بحث مختصر يوضح بالتسلسل التاريخي بسالة البيارتة الشرفاء في الدفاع عن مدينتهم والتضحية من أجلها، لعلّها تكون حافزاً لأهلها اليوم واستنهاضهم للقادم من أيامهم.
يا رَبِّ أَمرُكَ في المَمالِكِ نافِذٌ .. وَالحُكمُ حُكمُكَ في الدَمِ المَسفوكِ
إِن شِئتَ أَهرِقهُ وَإِن شِئتَ اِحمِهِ .. هُوَ لَم يَكُن لِسِواكَ بِالمَملوكِ
بيروتُ ماتَ الأُسدُ حَتفَ أُنوفِهِم .. لم يُشهِروا سَيفاً وَلَم يَحموكِ
من مطلع قصيدة كتبها أمير الشعراء أحمد شوقي بعد العدوان السافر الذي قامت به السفن الحربية الإيطالية على بيروت الآمنة صبيحة اليوم الرابع والعشرين من شهر شباط/ فبراير 1912. بالطبع لم يكن هذا العدوان هو الأول على مدينة جعلها موقعها عرضة للحصار والصراعات، وغزوات القراصنة والعصابات وشذاذ الآفاق. صراعات وغزوات منذ الألف الثاني قبل الميلاد، تنهض المدينة بعدها في كلّ مرة، ولا يبقى للمعتدي بصمة، سوى أسطر في كتب التاريخ أو نصباً تذكارياً على صخور ضفة نهر الكلب. وهذه نبذة مختصرة عن أهم ما تعرضت له بيروتنا من حصار عبر التاريخ منذ أقدم العصور وإلى يومنا هذا، انتهت كلّها بخيبة المحتل الذي لم يصب عروس المتوسط إلا بأذى، لعلها تحمل عبرة لمن يريد تركيع المدينة.
حصار نبوخذنصّر
كتب صالح بن يحيى حوالي سنة 1430م في تذكرة أسماها “تاريخ بيروت وأخبار الأمراء البحتريين من بني الغرب” ما يلي: “.. وقد ذكر بعض أصحاب التواريخ أن ساحل الشام خرّب في عهد بختنصر (!) [صححها الأب لويس شيخو اليسوعي في تعليقه على الكتاب قائلاً: يريد نبوخذنصر الثاني] … ذلك أن خروج بختنصر على الشام في عهد دولة مهراسف أحد الأكاسرة بفارس، وذلك بعد وفاة سيّدنا موسى عليه السلام بتسعماية وتسعون سنة وقبل بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم بألفين ومائتين وتسعين سنة [نبه الشيخ طه الولي رحمه الله إلى الخطأ في التاريخ بالقول: لعل كلمة ألفين هنا تصحيف من ناسخ الكتاب، وصحتها ألف ومائتين وتسعين سنة لأن نبوخذنصر فتح الساحل سنة 586 ق.م. وبعثة النبي كانت سنة 619م.] فدخل بنو إسرائيل تحت طاعته بغير قتال. وبعد توجّهه عنهم غدروا به، فرجع إليهم وأبادهم وأخرب القدس… وخرّب بعض مدن الساحل.” ويمكن الاعتماد على ما كتبه بن يحيى بتقدير زمن أول حصار عرفته بيروت وخرابها سنة 586 ق.م.
حصار تريفون
بعد موت الاسكندر المقدوني في شهر حزيران سنة 323 ق.م، دبّ الخلاف بين قادته وتحاربوا فيما بينهم ليتم تقسيم امبراطوريته الشاسعة إلى أربعة ممالك على رأس كلّ واحدة منها قائد من قادته الأربعة: بطليموس في مصر، وسلوقس في بابل، وأنطيغونس في آسية الصغرى، وأنطيباتر في مقدونية. وكانت المدن الفينيقية في تلك الفترة تكاد لا تهدأ من الغزوات والاضطرابات تتقاذفها صراعات القادة الإغريق. ففي سنة 230 ق.م. انتقل لبنان وسهل البقاع إلى بطليموس الأول مؤسس حكم البطالسة في مصر، ثم انتقلت فينيقيا إلى يد أنطيغونس بعد خمس سنوات، ثم إلى سلوقس الأول الذي اتخذ أنطاكية عاصمة له، فأصبحت بين قوتين متحاربتين واحدة في شمالها والثانية إلى الجنوب تتنازعان السيطرة عليها. ولكن حبل الأمن اضطرب في المملكة السلوقية سنة 143 ق.م. عندما انقلب ريودوتس على سيده أنطيوخوس السادس الصغير وتفرد بالسلطة تحت لقب “تريفون” الذي حكم لمدة ثلاثة أعوام انتهت بمقتله بعد استعادة أنطيوخوس للحكم. وكلمة تريفون تعني “الفاخر” أو “الفخم”.
