الظروف الصحية في بيروت و محيطها في عام 1897.. قراءات في كتاب الدكتور بينوا بوييه

إعداد وترجمة نبيل شحاده*

مقدمة

أصدر أستاذ العلاج والنظافة بكلية الطب الفرنسية في بيروت, الدكتور الفرنسي “بينوا بوييه” في عام 1897 ميلادية, كتابا باللغة الفرنسية أسماه “الظروف الصحية الحالية في بيروت و محيطها” بناء لدراسات ميدانية قام بها مع عدد من تلامذته, بطلب من السلطات العثمانية ممثلة بوالي بيروت نصوحي بك , الذي منح “بوييه” تصريح المرور اللازم لدخول جميع المنازل بدون استثناء اذا أراد, والمنشآت العامة اللازمة, وذلك كجزء من الإصلاحات الحضرية والتي كانت جارية أنذاك.

لفت ” بوييه ”  أنظار أصحاب القرار  الى أن سكان المدينة في وضع صعب وهم غير مهيؤون لسلسلة من التحولات والتغييرات الكبيرة التي كانت بيروت (عاصمة ولاية تمتد من اللاذقية الى شمال يافا) في وسط حركتها و في قلب نتائجها, معتبرا ان الوقت مناسب جدا لكشف العيوب والمساعدة في تصحيحها قدر الأمكان.

وفيما أكد على ضرورة النظافة الشخصية لكل فرد , دعا الى تحرك السلطات (العثمانية)  للقيام بواجباتها ضمن موجبات الصحة العامة والتي تشكل الأهمية الكبرى لأنه من دون أداء هذه الأدوار الأخلاقية والمالية والعقابية في حالات معينة “لا يمكن أن ينجح أي إصلاح, فجماهير السكان تقاوم التغييرات المفروضة عليها , وهم لا يفهمون أهميتها ويعتبرونها بشكل عام مضايقات لا تطاق”.

الكتاب (الدراسة) رائع ومفصّل وتحدث الدكتور ” بوييه ” فيه عن كل ما يمكن أن يخطر على البال ابتداء من موقع بيروت الجغرافي ومرورا بالطرقات و المجاري والبيوت والألبسة وتوسّع كثيرا في شرح الظروف المناخية و الأمطار والرطوبة

والرياح, وانتقل الى مصادر المياه و طرق معالجتها ومواصفاتها الكيميائية و توزيعها في الأحياء و المناطق, ثم يأخذنا الى مطابخ البيوت و محتوياتها , عارضا النظام الغذائي الذي اتبعه البيارتة انذاك و تفاصيل وجباتهم اليومية ومحتوياتها, ثم أفرد قسما كاملا عن الأمراض المتفشية أنذاك , والحجر الصحي .

وسنستعرض معكم فقرات ومقاطع  منتقاة من الكتاب لأهم المواضيع الحيوية وليس بالضرورة حسب تسلسلها في الكتاب,  و انما سعيا وراء مادة تكشف لنا عن كثير مما نجهله من تاريخ أهل المدينة وسلوكياتهم اليومية. وأشير هنا , الى أن ما ذكره الدكتور ” بوييه ” ليس بالضرورة هو كل شيء ونقطة على السطر, و لكنه من المؤكد جزء موثّق لما كانت عليه ظروف بيروت وشريحة من ناسها , ومن الجميل أن نسترجعه معا من بين سطور التاريخ و نعيش معه لحظات بحلوها و مرّها.

أحوال المياه في بيروت

كتب الدكتور “بينوا بوييه” ان المياه المستهلكة في بيروت كان لها ثلاثة مصادر مختلفة تمامًا. الأولى وهي للشرب وتأتي من نهر الكلب , والثانية تُسحب من الأبار , وتُستخدم لري الحدائق و الاستعمالات المنزلية الأخرى , والثالثة تأتي من مصدر وفير للغاية في منطقة رأس النبع, وهو مكرس بشكل خاص لخدمة المساجد, إلا أنه اُستخدم أيضا في جميع الاستعمالات, قبل انشاء شركة المياه , التي تأسست بفرمان سلطاني عثماني في عام 1874, أذن فيه  للسيد تيفينين  ، أحد رواد الأعمال في ميناء بيروت انذاك, وبدأت الشركة خدمة الاشتراكات في 13 نيسان \ ابريل 1875, ويديرها حاليًا السيد بيرسي مارتنديل نيابة عن شركة إنجليزية,وينتهي الامتياز في عام 1913.

ثم أسهب “بوييه” في شرح التفاصيل الدقيقة لأخذ المياه من على ضفاف نهر “الكلب” ونقلها في قناة الى أحواض الترسيب , ثم ضخها من الضبية بواسطة مضخات توربينية بمواسير من الحديد الزهر  الى حوضين توزيع في منطقة الأشرفية في بيروت , الأول و هو على ارتفاع 77 مترا فوق سطح البحر و سعته 2400 مترا مكعبا , و الثاني على ارتفاع 110 مترا و سعته 1800 مترا مكعبا.

ثم يخبرنا “بوييه” ان عدد المشتركين في شهر شباط \ فبراير من عام 1893 بلغ 2162 مشتركًا ، منهم 361 مشتركًا رُكبّت لديهم عدادات ، و 1801 مشتركًا يتلقون كمية من المياه لا تقل عن ربع متر مكعب في اليوم.

