ازداد الاهتمام العامِّ باحتياجات الثَّقافة المحليَّة في لبنان، في القرن التَّاسع عشر؛ وترسَّخ، هذا الأمر، مع توسُّع نشاطات الإرساليَّات الأجنبيَّة التبشيريَّة في البلد. كان الهاجس الأوَّل عند جماعات الإرساليات، عهد ذاك، كامناً في تعريف البيئة المسيحيَّة المحليَّة على ثقافات مسيحيَّة لاهوتيَّة قادمة من الغرب. وكان لا بُدَّ، مع جهل غالبية من اللبنانيين للغة الأجنبيَّة، من تقديم هذه الثقافة إلى السُّكَّان المَحَلِّيين باللغة العربيَّة؛ فكانت أولويَّة النقل إلى العربيَّة، وأولويَّة جهد خاص للنَّقَلَةِ الذين كانوا، بشكل أو بآخر، واسطة ثقافيَّة بين جماعات الإرساليَّات وبين أهل البلاد.
لم تعد هذه الأجواء تسمح للمفكر الأدبي بالغوصِ في العمق السَّلفي، سعياً وراء «لا سلفيٍّ» يوظَّف لصالح الفكر الأدبي؛ قدر ما صار التَّركيز على بنية اللغة وصحة تعابيرها. كانت نشاطات جماعة من هؤلاء الوسطاء الثقافيين أمثال المعلِّم بطرس البستاني (1819-1883) الذي دعا إلى اعتماد لغة عربيَّة يسهل فهمها من قبل قرَّاء أدبيَّات الإرساليات،من هذا القبيل؛(Hawi:45) إذ دعا إلى لغة عربية معاصرة، مطعَّمة بكثير من مفردات اللهجة المحكيَّة؛ وبمراجعة بسيطة لمعجمه «محيط المحيط»، يجد الباحث شهادات وفيرة عن هذه النَّزعة.
لم يكن الأمر بمثل هذه البساطة عند أحمد فارس الشدياق (1805-1887)، الذي عمل لمدة طويلة، مثل بطرس البستاني، معرِّباً لدى المرسلين الأميركان. كان للشدياق، خلافاً لكثير من معاصريه والعاملين في شؤون الفكر الأدبي، أنه وُلِدَ على المذهب الماروني، ثم تحوَّل عنه إلى البروتستانتيَّة، واعتنق، من ثَمَّ، الإسلام في مرحلة لاحقة. وكان له، إلى ذلك، غضبه المعروف على رجال الدين الموارنة بسبب ما وصفه من اضطهادهم لشقيقه أسعد؛ كما كان له، فضلاً عن هذا كله، إطِّلاعه الواسع على مناهل ثقافيَّة متعددة من خلال سُكْناه في القاهرة ومالطا وأكسفورد وكيمبريدج وباريس وتونس واستامبول. إضافة إلى هذا جميعه، فقد كان للشدياق تضلُّعه بالتراث العربي الإسلامي، وعمله المشهور على نشر كثير من مخطوطات هذا التراث (الشدياق/الساق) (الشدياق/مقدمة ديوان) (مسعد) (عبود)(خلف الله)(حسن)(الصلح) (المكشوف) (نجم). وربما ساهمت هذه الأبعاد الشخصيَّة والثقافيَّة في أن يُشَكِّل عمل الشدياق الفكري الأدبي توجُّهاً مخالفاً لما كان سائداً في تلك المرحلة. لقد حاول الشدياق الإقبال على اللا سلفي من خلال ما يمكن أن يُسَمَّى بالحنين إلى السَّلفي، وتحديداً إلى التراث العربي الإسلامي وإلى كثير من رؤى هذا التراث وأبعاده الثقافيَّة.
عارض الشدياق مبدأ زميله في العمل مع المرسلين الأميركان، بطرس البُستاني، في اعتماد الأخير مفردات من اللهجة العربية المحكيَّة في لبنان، لصياغة النَّص العربي «الرَّسمي». (الشدياق/سر الليال:25) ورأى الشدياق أن في مفردات السَّلف قدرات كافية للتعبير.
