لعبت شخصية “الراوي” او “الحكواتي” في تراثنا الشعبي دورا بارزا في نشر وسرد القصص والاساطير, وتمثيل وتجسيد بعض مقاطعها لجذب الانتباه ورفع منسوب الاثارة و التشويق لدى الحاضرين المستمعين, وأصبحت هذه الشخصية وخاصة في القرن التاسع عشر, وسيلة أساسية للتسلية والترفيه.
و”الحكواتي” الذي مضت أيامه ووهجه بلا عودة لانتفاء الحاجة اليه مع التطور الهائل في وسائل المعرفة و الترفيه وتلقي الخبر, يبقى جزءا مفرحا وجذابا من ذاكرة مجتمعاتنا, نرغب في احيائه واستعادة رونقه, او على الأقل التعرف على مزاياه و احواله ومواهبه في ذلك الماضي البعيد.
وهذا ما وجدته في كتاب نائم في خبايا ادراج شبكة الانترنت, وضعه الأميركي “جون روس براون” وهو موظف حكومي من اصل ايرلندي, وكاتب و رحالة, من مواليد عام 1821. ذهب في رحلة إلى أوروبا والشرق الأوسط, ونشر انطباعاته ومشاهداته في سلسلة مقالات في مجلة “هاربر”, ثم أصدرها في عام 1853, في كتاب اسماه “يوسف” نسبة الى المرشد والمترجم الذي رافقه في رحلاته في الشرق.
زار “براون” بيروت , و استوقفته خلال اقامته فيها, شخصية “راوي قصص” او الحكواتي كما نسمّيه, يدعى “بن حسين”, و خصص له فصلا من عدة صفحات في كتابه, مقدما لنا صورة واقعية وكاملة عنه, تضجّ بالتفاصيل والمعلومات, في اطار طريف ودرامي في آن واحد.
استعان “براون” في وصف الحكواتي “بن حسين” واعماله وادائه, بخلفية ثقافية واسعة اكتسبها من خلال ما عرفه وعاينه كأميركي في بلاده, مع شخصيات مماثلة مارست هذا الفن الشعبي في رواية شفوية وفولكلورية للقصص.
فماذا كتب “براون” عن الحكواتي “بن حسين”؟
هو شخص ذو أهمية كبيرة في محيطه. وسيشهد كل شخص سافر عبر مصر أو سوريا أن الصورة المرسومة بقلم الرصاص تُمثل تمثيلًا صادقًا له. انه الرجل العجوز الذي يسكن في احد احياء بيروت, و يُدعى “بن حسين”, ومهنته و هواه, انّه راوي حكايات.
يُلقب “بن حسين” بملك الرواة. وشكله الأساسي يتجلى في طول شاربه, ولسانه طويل وشاربه أطول كثيرا. في الواقع, مثل هذا الشارب لدى أي عربي في الشرق, و مهما كان مميّزا, فإنه أداة القسم وفخره. وعلى الرغم من انّ القسم ليس مستحباً, الا انهم اذا اقسموا, فإنهم يفضلون التدنيس في موضوع اللحى او الشوارب بدلا من الأمور ذات الأهمية الأعلى.
لا اريد أن أقول هذا الراوي يكذب في قصصه بشكل متعمد, او انه يحرّف الحقائق بخبث, لكن عمل حياته, هو الترفيه عن الناس في بيروت بالروايات التقليدية للبلد.
عندما لا يقرأ الناس الا قليلًا, فإنهم يعوّضون إلى حد ما النقص, بالتحدث والاستماع كثيرًا. هذا هو الحال خاصة عند الشرقيين. وفي ظل التوزيع المحدود للصحف, وغياب كتب تواريخ الحروب, والمقالات الفلسفية والانسانية, وكتب السفر, فالبديل هو رواة محترفون للقصص, أو رواة روايات, وهذا يعني, رجال يكون دأبهم وعملهم هو التعامل مع التقاليد أو الخيال. لا يوجد في الشرق كله, شخصية أهم, أو شخص له هذا التأثير الكبير على الرأي العام مثل الراوي.