أما رسوم الاشتراك في المياه, فقد وصفها بأنها مرتفعة مع 137 فرنكا  في السنة  للمتر المكعب , و80 فرنكا لنصف المتر المكعب, و 40 فرنكا لربع المتر.

أما عن حرارة المياه الواصلة الى البيوت , فقد كانت بحسب حرارة البيئة , ففي الصيف كانت فاترة وغير منعشة وتسبب ازعاجا بسبب تثبيت أنابيب التوزيع على الجدران الخارجية للبيوت من دون طلاء, ومعرّضة مباشرة لضوء الشمس, ونظرًا لأن درجة الحرارة في الصيف كانت تتراوح بين 30 إلى 32 درجة مئوية لعدة أشهر، فهذا برأيه “يفسّر الاستهلاك الكبير للثلج لسكان المدينة”.

و عن التحليل البكيتيري للمياه , فيقول إنه أجرى تحليلا صارما و مطولا للبكيتيريا في عينات جُمعت من نقاط متعددة من نهر الكلب وصولا الى حنفيات البيوت في بيروت , و ظهرت له نتائج سيئة لا تتوافق ابدا مع ما نشرته صحيفة بيروتية في شباط \ فبراير 1893, عن نتائج جيدة لنوعية المياه.


وأجرى “بوييه”  أيضا , تحليلا لمياه عدد من الابار المتواجدة في داخل البيوت والتي تتراوح اعماقها بين عشرة وخمسين مترا , فظهرت له نتائج مروعة , حيث انها كانت خطيرة و مليئة بالجراثيم من نوع “العصيّات المعوية” معتبرا أن هذه نتيجة حتمية “عندما تكون المراحيض بجوار أبار المياه كما كان الحال في

بيروت”, موضحا ان التحليلات التي أُجراها بطريقة دقيقة للغاية، كشفت عن الخطر الذي يتعرض له
السكان من خلال شرب هذه المياه الملوثة, مما دفع البلدية حسب قوله الى التحرك “بشكل جيد للغاية لصالح الصحة العامة ، من خلال إنشاء نوافير عامة تتزود بالمياه من نهر الكلب في أحياء مختلفة.


محطة ضخ المياه في ضبية في عام 1896

وتابع “بوييه” انه أولى “اهتمامًا خاصًا” لدراسة نقاء مياه الشرب بسبب دورها في الصحة العامة وهو وجه تقريرا الى والي بيروت عدّد فيه التحسينات التي يُمكن إدخالها على خدمة المياه, و مما أورده , ضرورة اغلاق القناة المكشوفة لنقل

المياه من نهر الكلب الى الضبية واستبدالها بمواسير , بسبب وجود بيوت وحقول زراعية مغطاة بالسماد , و”غني عن البيان أن هذا الروث ، الذي تجرفه الأمطار الأولى ، يسقط في قناة الشركة ، الموجودة تحت هذه الحقول بعمق متر واحد”.

وأتوقف هنا قليلا  مع ما قاله “بوييه” من “أن التحسينات المختلفة مطلوبة للغاية, والمياه يجب أن لا ترى الضوء الا عند صنبور المستهلك (…) لذلك أكرر الطلب الذي قدمته إلى سعادة الوالي في عام 1894, ومنذ ذلك الوقت لم يتم فعل شيء (من قبل الشركة المستثمرة) , ولم يتغير شيء في بيروت. لا يوجد سوى بضع مئات من الوفيات ، وهي وفيات كان من الممكن تجنبها”.
ونتابع معكم في موضوع المياه في بيروت في نهاية القرن التاسع عشر وارتباطه بانتشار الأوبئة, ورغم وجود بعض التفاصيل التقنية المملة للبعض , الا انه يبقى مرجعا لمعلومات, وأزمات وانماط حياة بعضها ما زال ساريا الى يومنا هذا.

سبيل مياه في بيروت

يتحدث الدكتور “بينوا بوييه” عن تفشي وباء حمى التيفوئيد  في بيروت في خريف عام 1895 وما تسبب من “وفيات وإراقة ما يكفي من الدموع في مدينتنا”, ويعيده في كتابه الى أسباب أفاده بها “خبراء أكفاء في حفظ الصحة” كما قال وهي :

أولا وقبل كل شيء, في مياه الشرب التي تحمل إما عصيّات التيفوئيد نفسها, أو  وفقا لآخرين, أنواع من جراثيم تعفن.

ثانيا, في عملية معالجة المياه, لوحظ انتشار مواد برازية, ونفايات مخمّرة  مسحوبة من المجاري, ومخلفات ، وما إلى ذلك في أماكن في الهواء الطلق.

ثالثا,  حالات خاصة ظهرت من أستعداد اشخاص للإصابة نتيجة عوامل التعب والإرهاق وغيره.

ثم ينتقل الدكتور “بوييه” ليتحدث عن دور يجب ان تقوم به بلدية بيروت لتفادي أسباب العدوى وانتشارها مجددا, مقترحا إتّباع الإجراءات التالية:

أولاً , يُحظّر تمامًا استخدام مياه الآبار و المياه الأتية من “الكراوية” للاستخدام الغذائي, حيث يُظهر التحليل الكيميائي والبكتريولوجي لهاتين الفئتين من المياه أنهما غير صالحتين للشرب.

