عبارة لبنانية بمدلولات عدة صبغت مجتمنا اللبناني وخصوصا القروي. قيمة انسانية، حضارية، تراثية ووطنية استخدمها اجدادنا واباؤنا، قلما نسمعها اليوم في حياتنا المعصرنة والمدنية.
فأن تولد بقرية لبنانية، يعني ذلك أنك ستنشأ على عادات وتقاليد معينة وعلى سماع عبارات على غرار عبارة “عل البركة”، وفي البدء ربما لن تفهم معناها وانت في طفولتك او بداية مرحلة شبابك. وفي ما يلي عرض لأبرز مجالات استخدام هذه العبارة وجماليتها وماهيتها ومضمونها القيمي والاخلاقي والتراثي…
“على البركة يا خالتي”، بينما تقوم الجارة أو الجدة او الخالة … بهلّ العجين قبل وضعه على الصاج، فان مررت طبعا ستتلذذ برائحة لا يمكن أن تتنشقها في المدينة او في بلد أجنبي مثلا، رائحة ما زالت ذكرياتها تعبق في داخلي وكذلك في وجداني، كنا نصطف حول موئدة نار كل نهار سبت، نستيقظ مسرعين ورائحة خبز الصاج والمناقيش تشدنا اليها من دون استئذان، انها “تيتا رجا”، تهل العجين ثم تلطمه مع الكارة على الصاج، ليخرج بعد ذلك رغيفا لا اشهى ولا اطيب، وكذلك بالنسبة لمنقوشة الزعتر او الجبنة او الكشك او القاورما… وكل من يمر من امام موئدة الصاج، يصبّح على “التيتا رجا” قائلا على البركة خالتي، فيكون نصيبه مشاركتنا الجلسة الطيبة. فيا لها فعلا من بَرَكة وكأني بالعبارة أفهم أنها وبحق بركة أي خير.
تكمل نهارك في القرية، فبعد الصاج تلتقي بأحد المزارعين، فتسأله كيف الموسم السنة؟ فتسمع الجواب مثلا: الله يبارك، السنة يا ابني الموسم منيح او جواب اخر يا بركات الله، فالمقصود هنا ايضا: ان الرب فاض بخيراته علينا. وعلى قدر هذا الخير يقتنع المزارع به حتى ولو كان قليلا لانه من ربنا.
تتابع سيرك في القرية، وتدخل منزلا فيه رجل عجوز فتسمع عبارة من أهله “الختيار بركة بالبيت” وبالفعل انه بركة، فكم من الدعوات والصلوات التي يرفعها للرب لكي يحفظ احفاده واولاده ومحبيه…
ايام الصيف طويلة، والقرية مليئة بالنشاط الزراعي وكذلك بالمناسبات الاجتماعية، من تنظيم حفلات قروية ومساعدة الجيران او الاقارب بتنظيم سهرة عرس او خطبة وسواها، وبعد اتمام المهمة تسمع من كبير العائلة “الله يبارك بالشباب”، وكأنه يدعو لك بالتوفيق وطول العمر والصحة ويثني على نشاط الشباب وقوتهم ومهارتهم.
نتابع مع مدلولات العبارة فان تسمع عبارة “البركة فيك يا ابني” حين تطلب فتاة للخطبة ومعنى ذلك انك ابن بيت تربى على القيم والاخلاق الحسنة… ابناء القرية ليسوا جميعهم ميسوري الحال، فلربما ستسمع عبارة عن احدهم “عايش عل البركة” والمقصود هنا انه يعيش عيشة متواضعة بعيدة عن الكماليات وعن مشاغل الدنيا…
تتابع سيرك فان التقيت برجل دين فسيمنحك بركة من خلال عبارته “بركة ربنا تكون معك يا ابني” وبذلك فانه يدعو لك بالتوفيق وبأن الرب يحرسك من الشرور…
عبارة عاصرت اجيالا ورافقت أنشطتهم ما زالت تتردد في قرانا بشكل خاص، ولأنني ولدت وترعرت في قرية لبنانية، احب عيشتها وأهلها وطبيعتها لدرجة العشق، استوقفتني هذه العبارة فأردت تسليط الضوء عليها ونقلها قدر المستطاع للأجيال القادمة لم تحويه من معان أخلاقية وانسانية… “والبركة بحضرتكم”.
________
*أستاذ التاريخ في الجامعة اللبنانية. عضو جمعية تراثنا بيروت.