الراوي هو جريدة متنقلة, وتاريخ حي, ومقال يتنفس, وكتاب شخصي للرحلات, يطوّر مخزونه من المعرفة على مبادئ تصرفاته الذاتية. على هذا النحو, ونظرًا لكونه وكيلًا مسؤولاً, فهو يكسب ثقة المجتمع, ويتمتع بها ويستفيد منها عمومًا إلى أقصى حد. كلما كانت قصصه أكثر روعة, زاد ت الثقة بها. وكلما كان هجاءه السياسي عنيفًا, زاد تداوله. وكلما كانت نظرياته وامثاله غير مفهومة, كانت فلسفته أعمق. إنه دائمًا شخصية مشهورة, ولا غنى عنه في كل اجتماع. يستمع إليه أعظم الباشاوات باهتمام عميق, فالأخلاق التي يشير إليها والحكايات التي يزينها تجد طريقها حتى إلى حرم الحريم المقدس. وفي أعلى الدوائر وفي أدنى المستويات, يصدّق الجميع اعرافه وحكاياته بشغف: فالرجال الذين استمعوا لسنوات إلى نفس القصص ونفس النكات, استمروا في الاستماع لسنوات أخرى بسعادة لا تنقُص , ودائما يصفقون في نفس المواقف ويضحكون على نفس التلميحات الذكية والطريفة.
كيف استطعت ان ارسم “بن حسين”؟
بعد ظهر أحد الأيام خرجت مع مرشدنا إلى غابة الصنوبر, حيث يذهب سكان البلدات لتدخين النرجيلة وعرض مواهبهم في الفروسية. كان المكان مظللًا وممتعًا تحت الأشجار وترجّلت واستمتعت بإلقاء نظرة على مقهى هناك, وجلست بالقرب من عدد من الأتراك واليونانيين والعرب, وهم جميعا في ازيائهم الخلابة المتنوعة.
رايت رجلا عجوزا يجلسُ في وسط المجموعة, وهو يرنّم بأعلى صوته الرواية الشهيرة عن الأميرة البيضاء ورئيس الوزراء. كان يصرخ أحيانًا في المقاطع المثيرة عن الحب, وأحيانًا أخرى يتظاهر بالإغماء. وعندما كان يمثّل الأجزاء المأساوية من القصة, حيث يوجدُ قتل وانتحار, كان صوته يتحول الى عواء ضبع, و يجسّد كل آلام الموت بطريقة مثيرة للغاية. وعندما يواجه صعوبات في مهمته, كان “بن حسين” يعدّل في أسلوبه وسجعه, وغمزه ونظراته, مما ذكّرني بقوة بالشغف في العروض التي رأيتها في دار أوبرا أستور.
لا يسعني هنا إلا أن أفكّر أن الطبيعة قصدت ان يكون “بن حسين” شرفا في وسط هذه المجالس, فيسعدها بتأديته لمظاهر العواطف بشكل مفرط و رائع للغاية.
رسم “بن حسين”
ما ان بدأت في رسم زيّه الخشن الرائع, وطول شاربه الأشيب, حتى بدأ الحاضرون ينتقلون واحدًا تلو الآخر, ويتجمعون حولي لمشاهدة سحر فنّي, وتقديم الملاحظات التي كان المرشد “يوسف” يترجمها فورا لي.
قال أحدهم: “هذا بن حسين. ألا ترى كيف يرسم الخواجي أنفه؟” ويضيف آخر “وعيناه!”. “وشاربه!” يصرخ ثالث. “طيّب!” و “رائع!” و”يا لها من عبقرية سامية يمتلكها الخواجي!”.