ثانياً, توضع ملصقات في أوقات الوباء, تُحذر السكان من الخطر الذي يتعرضون له من خلال استهلاك المياه التي لا يتم غليها أو ترشيحها باستخدام مرشح باستور ( مرشح مصنوع من الخزف لإزالة الكائنات الحية الدقيقة من الماء المضغوط,  اخترعه في عام 1884 عالم البكتيريا “شارلز شامبرلاند” و عمل مع لويس باستور الذي طوّر المرشح وحسّنه وحمل اسمه).


فلتر باستور شامبرلاند بنوعيه

ثالثاً,تُنظّف المجاري فقط أثناء الليل بعد هطول الأمطار الأولى ، وعدم إبقاء المواد الناتجة على الطرقات العامة , بل تعقيمها على الفور بمزيج من كبريتات الحديد والكلس ، وتحميلها في عربات واخراجها من المدينة في أسرع وقت ممكن.

يحظر طرح محتويات حفر الصرف الصحي على الطرقات العامة, كما يُمنع تفريغها في شهور أيلول \ سبتمبر وتشرين ألأول \أكتوبر وتشرين الثاني \نوفمبر مع ارتفاع حالات حمى التيفوئيد.

رابعاً, إجبار المالكين على بناء أحواض الصرف الصحي من مواد صلبة غير منفذة ، وثابتة تمامًا ، بدلاً من بنائها بأحجار مسامية, التي تسمح لكل شيء بالنفاذ إلى التربة ، و استبدال التفريغ بالدلو كما يتم حاليا ( وهذا نظام فظيع وخطير) بإلتفريغ بواسطة مضخة بخار كما هو مستخدم في كل مدن أوروبا.

خامساً, تزويد بيروت بمياه شرب جيدة, خاصة ان شركة المياه لديها امتياز نادر لتزويد المياه خالية من العيوب وان تلتزم بتركيب مواسير حديد زهر كبيرة الحجم من مخرج النفق إلى أحواض الترشيح وأن تمنع اختلاط سماد الأراضي الزراعية في الضبية بمياه نهر الكلب.

ثم يشير الدكتور “بوييه” الى ان الإجراءات التي اقترحها تحتاج الى إرادة و زمن طويل لتنفيذها , ونصحَ بشدة كل عائلة من سكان بيروت باستخدام مرشحات باستور في بيوتهم وهي “عامل تنقية ممتاز لمياه الشرب (..) وتخليص السوائل من جميع الجراثيم التي تحتويها”, واعتبرها اكثر فعالية من غلي المياه, حيث

يصبح طعم الماء غير مقبولا , إضافة الى أن الخدم والسكان قد لا يلتزمون بالغلي الصحيح للمياه.

ولم يفت “بوييه” ان يلفت الانتباه الى المدارس التي دعاها الى تحمّل تكاليف المرشحات لمياه الشرب وتركيبها في هذه المرافق الهامة.

ثم يعود الدكتور “بوييه” الى مياه راس النبع المعروفة باسم “الكراوية” وموقعها أعلى المقبرة الإسرائيلية على الطريق المؤدي إلى دمشق, وتصل الى بيروت في أقنية لتصبح مفتوحة بالقرب من حمامات تركية, ويقول “هذه المياه تجمع في طريقها كل الشوائب الموجودة في تربة المدينة. لذلك فهي أكثر من مشكوك فيها على الرغم من وجود حوض ترسيب في منتصف مجراها”.

ويتابع انه “سيكون من الضروري للبلدية اتخاذ إجراءات لضمان نقاء هذه المياه, حيث كان من الأسهل بكثير ومن الناحية الاقتصادية تقريبًا توصيل هذه المياه الى المدينة عن طريق أنابيب الحديد الزهر وتجنب السيئات الخطيرة للتلوث الذي أشرت إليه للتو”. ثم يعود “بوييه” للحديث عن آبار بيروت التي يشرب منها عدد  كبير من سكان بيروت عندما لا تكون “شديدة الملوحة” فيحكم عليها بأنها فاسدة تماما وأبسط اجراء لها هو اغلاقها كليا.

ثم يطالب باغلاق احواض توزيع مياه الشرب المتوفرة في الشوارع لأنها تمتلىء بالقمامة و استبدالها بمواسير عمودية ( شبيه السبيل ) كل مسافة 300 أو 400 مترا , و تكون مزودة بقبضة تحكم لفتح واغلاق المياه كما هو موجود في فرنسا.

سبيل ماء عام في بيروت

وأخيرا , يختم “بوييه” هذا الفصل المهم بحثّ البلدية مجددا “على القيام بكل ما هو ممكن بشريًا لحماية بيروت من الأوبئة ، مع الاعتراف بأن سكان المدينة الذين يعيشون على هذه التربة الملوثة ، هم فريسة سهلة لهذه الآفات التي تحل بنا دائمًا”.

النظام الغذائي لسكان بيروت

هذه الفقرة ستكون مخصصة للنظام الغذائي الذي كان سائدا في بيروت في نهاية القرن التاسع عشر , والذي كشف الدكتور “بينوا بوييه” تفاصيله وسلسلة طويلة من عيوبه كما سنرى لاحقا.