وفي أيام تريفون هذا حوصرت بيروت ثم هوجمت وأحرقت وهدمت مبانيها ونزح أهلها إلى الجهة الجنوبية منها (منطقة خلدة اليوم) وأطلقوا على مكان إقامتهم الجديد إسم “لاذقية كنعان” ظهرت آثارها خلال حفريات تنقيب قامت بها المديرية العامة للآثار في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
حوالي سنة 15 قبل الميلاد عين أوغسطس صهره السياسي المحنك والمهندس الرحالة أغريبا Marcus Agrippa نائبا في بيروت، وكتب في مذكراته:
“… وبعد جبيل يصل المرء إلى نهر أدونيس وجبل كليماكس Mt. Climax فإلى Palaebyblus (رأس شكا) ومنها إلى نهر الكلب وصولاً لبيروت. ومع أن بيروت كانت قد سويت بالأرض من قبل [ملك سوريا اليونانية] تريفون Diodotus Tryphon حوالي سنة 136 قبل الميلاد]، ولكن إعادة إعمارها باشرت به روما وأرسلت فرقتين إلى المدينة التي ضُم إليها معظم أراضي ماسياس Massyas وصولاً إلى منابع نهر أورونتيس Orontes River (نهر العاصي).
حصار زيميس
يوحنا زيميس هذا هو امبراطور بيزنطي ولد سنة 925م لأب أرمني. تربع على العرش البيزنطي المقدوني من 969 إلى 976م وتوفي في القسطنطينية عن خمسين عاماً في تلك السنة. وخلال فترة حكمه كان له أطماع توسعية فقام بعدة حملات ضد شعب مسكوب كييف (روس كييف. ومسكوب نسبة إلى موسكو) في منطقة الدانوب الأدنى ثم وجّه جيشه بعدها لمحاربة العباسيين في بلاد الرافدين العليا سنة 972، أتبعها بحملة ثانية بعد ثلاث سنوات أخضع فيها مدن الشام ما عدا مدينة القدس. ويبدو من خلال ما وصلنا أن أقسى وأعنف حصار ودمار كان من نصيب مدينة بيروت.
ذكر الشيخ طه الولي في “بيروت في التاريخ والحضارة والعمران” أن يوحنا زيميس المعروف عند العرب يإسم “إبن الشمشقيق” حاصر بيروت، وعندما تمكن من دخولها أباحها لجنوده الذين عاثوا فيها وأثخنوها بالنهب والتخريب والتقتيل واستقوا أهلها بالسبي وذلك معاقبة لها على ما أبدته من صمود وشجاعة في مقاومته دفاعاً عن الدين والعرض والوطن. ولم يترك الشمشقيق بيروت إلا بعد أن جعل بنيانها قاعاً صفصفاً وسكانها شذر مذر بين قتيل شهيد أو نازح شريد.
الحصار الصليبي الأول
بدأ هذا الحصار على مدينة بيروت في التاسع عشر من شهر نيسان/ أبريل سنة 1099 بعد تقدم الجيوش الصليبية التي احتشد حوالي 150 ألف محارب منها في القسطنطينية بعد خطاب البابا أوربان الثاني الشهير في السادس والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر 1095 والذي طالب فيه الدول الأوروبية بإرسال جيوشها إلى الشرق لاحتلال القدس. ولكن حصار بيروت لم يدم طويلاً ولم تصب المدينة بسوء بعد أن قام حاكم بيروت العبيدي بتوفير المؤن للجيش الغازي وقيام الأهالي بإرسال بعض الهدايا لهم.
الحصار الصليبي الثاني
بعد سقوط طرابلس بيد الصليبيين سنة 1108م، زحف هؤلاء إلى بيروت سنة 1110 بقيادة بلدوين الأول. حوصرت المدينة لمدة شهرين براً وبحراً حتى سقطت، ولكن الغزاة تراجعوا بعدما أرسل الأفضل الفاطمي أسطولاً مصرياً من تسعة عشر مركباً حربية لنجدة المسلمين فيها. واستطاع أهالي بيروت ومن هبّ لنجدتهم هزيمة أسطول الفرنجة إلى أن استنجد بلدوين بقوات جنوى البحرية فأتوه في أربعين مركباً مشحونة بالمقاتلين واستطاعوا دخول بيروت عنوة بالسيف واستولوا عليها قتلاً وأسراً ونهباً يوم الجمعة في الثالث من أيار/ مايو 1110. قال ابن القلانسي في تاريخ دمشق “… ولم ير الافرنج فيما تقدم وتأخر أشد من حرب هذا اليوم”؛ يقصد يوم دخول الصليبيين بيروت التي شهد التاريخ لأهلها بالبسالة والبطولة والتضحية.
