»، مقالة نشرت في مجلة الهلال الجزء الثامن، تموز 1901 ص. 234ــــ 240.
– المقدسي جرجس الخوري، «التعليم قديماً وحديثاً في سورية»، خطبة ألقيت في المدرسة الكلية السورية في بيروت بتاريخ 7 أيار 1906، ونشرت في المقتطف، المجلد الواحد والثلاثون، حزيران 1906 ص. 745 -751
(6) حويلي علي، التطوّر الثقافي، ص. 181ـــ186.
________
*رئيس المركز الثَّقافي الإسلامي