لا يخشى “بوييه” بعد دراسة عادات الطهي لدى السكان ، وأطباق الأطعمة التي يتناولونها بشكل متكرر , وتوزيع الوجبات خلال اليوم , ان يرجع عيوب هذا النظام الغذائي الى “الجهل المطلق لعامة الناس وحتى من أهل الطبقة الوسطى في معرفة القيم الغذائية للأطعمة”.

لا يوجد أوقات محددة للوجبات, فكل شخص يأكل كما يحلو له ، وعندما يحلو له, ويأكل أي شيء يكون أمامه, وحتى مع غياب الشمس واجتماع افراد الأسرة, فمن النادر تناول وجبة كاملة نسبيا.

صباحا , يتناول الموظفون وتلاميذ المدارس بعض الأطعمة الخفيفة وأحيانا يهملون ذلك كليّاً , وغالبا ما تتكون من وعاء صغير من الحليب, وكثيرون يبدأون نهارهم بتدخين سيجارة أو نرجيلة وشرب القهوة  . فيما يكتفي البعض الآخر بالقليل من الخبز والجبن, أو قطعة من الكعك العربي.

في الشوارع والأماكن العامة, تجد بائعي السحلب المحضّر بالحليب يبيعونه في أوعية صغيرة يحتوي الواحد منها  مقدار 60 إلى 100 جرام , ويمر الوعاء نفسه من دون غسيل جدّي من فم إلى آخر.

بعد الساعة العاشرة صباحا تجد محلات بيع البازيلاء (أو ربما قصد الحمص) المهروس وترى عملاء يأكلون هذا الطعام من أطباق صغيرة مع الخبز العربي, بينما يتناول آخرون حوالي عشرين حبة زيتون تكفيهم حتى وجبة العشاء.

ظهرا , يحصل تلاميذ المدارس وموظفو المكاتب والإدارات المختلفة على ساعة أو ساعة ونصف من الراحة فيذهب من كان بيته قريبا ليأكل هناك, اما الغالبية فيشترون شيئا يأكلونه من أول بائع يمر بجانبهم و تكون الأطعمة غالبا متشابهة مثل البيض المسلوق ، والجبن ، والحبوب المطبوخة واللبن وسلطة من الخيار والطماطم والفلفل الحار ، أوبضع شرائح من الباذنجان والقرع المقلي في زيت.

يؤكل اللحم بكميات صغيرة جدًا  مشوية على أسياخ و غالبًا ما تتكون من الرئتين وكلى الأغنام والكبد, أما الجزء الأكبر من السكان فهم لا يتناولون وجبة في منتصف النهار.

المطاعم الفخمة تُقدم الطعام تقريبًا مثل أوروبا, مع طبق من اللحوم وآخر من الخضار, إضافة الى  النبيذ والحلويات, و يتكون عملاؤهم من الإيطاليين واليونانيين والمصريين والأرمن وغيرهم.

أما وجبة العشاء فتختلف من أسرة لأخرى ولكنها دائما غير مشبعة, حيث تُوضع جميع الأطباق في نفس الوقت على المائدة ويأكل كل فرد ما يحلو له, فهنالك قليل من اللحم,إضافة الى الفجل, والخضروات أو الفواكه, وهناك  من يتناول حلوى أو فاكهة مرة ثانية قبل الذهاب للنوم عند منتصف الليل.

مطابخ بيروت

وفي هذه الفقرة سندخل الى مطابخ بيروت كما كانت في نهاية القرن التاسع عشر , و نتعرف عن كثب على محتوياتها وادواتها ,وطاولة السفرة وطريقة تناول الطعام, إضافة الى مراجعة النظام الغذائي الذي كان سائدا و خاصة في موضوعي اللحوم والأسماك.

يخبرنا الدكتور “بينوا بوييه” أن في مطابخ بيوت عامة الناس ستجد موقد ترابي صغير أو ثلاثة حجارة كبيرة تشكل موقدا بدائيا لاشعال الفحم او الحطب , و أسياخ حديدية لشوي اللحم, مقلاة معدنية وركوة قهوة وقدر نحاسي (طنجرة) , و وعاء دائري يستعمل للجلي و في نفس الوقت لصنع الكبّة ,  بعض الزبديات (كاسات) وبعض الصحون, إضافة الى عدد قليل من الأطباق ، عدد قليل من الأطباق وشوكة وملعقة وعدة فناجين قهوة صغيرة, وهذا كل شيء.

ومن المشاكل التي كان يعاني منها البعض هو عدم وجود مدافىء داخل البيوت, مما يجبر الفقراء على الطهي في الهواء الطلق خلال فصل الصيف,  والحجر على أنفسهم داخل غرفهم في فصل الشتاء.

أما عند الأغنياء , فلا تجد في مطابخهم فرقا كبيرا عما عند الفقراء , باستثناء بعض المشابك المعدنية والمواقد الحجرية المرتبة بأشكال معينة.

طاولة الطعام

حديثا بدأ الناس يميلون أكثر الى استخدام الطاولة و الكراسي لتناول الطعام, و لكن بين عامة الناس فالرائج استخدام طاولة خشبية مستديرة قطرها مقدار ستين سنتمترا , و تستند الى أقدام خشبية بارتفاع عشرين سنتمترا , توضع على الأرض, ويجلس الناس حولها القرفصاء وأرجلهم متقاطعة, أما في الجبال فيوضع الطعام على بطانية أو حصيرة تغطي أرضية الغرفة.