حصار صلاح الدين
بعد الانتصار المظفر لصلاح الدين الأيوبي على الصليبيين في معركة حطين سنة 1187، تابع زحفه واستولى على عكا والناصرة وحيفا ويافا وغيرها حتى وصل إلى صيدا، ومنها توجّه إلى بيروت التي حاصرها ثمانية أيام حتى طلب منه الصليبيون الأمان فآمنهم. ثم دخل بيروت صباحاً في السادس من آب/ أغسطس ونصب السنجق السلطاني على قلعتها. وهي لم تكن المرة الأولى التي يحضر فيها إلى بيروت، فزيارته الأولى كانت سنة 1182 عندما فشل في استردادها من الصليبيين، والثانية سنة 1187 عندما دخلها صلحاً، والثالثة بعد عقده الصلح معهم سنة 1192.
حصار الفرنج في مطلع العهد العثماني
بعد هزيمة المماليك أمام الأتراك العثمانيين في معركة مرج دابق سنة 1516، وأفول دولتهم في الشام، تمّ تعيين محمد بن قرقماز الجركسي والياً على بيروت في الحادي عشر من شهر كانون الثاني/ يناير 1518 بعد أن صارت المدينة في ظل الدولة العثمانية. وفي سنة 1520 أتت سفن الافرنج إلى ساحل بيروت وحاصروها لمدة ثمانية أيام قبل دخولها، فلما بلغ نائب الشام ذلك، أرسل حملة عسكرية لمساندة المدينة وجرت معركة قتل فيها أربعمائة من الفرنج وأسر ثلاثمائة.
حصار المسكوف
المسكوف هم الروس كما تقدم. فبعد زوال الإمارة المعنية بوفاة الأمير أحمد بن معن سنة 1697م، عقدت الإمارة لبشير بن شهاب من أمراء وادي التيم نيابة عن الأمير حيدر الشهابي لصغر سن الأخير. وفي زمن الأمير يوسف الشهابي 1770-1776 وصل أحمد باشا الجزّار إلى بيروت على رأس جيش آتياً من دمشق، وتسلمها من الأمير يوسف. لكنه أراد الاستقلال في بيروت فحصّنها ورفض تسليمها فما كان من الأمير الشهابي إلا أن يتفق مع والي عكا ظاهر العمر لنجدته بواسطة الأسطول الروسي الموجود في قبرص لاسترجاع المدينة من الجزار، وذلك مقابل دفع ثلاثمائة ألف قرش لأمير الأسطول المدعو “كنتو جوني”. وصل الأسطول الروسي إلى بيروت في أواخر شهر حزيران/ يونيو 1772 وحاصر المدينة لمدة أربعة أشهر ونيّف، ثم أطلق الروس حوالي عشرين ألف كلة (قذيفة) عليها لمدة ثمانية أيام متواصلة مما اضطر الجزّار إلى التسليم وطلب الأمان عن يد ظاهر العمر، والخروج من بيروت التي ما لبث الروس أن دخلوها ونهبوها سنة 1773 وأرغم الأمير يوسف أهلها على دفع مبلغ معتبر من المال لقائد الأسطول الروسي. ولكن لم تمر ثلاث سنوات على تلك الواقعة حتى عاد الجزّار وانقض على الأمير يوسف الشهابي وتمّ له السيطرة على بيروت مجدداً. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يقصف فيها الأسطول الروسي مدينة بيروت فقد سبق أن اعتدى عليها عدة مرات قبل ذلك عند رفضها دفع الخوات المالية، ولكن كان أعنفها في ذلك التاريخ.
حصار إبراهيم باشا
وهو حصار مختلف عما سبقه، فلم يكن للقتل أو النهب أو التنكيل بأهالي بيروت، إنما لمنع اتصال البيارتة – المعلنين ولاءهم صراحة للدولة العليّة العثمانية – بأركان الدولة بإسطنبول، باعتبار أن السطان العثماني خليفة للمسلمين. أما إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا المصري فقد كان على مقدمة العساكر المصرية المتمردة على الدولة العثمانية والتي تمكنت من احتلال البلاد السورية سنة 1831 ومنها لبنان معتمدة على مساعدة الأمير بشير الشهابي الثاني الذي توطدت صداقته مع محمد علي باشا حين التجأ إليه في مصر سنة 1822. رأى ابراهيم باشا أنه لا بدّ من حصار هذه المدن لإخضاعها وخاصة بيروت، وأدى الحصار إلى مضايقة السكان المحليين والأجانب على حد سواء، إلى أن دخل إبراهيم باشا إلى بيروت فاتحاً من باب الدركاه (باب الدركة) على سور المدينة الجنوبي سنة 1831.
