بيروت الرّوح الملكيّة (قصيدة)

ريشة الأستاذ نبيل سعد (مجموعة د. سهيل منيمنة)
هنري زغيب*

من صَحوة التاريخ جئتُ… ولا أَزالُ ربيبةَ التاريخْ
تَمضي العصورُ بِـجانبي مُتـتاليَه
ونُقوشُها تبقى على صدري شواهِدَ حالِـيَـه
وأَنا صَـبِـيَّـتُـها العصورِ الدّالِـيَـه
في عَتمةِ النسيانِ ماضيةٌ تَشيخُ… ولا أَشيخْ

هذي أَنا بيروتُ تَحضُنُني وأَحضُنُها العناصِرْ
وأَعيشُ…
أَربعةُ العناصر جُمِّعَت بي منذ كانت في تَكَوُّنِها أَواصِرْ
وأَنا اختصرتُ وجوهها من يوم كاغت طفلةً
حتى هُداها اليوم في فمِها المعاصرْ
لم يطْغَ في زمني اغترابْ
بيروتُ سيّدةُ الرياحِ أَنا
وسيّدةُ المياهِ… النارِ…
سيّدةُ الترابْ
تتصارع الدنيا على أَرضي وتنسحق الظُّلامَه
وأَظلُّ أَرفلُ حُرّةً مرفوعة التاج المرصّع بالكرامة!

بيروتُ الهواء

هذي أَنا بيروتُ سيّدة الرياحْ
في كلّ صقْعٍ من دمي ريحٌ
فَـريحٌ للحصادِ وللمواسم والثَّمَرْ
والريحُ في الغابات ناياتٌ وتنفُثُها عطوراً للشّجَرْ
وفمي حكاياتُ العصور وليس يُدركها الصباحْ
جمحَت ببعض الريح عينُ العاصفَه
صِقلوبُها يرنو إِلى الإِعصار يضربني بِـريح قاصفَه
وتوطّدت عندي مآسي الدهر تَهدمني بريحٍ راعفَه
لكنما غنّى هوائي بالنضارةِ والصفاءْ
وتوطَّنت عندي رياحُ الأَنبياءْ
طوّعتُ ريح الشَّرّ تحملها سيوفٌ حاربت عبثاً طواحين الهواءْ
وحملتُ في ريحي حضاراتٍ تلاقَت فوق أَرضي
وابتَنَتْ عهد الثقافات السخية بالعطاءْ
عصفي أَنا الحبُّ الوفيُّ الوعدِ
حصّنني من الغدر المقنّع بالودادْ
ريح تدمّرني وريحي نهضة الفينيق من قلب الرمادْ.

***

بيروت الماء

هذي أَنا بيروتُ
سيّدةُ المياه الناصعَه
أَلبحر حاصرني وأَعتى موجهُ نَوّاً بقصف الفاجعَه
وتَمَرَّد الطوفانُ يُغرقني بليلٍ من مِداه القاطعَه
شرقَت سُهولي بالسيولِ
ورنّقَت حولي الجبال ولم تشأْني خانعَه
لكنّ مائي حيّةٌ
بزغَت من الحلُم/الندى
تَروي حياةً هانئَه
تَسقي عقولاً هادئَه
بَحْري مراكبُ تَحمل النورَ المصفّى من أَقاصي الأَرض تأْتيني برؤيا رائِعَه
ومراكبي بالنور تُقلِعُ صوب أَقصى الأَرض حاملةً رؤايَ الذائِعَه
روّضتُ إِعصار العُصورِ فَـلانَ منه جحيمُهُ وتقصَّفَت صَعَقاتُهُ المتتابِعَه
طوّعتُ طُوفانَ الدمار إِلى ينابيع الحقول الشاسعَه
مائي دمٌ لعُروق أَرضي
خصبُها لعروق أَهلي
ليس في مائي سوى نسْغٍ يغذي كلّ روح جائعَه !

***

بيروتُ النار

هذي أَنا بيروت
لَفّتْني البراكين الغضابُ
حمماً تشظَّتْ فِيَّ حتى زُلزِلَت مني سهولي والهضابُ
آويتُ في صدري المدمّى ما أَصابتني الحرابُ
عُصُراً تَهادتْني الحروبُ
وكلَّ عصرٍ كان ينهشني الخرابُ
لكنّ بي ناراً مقدّسةً تَماهت فِيَّ من فجر الزمانِ
تَحيا فتعصمني وتسكن أَضلعي ومدى أَماني
وتغلُّ في شعبي تواعدُهُ وتَخلق فيه أَنواراً جديدَه
ناري هي الروحُ المشعّة في حياة مستعيدَه
تنهلُّ فكراً، قوّةً، لِدَمي مَجيدَه
ناري لَفَفْت بِها دمي
فتدثَّرت فيها الأَساطير السعيدَه
ناري هي الأُوپال أَزْرَقها تَلأْلأَ في قلوب الأَنقياءْ
وتَوالَدَت بي شُعلةُ الشهداءِ
ردّتني لأَطيافٍ بعيدَه
فتعانقت أَرواح غُيّابي ونبضةُ وهجهم أَهلي
وقاموا بالشهامة ينصبون هياكلاً للحب يعبد كلُّهم قدس البهاءْ

***

بيروتُ التراب

هذي أَنا بيروتُ
أَرضي تربةٌ
جُبِلَت بِـهامات البطولة والهياكلْ
كُثبانُ خصبٍ نورُها عدلٌ شرائعُهُ الفضائلْ
أَلغدرُ داهمني فُصولاً واحتويتُ مدىً
وهَدَّتْني الزلازلْ
وتصدَّعَتْ في وهْجِ صدري الـحُـــرِّ راياتٌ على هامِ المنازلْ
لكنّ صدري رَيِّقٌ
بِمواسم الحُب الكبيرِ
ومواسِم الخير الكثيرِ
جنى العطاء ولا مقابلْ
أَلمجدُ غذّى تربتي شرَفاً
فأَطْلَعْتُ الرجال مع السنابلْ

***

بيروتُ الروحُ المَلَكيّة

هذي أَنا بيروت
أُفْقِي لانِهائيٌّ
وأَبنائي بُناةٌ لانِهائيّون في شَعّ الضياءْ
وِسْعَ المكان أَنا
وِسْعَ الزمان أَنا
فضائي الحُبُّ يوصل بي تُخوم الأرض من شَهْق الفضاءْ
غَنَّى بيَ الشعراءْ
وبكانِيَ الشعراءُ ظناً أَنني قدَرٌ تَمَلَّكهُ الشَّقاءْ
لكنّني حوريةُ البحر التي لا يَستبيها عُمْرُ ماءْ
ريح السوى زبَدٌ ولو عصفَت
وريحي هيبةُ الجبروت حين دمٌ يُضاءْ
الأَمسُ قَبَّل هامَتي
واليومُ يَنْهَدُ أَن يقبّل قامتي
وغداً وكلَّ غَدٍ ستُشْرق بالبهاءِ قيامتي
فأَنا المدى بيروتُ
ليس له حدودٌ عالِـيَه
تَمضي العصورُ بِجانبي مُتَتَالِـيَه
وأَنا صَبيَّتُها العصورُ تَمُرُّ بِي
وأَظلُّ في أَلَقِ الربيع مليكةً
وتظلُّ في صدري الشواهدُ حالِـيَه !!!

________

*عضو شرف جمعية تراثنا بيروت

هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: [email protected] أو متابعته على موقعه الإلكتروني:henrizoghaib.comأو عبر تويتر: @HenriZoghaib

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website