يستخدم عامة الناس كما الأغنياء الطعام الملعقة فقط في الأطعمة السائلة, اما الجامدة فتؤخذ باليد مع قطعة خبز تُدوّر بشكل مخروطي من طبق مشترك, وقد يعيد البعض لقمته مرة ثانية الى نفس الطبق لتغميسها بالمرق وهي لا تزال مبللة بلعابه.

لوحظ أن استهلاك اللحوم والأسماك في المدينة ليس شائعا لأسباب أورد “بوييه” بعضها مثل ارتفاع أسعارها, إضافة الى ما أسماه “الجهل المطلق للناس فيما يتعلق بوصفات الطهي المختلفة, فالأطباق دائمًا هي نفسها, إضافة الى اللامبالاة والنفور من أطعمة غير معتادة.

اللحوم

لحم الضأن هو الأكثر استخدامًا, ثم لحم العجل  الذي يبلغ من العمر سنة واحدة على الأقل , ونادرًا ما يؤكل لحم الماعز, المشهور أكثر في مناطق الجبال.

لحم الخنزير هنا لا يأكله هنا الا الأوروبيون, أما المسيحيون المحليون فأخذوا الكثير من الأفكار اليهودية والاسلامية واعتبروا الخنزير حيوانًا نجسًا, وهو فعلا

حيوان حقير, وهم ليسوا مخطئين في لك, أما الدجاج فيؤكل الدجاج بشكل يومي وهو نحيل جدا هنا بشكل عام.

غسل الأيدي

من العادات السائدة هنا , انه بعد الطعام يغسلون أياديهم بالماء والصابون مع تنظيف الأسنان والفم بالماء والصابون أيضا, وهذه عادة ممتازة. الا ان الذين يغسلون أيديهم قبل وجبة الطعام فهم قلة ضئيلة و استثناء.

الأسماك

تُستهلك الأسماك الطازجة بشكل غير منتظم , وغالبًا ما يأكلها الناس في مواسم معينة , وخاصة السردين الذي يعرضه البائعون في الشوارع ويبيعونه بسعر زهيد , للتخلص للتخلص منه بأسرع ما يمكن.

أما سبب قلة استهلاك الأسماك فهو أسعارها المرتفعة, فيما  تحظى الأسماك المدخنة أو المملحة, مثل الرنجة الانكليس والقدّ بشعبية كبيرة في فصل الشتاء والتي تُشوى غالبا في الأفران.

أسماك السردين والتونة المعلبة بالزيت موجودة أيضًا في جميع محلات البقالة وتُباع بكميات كبيرة.

تفاصيل النظام الغذائي

نتابع اليوم مع الدكتور “بينوا بوييه” ونتعرف على المزيد من تفاصيل النظام الغذائي لسكان بيروت في نهاية القرن التاسع عشر, ونصل الى الحليب الذي يقول انه يأتي الى بيروت من عدة مصادر ويمر تحت أيدي عدة وسطاء, ويقرر ان الأقل غشاً هو النوع الذي تشتريه مباشرة من حظائر الأبقار الصغيرة في المدينة, حيث يوجد اشخاص لديهم بقرة او اثنتان او ثلاث , بصحة جيدة ويسرحن في الهواء الطلق ويتغذين على الأعشاب والشعير وفضلات الخضار , ويمكن شراء حليبها من اضراعها مباشرة, كما يوجد عدد كبير من صغار تجار الألبان يجولون صباحا في الشوارع لبيع منتجاتهم.

يوجد أيضا تجار كبار يجمعون الحليب من ضواحي بيروت وصولا الى انطلياس, وهم يخلطون الحليب لتتوحد نوعيته, ثم يملأونه في أوعية من الزنك تسع من عشرين الى ثلاثين ليترا, ويرسلونها الى بيروت على دفعتين , الأولى في الصباح, و الثانية بعد الظهر.

بعض التجار الكبار , يغلون الحليب إما لحفظه او يصنعون منه لبنا رائبا , و من اللبن الرائب يأخذون جزءا  و يضعونه في أكياس من القماش لصنع اللبنة, ويستعملون الحليب المغلي أيضا لصنع الجبنة.

لا يوجد ابدا أي اشراف على بائعي الحليب والأجبان وخاصة الصغار منهم, فكل يمارس الرقابة على نفسه بنفسه.

الأجبان

تأتي الأجبان المستهلكة في بيروت من مصادر مختلفة وهي مصنوعة ، إما في قبرص أو في الجبال وتأتي بأشكال مختلفة, فتُباع على شكل أجبان جافة, على غرار “غرييار” أو محفوظة في أوعية زجاجية لتباع شيئا فشيئا.

ويلفت الدكتور “بوييه” النظر الى أن الجبن المتروك في الهواء الطلق يكتسب خصائص ضارة وقد تؤدي الى حالات تسمم خطيرة بعد أكلها وتتسبب بالقيء, والاسهال الشديد إضافة الى تسارع في النبض والتعرق والضعف والتعرق مع ظهور طفح جلدي.