حصار الأساطيل المتحالفة
لم يرق تمدّد غزو محمد علي باشا في الأراضي السورية ودخول ابنه إبراهيم باشا إلى بيروت للدول الأوروبية، خاصة بريطانيا التي اعتبرت الوجود المصري في سورية خطراً على طريق اتصالها بالهند، ولزوم حماية السلطنة العثمانية حفاظاً على السلام في العالم! ولأجل ذلك بادرت إلى التحالف مع بروسيا وروسيا والنمسا وتركيا لمساعدة الأخيرة على التخلص من المصريين. تنبه إبراهيم باشا لهذا الأمر فأوعز إلى حاكم سورية وقائد الجيش سليمان باشا تحصين بيروت لمواجهة الأسطول الإنكليزي وجاء إلى بيروت وعسكر فيها. وفي مطلع شهر آب/ أغسطس 1840 حاصر الأسطول الإنكليزي سواحل مصر والشام تلاه إرسال التحالف التركي ـ الأوروبي أسطولاً كبيراً مشتركاً يحمل أكثر من 10 آلاف جندي تركي وألفي جندي أوروبي. أما القوات المصرية فكانت تتألف من عشرة آلاف جندي.
إبتدأ قصف بيروت من البوارج الأوروبية في الساعة الثامنة من صباح يوم الجمعة العاشر من أيلول/ سبتمبر 1840 على المحجر الصحي في منطقة الكرنتينا، وفي الساعة السادسة من صباح اليوم التالي صبت المدفعية نيرانها على المدينة بشكل عنيف استمر لمدة سبعة أيام متواصلة مما أدى إلى تدمير جزء كبير من القلعة البحرية وبرج الكشاف وسور بيروت وتهدمت الكثير من المباني خاصة تلك المحاذية للمرفأ، إلى أن سقطت المدينة في تشرين الأول/ أكتوبر من تلك السنة بعد أن غادرها سليمان باشا.
حصار الطليان
وللدقة، فقد كانت تلك الواقعة بمثابة إغلاق لمرفأ بيروت وعدوان سافر على المدينة من قبل السفن الحربية الإيطالية. كان ذلك صبيحة اليوم الرابع والعشرين من شهر شباط/ فبراير 1912 إنتقاماً من أهل بيروت الذين ندّدوا بغزو إيطاليا لليبيا في شهر أيول/ سبتمبر 1911 ومساعدة إخوانهم الليبيين في تنظيم المقاومة ضد المحتل.
هبّ أبناء بيروت للدفاع عن مدينتهم ولكن بردة فعل غير مدروسة وغير موفقة، وكانت أضرار القصف جسيمة في الممتلكات المواجهة للمرفأ حيث أغرقت النسافة العثمانية “عون الله”. وسقط العديد من الأهالي الأبرياء نتيجة العدوان.
حصار الجوع
عند اندلاع الحرب العالمية الأولى في أوروبا، دخلت السلطنة العثمانية الحرب الكبرى إلى جانب ألمانيا في نهاية سنة 1914. فما كان من الحلفاء إلا أن ضربوا حصاراً بحرياً محكماً على الطرق التجارية البحرية الدولية كافة وعلى الموانئ العثمانية ومنها بيروت. ونتيجة حصار أوروبي بحري وآخر عثماني بري وعوامل كثيرة تتعلق بظروف الحرب لا يتسع المجال لذكرها هنا، كان أمرّها المجاعة التي ضربت البلاد وزادها ضراوة غزو أسراب الجراد سنة 1915 التي قضت على ما تبقى من المحاصيل الزراعية خاصة في جبل لبنان.
حصار صهيون
خلال الحرب الأهلية اللبنانية 1975-1990، وتحديداً في الرابع من شهر حزيران/ يونية 1982، قامت الطائرات الحربية الصهيونية بشن غارات على بيروت بذريعة مقتل السفير الإسرائيلي في لندن، واتهام منظمة التحرير الفلسطينية بذلك. بعدها بيومين اجتاح 60 ألف جندي صهيوني لبنان، وفي اليوم الثالث عشر من ذلك الشهر كان الصهاينة يطوقون المدينة التي أمطرت بقذائف المدفعية من البر والبحر والجو خلال حصار امتد لشهر آب/أغسطس، تجلت فيه بطولة وبسالة أبناء بيروت الأبرار وكانوا حقاً طليعة المقاومين الوطنيين ضد العدوان.
****
________
*مؤسس/ رئيس جمعية تراثنا بيروت