قلت لأحدهم:”أخبر “بن حسين” ليقترب قليلاً ، ويرى نفسه على هذه الورقة يعيش ويتنفس!”.
لكن لم يكن لدى “بن حسين” أي فكرة عن سبب مقاطعة روايته التي استمر في ادائها. فارتفع صوته أكثر من ذي قبل في موضوع الأميرة البيضاء. “والله!” صرخ احدهم, وركض ومعه شخصان قويّان الى حيث يجلس “بن حسين” فأمسكوا به واقتادوه الى أمامي. كان هذا الرجل العجوز طريفا جدا, ويمتلك اكثر روح دعابة يُمكن تخيلها. كان وجهه مغطى بالتجاعيد وبقايا لحية بيضاء, وبدا سعيدًا جدًا في تقديم الفرح للجمهور. وها هو بالصورة, كما كان جالساً, بشاربه الكثيف, و عيناه اللتان تلمعان من المرح.
كان “بن حسين” مسرورًا جدًا بظهوره على الورق. وكان العرب جميعًا في حالة فرح, وتوسلوا إليّ أن آخذهم جميعًا؛ ولكن, لوجود حوالي ثلاثين منهم, كان علي أن أرفض بدعوى وجود عمل مهم عليّ حضوره في ذلك المساء.
وبينما كنت ذاهبا, نظر الراوي العجوز إليّ بحزن. قلت: “حسنًا ، ماذا تريد الآن يا صديقي؟” قال “بخشيش”, فأجبته:”من أجل ماذا؟, سأضعك في كتاب. أليس هذا بخشيشاً كافياً؟”. فأجاب:”لكنني لن أرى الكتاب أبدًا. أفضّل أن احصل على القليل من البخشيش الآن”.
“هذا غريب يا “بن حسين”. ألا تفتخر بالحصول على هذا الشرف؟ فكّر في الشهرة التي ستنالها, سيعرف الجميع في أقصى بقاع أمريكا “بن حسين”. فأجابني”آه, أيها السيد المحترم, سلطان الولايات المتحدة. “بن حسين” هو بالفعل ضحية الشهرة. فأنا لأكثر من أربعين عامًا, رويت قصصًا للجميع. لقد مدحني السلاطين, وأشاد الباشاوات برواياتي, وبكت السيدات الجميلات على مقاطع قصص الحب. ومع ذلك أنا هنا, كما ترى, بالكاد احمل قطعة قماش على ظهري. وعندما أموت, لا أعرف اذا كانوا سيحملون عناء دفني!”.
فقلت:”حسنًا, “بن حسين”. أنا آسف لسماع رواية سيئة للغاية عن قومك. في أميركا, نواجه الكثير من المتاعب بعد وفاة فاعلي الخير. وغالبًا ما ننفق أموالًا في الاحتفال على قبورهم والاشادة بفضائلهم أكثر مما يمكن أن يجعلهم مرتاحين خلال حياتهم. يبدو أن زبائنك جاحدون للغاية. وكدليل على ازدرائي لمثل هذا الجحود, سأعطيك البخشيش الذي تحتاجه. ما هو المبلغ الذي يجعلك سعيدًا؟ “. فأجاب:”قرشان فقط ، أيها الخواجي العظيم! مع هذا المبلغ من المال, يمكن أن يكون “بن حسين” أسعد رجل على وجه الأرض, لأنه يستطيع أن يشرب قهوة ويدخن النرجيلة لمدة أسبوع!”. قلت:”حسنًا, خذ هذه القطعة الفضية, انها خمسة قروش. وتذكّر (قلت بفخر) أننا في أميركا لا نهمل أبدًا الرجال الذين يعيشون وفقًا لمواهبهم. نحن نشترك في صحفهم, ونقرأ كتبهم, ونربح من أعمالهم, وعندما يموتون نعطيهم قدرًا كبيرًا من الاحترام”.
________
*باحث في التاريخ/ عضو جمعية تراثنا بيروت