الزبدة

الزبدة المتوفرة هنا بيضاء وذات نوعية رديئة, ويتكتل فيها البروتين , وتزنُخ بسرعة, ويوجد أيضًا في السوق زبدة مذابة ممزوجة بشحم غير صحي وبعضها يُنقل في حاويات تستخدم لنقل البترول.

البيض

البيض متوفر بكثرة , ولكنه ليس دائمًا طازجًا, ويُؤكل مسلوقا أو مقليا بالزيت.

الخضار

يذكر الدكتور “بينوا بوييه” ان البطاطا متوفرة على مدار السنة, وفي الصيف نجد الباذنجان والطماطم والكوسا. في الربيع تجد البازلاء ، الهليون ، الفاصوليا الخضراء (اللوبياء) ، الملفوف ، القرنبيط ، السلق ، الخرشوف.

يصنع سكان بيروت سلطاتهم من الهندباء والبقلة والخس الذي يملأ السوق في فصل الربيع .

ويوجد ايضا ومشهور كثيرا الخيار والجزر وأوراق العنب والملوخية والنعناع والسبانخ والفجل والجرجير .

الأرزّ هو مكون أساسي لعدد كبير من الأطعمة وجزء من النظام الغذائي اليومي, ويتوفر ايضا من الحبوب البازلاء المجففة والحمص والفول والعدس بكميات كبيرة, ومن  أكثر التوابل شيوعًا , الملح والفلفل والفلفل الحار والقرفة والثوم والبصل والزنجبيل والزعفران والخل وعصير الليمون.

الفاكهة

وننتقل الى الفاكهة, التي يؤكل بعضها قبل نضجها من قبل النساء وعدد قليل جدًا من الرجال أيضًا بعد إضافة الملح اليها مثل العنب الأخضر (الحصرم) واللوز والبرتقال والليمون , و يشير الدكتور “بوييه” ان هذه العادة إضافة الى كثرة استخدام الخل شائع جدًا وهذا ما يفسر العدد الكبير من حالات ألم المعدة وحرقتها.

ويتوفر بكثرة التفاح والاجاص والتوت والخوخ  وتوجد أشجار التين في كثير من مناطق لبنان.

يذكر أيضا انه في الشتاء يشتهر اكل الزبيب والتين  المجفف, أما في الصيف فيستهلك معظم السكان ثمار الصبار (التين الشوكي) بكميات هائلة,وقد يأكل الرجل منها يوميا من ثلاثين إلى خمسين حبة.

الرمان هنا شائع جدا, والفاكهة الأكثر شعبية هي البرتقال التي تمتلأ بها حدائق بيروت, اما الأناناس والكرز والفراولة فهي نادرة.

عن التمور يقول بانها موجودة بكثرة, وطوال الصيف يصبح البطيخ الفاكهة اليومية , و يوجد أيضا قصب السكر الذي يحبه الكثير من السكان.

الخبز

نتوقف في هذه الفقرة عند طريقة اعداد الخبز وأنواع الحلويات في بيروت في ذلك الوقت.

يقول “بوييه” ان الخبز كان يُصنع بدقيق القمح مضافاَ اليه الى حد كبير دقيق الذرة, وكان الخبز يُصنع بثلاث درجات , تقلّ جودتها وتختلف نكهتها مع زيادة نسبة دقيق الذرة المضافة على دقيق القمح وبالشكل التالي:

الدرجة الأولى, يُخلط مد واحد (الأرجح يساوي 508 غرام) من دقيق الذرة  مع  11 مداً من دقيق القمح.

الدرجة الثانية, يُخلط مدّين  من دقيق الذرة  مع  10 مدود من دقيق القمح.

والدرجة الثالثة, يُخلط أربعة مدود من دقيق الذرة  مع  8 مدود من دقيق القمح.

ويصف لنا الدكتور “بوييه” كيفية صنع الخبز في بيوت البيارته, فيقول ان كل ربة منزل أو خادمة تعجن  الطحين في وعاء مسطح به ماء فاتر شتاء وبارد صيفاً, ثم تضيف قليلا من الملح والخميرة , ثم يُعجن المزيج باليد لمدة نصف ساعة, ثم يُغطى بقطعة قماش ويُترك للتخمير لمدة ثلاث أو أربع ساعات بحسب الموسم.
لاحقا يُقطّع العجين إلى قطع صغيرة ويتم تسطيحها لتأخذ الشكل الاسطواني

بقطر من 15 إلى 20 سنتمترا وسمكها من 3 إلى 4 مليمتر , وبعد ذلك توضع داخل الفرن أمام نار الحطب لبضع دقائق لتتضخم وتنتفخ ثم تُؤكل ساخنة.

ويخبرنا “بوييه” ان الفرد كان يستهلك في الوجبة الواحدة من رغيف الى أربعة, ويزن كل منها ما يقارب  110 إلى 120 غرامًا, وعن جود هذا الخبز , يخبرنا بأنه كان يتصلّب بسرعة كبيرة, ويخسر نكهته مع مرور الوقت.

الحلويات

ثم ينتقل الى الحديث عن الحلويات فيقول عن البقلاوة انها تُحضّر بطريقة دقيقة وسرية من قبل صانعيها و تُستهلك بكميات كبيرة, وهي مصنوعة من طبقات من عجين الفطير ويُضاف اليها المكسرات مثل اللوز والسكر والفستق والزبدة المذابة والعطور. كما يذكر لنا نوعا آخرا من الحلويات المصنوعة من النشاء المطبوخ والمحلى بالسكر, ويتوفر بنكهات مختلفة.