ومن جهة ثانية، فإن الشدياق أبدى اهتماماً لافتا ومميِّزاً في بحثه في موضوع المُخَيِّلَة والتوهُّم، وهو موضوع وإن بدا غريباً عن اهتمامات كثيرين من معاصريه المحليين، فإنه لم يأت عنده من الثقافة الغربيَّة التي تعرَّف عليها الشدياق. فالشدياق، هاهنا، وخلافاً لِما نُسِبَ إليه، لا ينقل عن دراسة كولردج للخيال، (الشدياق/كنز: 10-13) أو يناقش في التنظير الأدبي للأخير (نجم: 335) لعلَّ الشدياق، كان، على أبعد احتمال، يستغل هذا المبحث لكولردج، أو مجرد عنوان دراسة الأخير للخيال، ويقرأ الخيال والتوهم عبر ما عرفه من ثقافة عربية إسلامية واسعة (Coleridege: 167) لقد صنَّف الشدياق المخيِّلَة إلى عقيمةٍ ومُنْتِجَة. الأولى مشتركة بين الإنسان والحيوان، ومهمَّتها تأمين صورة من نتيجة التَّذكُّر وليس الفَهم؛ في حين أن الثانية، أي المُنْتِجَة، خاصَّة بالإنسان، وهي ما يضيف إلى الذَّاكِرَة تأليفاً ورَوِيَّة، وما يرتِّبُ الصُّوَرُ المدرَكَةُ ويؤلِّفُ بينها على وجوه متنوِّعَة. ولذلك، يجد الباحث في دراسة الشدياق للخيال والتوهُّم صدى لأفكار الإمام الغزالي وأخوان الصفاء وعلي بن عبد العزيز الجرجاني وقدامة بن جعفر وغيرهم من المفكرين العرب المسلمين، من دون أن يعثر، بصورة جديّة، على أي تعامل حقيقي مع كولردج الذي يسير في بحثه للخيال ضمن رؤية ومنهج يخالفان رؤية الشدياق ومنهجه.
واقع الحال، إن ما حاوله البربير والشدياق يؤكِّد على حقيقة ارتباط التجديد بالتراث بصورة عامَّة، وفي تاريخ النَّهضة الأدبية في القرن التَّاسع عشر في بلادنا، بصورة خاصَّة. ومحاولاتهما ما برحت تؤكِّد، كذلك، على أساسية هذا الارتباط في تقديم خطى جديدة، مؤسسة وعميقة، في الوقت عينه، لمسيرة التجديد. فالتجديد المؤسِّسُ للمستقبل، لا يمكن أن يكون بالطَّفرة، ولا بدَّ له من ارتباط بأصالة السلفي سعياً وراء تحقيق اللاسلفي.
مكتبة
1) حسن. محمَّد عبد الغني، أحمد فارس الشدياق، سلسلة أعلام العرب 50، القاهرة، لا.ت.
2) خلف الله. محمَّد أحمد، أحمد فارس وآراؤه اللغويَّة والأدبيَّة، القاهرة، 1955.
3) الشدياق. أحمد فارس، كنز الرَّغائب في منتخبات الجوائب، استامبول، 1288 هـ. الجزء الأوَّل.
4) الشدياق. أحمد فارس، سر الليال في القلب والإبدال، استامبول، 1248 هـ..
5) الشدياق. أحمد فارس، مقدمة ديوان أحمد فارس صاحب الجوائب، القسطنطينيَّة، لا.ت.
6) الشدياق. فارس، السَّاق على السَّاق في ما هو الفارياق، باريس، 1855.
7) الصُّلح. عماد، أحمد فارس الشدياق – آثاره وعصره، بيروت، 1980.
8) عبُّود. مارون، صقر لبنان، بيروت، 1950.
9) مسعد. بولس، الشيخ فارس الشدياق، القاهرة، 1954.
10) المكشوف. مجلة، بيروت، 17 ت2 1938؛ عدد خاص عن أحمد فارس الشدياق.
11) نجم. محمَّد يوسف، أديب القرن التَّاسع عشر: أحمد فارس الشدياق، رسالة جامعيَّة غير منشورة، الجامعة الأميركيَّة في بيروت، 1948.
12) نجم. محمَّد يوسف، الفنون الأدبيَّة، الآداب العربية في آثار الدَّارسين، بيروت، 1961.
13) Coleridge. Samual Taylor, Biographia Literaria, ed. George Watson
14) Encyclopedia Of Islam, Leiden, 1956, vol. II
15) Hawi. Khalil, Kahlil Gibran, His Background, Character and Works, Beirut, 1972
________
*رئيس المركز الثقافي الإسلامي/ صديق جمعية تراثنا بيروت