الحمامات التركية

أخبرنا الدكتور “بينوا بوييه” عن الحمامات التركية الأربعة الموجودة  في بيروت, , وأولهم بالقرب من الطريق المؤدي الى دمشق, وثانيهم قرب ساحة المدافع, وثالثهم قرب الكاتدرائية المارونية الجديدة  مقابل راهبات المحبة ، ورابعهم في الطريق المؤدي الى صيدا.

ويصف هذه المؤسسات بأن بعضها متواضع والبعض الآخر سيء بشكل كبير, وأسعار الدخول اليهم للعامة مرتفعة نسبيًا وتتراوح من قرشين إلى ثلاثة قروش, أما الأغنياء فكانوا يدفعون مبالغ أكبر من ذلك.

والذهاب الى هذه الحمامات في كل الفصول هو من عادات السكان المسلمين, أما الاخرين فيقصدونها أيضا ولكن في فصلي الربيع والصيف بشكل خاص, أما مواعيد الدخول فهي صباحا للرجال, وبعد الظهر للنساء.

لا يذكر لنا “بوييه” أي تفاصيل عن شكل  الحمامات ومكوناتها وما بها من اقسام وخدمات, ولا يشرح لنا المراحل التي يمر بها المغتسل في هذه الحمامات كما فعل رحالة أجانب آخرون, معتبرا ان ذلك “يعرفه الجميع” وآثرَ ان يركز على ما بها من عيوب و ما يواجهه الناس فيها من مشاكل.

يقول “بوييه” ان في هذه الحمامات التي لا يقصدها الا جزء من سكان بيروت, فيها عيوب كبيرة ويطلب العمل على تصليحها و تحسين أوضاعها كما حصل في حمامات عدة مدن في أوروبا التي زُودت برشاشات مياه, ويعتبر ان استخدام

الحمام التركي أمر طويل ومتعب ويتطلب نصف ساعة أو ساعة, إضافة الى ان بعض مراحل التحميم غير صحية, وخاصة في الأحواض التي تغمر المستحمين خلال فترة النقع, بسبب عدم تغيير المياه فيها الا مرة واحدة كل يوم أو يومين, ويخلص الى انه حتى الميسورين من أبناء المدينة لا يجدون الراحة المرغوبة في هذه الحمامات.

وبسبب سوء حالة الحمامات , يقول “بوييه” ان الطبقة العليا في المدينة بدأت تغتسل في بيوتها الجديدة حيث يوجد بالقرب من المطابخ, غرفة بها موقد خاص عليه قدْر من الحديد الزهر يحتوي حوالي خمسين ليتراً,  وتسخين المياه بهذه الطريقة يكون ممتعًا بالفعل في فصل الشتاء.

 ويقدم لنا مزيدا من التفاصيل, قائلا, انه  في هذه الغرف الصغيرة رشاش للماء بارد, كما يوجد صنبورين احدهما للمياه الباردة , والثاني للمياه الساخنة التي تخرج من القدر الموجود فوق الموقد, و يصبان في حوض حجري ضخم.

ولكي تصبح هذه الغرف أكثر عملية, يقترح “بوييه” اجراء تعديل يقضي بوضع الموقد وقدْر الماء بعيدا عن هذه الغرفة , واضافة حوض استحمام الذي يساعد أيضا في العلاج في حال الإصابة بأمراض جلدية وخاصة عندما تكون الحرارة مرتفعة. ثم يتساءل عن السبب في عدم وجود حمامات عامة في بلدة يبلغ عدد سكانها 120 ألف نسمة ومناخها حار, معتبرا أن مؤسسة من هذا النوع ستكون ناجحة للغاية إذا عُوملت بشكل صحيح .

الخدمات الطبية

الخدمات الطبية متوفرة في بيروت بما فيها الاستشارات  المجانية, والتي تقدمها عيادات كثيرة جدًا في المدينة, ولكن يخبرنا “بوييه” ان بها عيوبا مشابهة لتلك الموجودة في أوروبا.

وهذه العيوب تتمثل في ان عملاء هذه المستوصفات مكونين من أسراب من الأشخاص البائسين والمحتاجين الحقيقيين ولكن يختلط بهم على نطاق واسع أيضًا أشخاص متوسطي الحال وأثرياء أحيانا, فينتهزون الفرص لاستغلال الاطباء وابتزاز الرعاية الطبية منهم في الوقت الذي يجب ان تكون مخصصة للمحتاجين حقًا فقط.

وينقل “بوييه” عن أطباء شباب أسفهم على هذه الممارسات والانتهاكات الصارخة , وخاصة مع استحالة الحصول على شهادات عوز , تقمع عمليات الاحتيال هذه. ويلفت “بوييه” الانتباه  الى خدمة المرضى في البيوت فهي محدودة جدا وتقوم بها أحيانا “راهبات المحبة”  وجمعيات خيرية أخرى , ويشير الى عدم توفر عدد كاف من الأطباء لزيارات المنازل مطالبا بإنشاء هذه الخدمة و دعمها, ولا سيما خدمة النساء اللواتي يلدنَ حديثا ويُتركن في الفراش بين أيدي اقاربهن أو قابلات تتفاوت درجات مؤهلاتهن, ويدعو الى تقديم رعاية أكثر استنارة وأفضل بما تتماشى مع العلوم الحديثة.


صورة من داخل احد المستشفيات في بيروت عام 1898

ويعطينا “بوييه” أيضا صورة قاتمة عن الوضع الصحي , فيقول ان عدد الأسرّة في المستشفيات لا يتوافق ابدا مع عدد السكان في بيروت الذي يبلغ  120،000 نسمة.

ويعلل ان أحد الأسباب هو مشاعر الناس تجاه المستشفيات, فهم يفضلون العلاج او الموت في بيوتهم على البقاء في المستشفى.

ويتابع بضرورة تنفيذ حملة تهدف إلى تنوير الجمهور بمزايا العلاج في المستشفى مما سيؤدي تدريجياً إلى النتيجة المطلوبة, وهذا عندما يتأكد المرضى ان في هذه المستشفيات (ومن ضمنها الجراحة) علاجًا مضمونًا ومن دون تكاليف, خاصة وأن الظروف الشاقة التي يعانيها الشخص المريض حاليًا في منزله ، “تجعلنا نرغب بشدة في هذه الثورة في عادات السكان”.

ويروي لنا “بوييه” التكاليف الكبيرة التي يتحمل أعباؤها السكان عندما يمرض أحدهم , فهم يضطرون الى دفع مبلغ الى أول طبيب, وبعد تكرر الزيارات و من دون فائدة , يستدعون طبيبا آخرا, من دون علم الأول , ويدفعون مبالغ تتكرر وتزداد التكلفة بشكل كبير .

يقول “بوييه” عن هذا الوضع :” إجمع  تكاليف كل هذه الزيارات والاستشارات ونفقات الصيدلة, سيكون الحاصل الاجمالي كبير للغاية”, ويعيد “بوييه” هذه التصرفات الى حرص العائلات على افرادها وعدم تركهم تحت سيطرة الامراض كما هو الحال للأسف مع حمى التيفود أو الدفتيريا أو السل , معتبرا ان كثرة دفع الأموال “هو خراب لا يمكن اصلاحه لهذه العائلات”.

وفي محاولة لاستشراف الامر و معرفة لب المشكلة, يقول “بوييه” انه قبل ثلاثين عامًا فقط, كان خريجو الطب الحقيقيون نادرون للغاية في بيروت, وكان السكان يقعون فريسة في ايدي المشعوذين الذين كانت آرائهم غير واضحة وتشخيصاتهم عشوائية وسريعة. اما الأن , ومع تطور الأوضاع وتقدم مستوى الطب, بقي السكان على جهل بطريقة عمل الطب الحديث, فهم يريدون من الأطباء المتعددين ان يزوروا المريض المصاب بمرض خطير ويجلسون الى جانبه, لأن هذا يساعدهم اجتماعياً في لفت انظار الناس والجيران من حولهم ويظنون ان ذلك يرفعُ من مكانتهم.

مستشفيات بيروت

يوجد في بيروت ثلاث مستشفيات مدنية وهي :المستشفى الفرنسي الذي تديره راهبات مار منصور دي بول , ومستشفى فرسان القديس يوحنا والذي تديره سيدات الدياكونيس, ومستشفى الروم الأرثوذكس المدعوم من الجمعية الخيرية لهذه الطائفة.

ويقدم لنا “بوييه” تفاصيل عن هذه المستشفيات , فيقول ان المستشفى الفرنسي بُني منذ عشر سنوات وتضم أجنحة منفصلة تحتوي كلها على 72 سريرا , وفيه فصول دراسية للطلاب وغرفة عمليات ويحظى بدعم الحكومة الفرنسية ويصفه بأنه من أفضل المستشفيات التي يمكن العثور عليه في المنطقة.

أما مستشفى مار يوحنا في رأس بيروت فيضُم خمسين سريرا ويتراكم المرضى من جميع الفئات في نفس المبنى بشكل “معيب للغاية ومدان” بحسب وصفه, إضافة الى سوء النظافة العامة.

والمستشفى الثالث هو الروم الأرثوذكس الذي يقع في منطقة الرميل و تأسس في عام 1880, وهو منزل عادي وكبير  حُوّل إلى مستشفى, وانتقده “بوييه” بأنه محاط بمباني مجاورة وقريبة ويفتقر إلى الهواء والمساحة وتصميمه الداخلي لا يزال بدائيًا, وبه 20 سريرا موزعة الى عدة غرف. تم تقليل طاقم التمريض إلى الحد الأدنى.

أما أكبر المستشفيات فهو المستشفى العسكري الذي أنشأته الدولة العثمانية في وسط المدينة على تل قرب الثكنات وهو أكبر مستشفى في المدينة.

يحتوي هذا المستشفى الضخم على 250 سريرًا , موزعة على غرف جراحة وتناسلية وطب العيون, وللأمراض الجلدية. المستشفى وصفه “بوييه” بأنه نظيف, ولكنه أبدى ملاحظة حول نوعية ارضياته مطالبا بمعالجتها في أسرع وقت.


افتتاح قسم جديد في المستشفى الحميدي في بيروت عام 1900

________

*باحث في التاريخ/ عضو جمعية تراثنا بيروت

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website