مِنْ التَّوَجُّهاتِ العامَّةِ لِلمناهجِ التَّدريسيَّة، التي كانت معتمدةً خلالَ مُعْظَمِ عُقودِ القَرنِ العِشرين في لُبنان، أنَّها تَعْلِيمِيَّة وليست «تَعَلُميَّة»؛ وأنْ يكونَ المرءُ مُدَرَسِّاً، بِمَنْهَجٍ تَعْلِيمِيٍّ، فهذا يَعني أنْ يكونَ لَدَيْهِ مجرَّدَ استعدادٍ لِنَقْلِ معارفَ ومعلوماتٍ محدَّدةٍ ومُقنَّنةٍ إلى المُتعلِّمين. ولعلَّ أوَّل تحدٍّ قد يقعُ فيه المُعلِّم ههنا، هُو تحدِّي الابتعادِ عن آليَّةِ التَّكرار. المعلمُ، بالتَّعليمِ، غالباً ما يكونُ مُضطرٌ، برتابةِ التَّدريسِ، إلى هذا «التَّكرار»، بينَ شُعب الصَّف التَّدريسيِّ الواحدِ؛ كما إنَّه كثيراً ما يجد نفسهُ منساقاً، إلى ممارسة هذا «النَّقل»، عبر التَّوالي الرَّتيب لمواسم التَّدريس. ولعلَّ في هذا الأمر، ما كان يُدخل المُعلِّم، عهد ذاكَ، دوَّامة التَّلقين، ويبُعده عن حريَّة العطاءِ والسَّعي إلى الإبداعِ؛ ولعَّل في هذا، أيضاً، مَكْمَنُ ضَعفِ تجاوبِ كثيرٍ مِن المتعلِّمين، زمنذاكَ، مع بعضِ مُدرِّسيهم؛ ومجال عيش الرِّسالة التَّربوية، عبر التَّعليم، فِعْلَ مَلَلٍ ومعاناةَ يأسٍ مِنْ قِبَلِ كثيرٍ من أفراد الهيئة التَّعليميَّة باعتماد مناهج «التَّعليم» وليس «التَّعلُّم».
كنتُ، سنة 1958، تلميذاً في الصَّف الرَّابعِ الابتدائيِّ، في «مدرسة عُثْمان ذي النُّورين» المَقاصِدِيَّة، عِندما تعرَّفتُ، ورفاقي في المدرسةِ، إلى أستاذٍ من نوعٍ جديد علينا! كان، هذا الأستاذُ، شابَّاً، مِثْلَ بعضِ أساتِذَتِنا، لكنَّه كانَ يتمتَّعُ بشبابٍ مِن نوعٍ آخر؛ شبابٌ ما زلتُ حتى اللَّحظة، وقد مرَّ على ذلكَ الزَّمن أكثر مِن ستِّين سنةٍ، أراه مُتَألِّقَاً ومُتَجَدِّداً في آن. كان هذا «الشَّاب» أستاذاً يدخلُ مَعْمَعَةَ التَّدريسِ للمرَّةِ الأولى؛ أمَّا اسمُ هذا الأستاذُ فهو «مُحَمَّد أَبُو لَبَن»!
أوَّل ما وقعت عيوننا على الأستاذ «محمَّد أبو لَبَن»، كان عند الاصطفافِ الصَّباحيِّ للتَّلاميذ، في باحة المدرسة، استعداداً للبدء بانطلاقِ الدُّروس اليوميَّة المقرَّرة. كان من أجملِ العادات في مدارسِ «جمعيَّةِ المقاصدِ الخيريَّةِ الإسلاميَّةِ في بيروت»، في تلك الحقبة، أن يبدأ اليوم الدِّراسيُّ بتجمُّع التَّلاميذ، في باحةِ المدرسةِ، صفوفاً متراصَّةً، وقد وقف قبالتهم أفراد الهيئة التَّعليميَّة؛ فيتلو أحدُ التَّلاميذ ما يتيسَّر له من آيات الذَّكر الحكيم، ثم يُلقي أحدُ الأساتذة كلمة توجيهيَّةٍ، وينصرف الجمع، بعد هذا، كلٌّ إلى شأنه في المدرسة.
كانت العصا الضَّخمة الغليظة، أو تلك الرّفيعة اللَّئيمة، أو أختهما المسطَّحة العريضة، جزءاً يكاد لا يتجزَّأ من قيافة كثيرين من أهل التَّعليم في تلك المرحلة! لم تكن هذه «العصا» لتُسْتَخدَمُ من باب الأناقة أو الشِّياكة، بل كانت تُستخدم لإسقاطِها بعُنفٍ غاضِبٍ على أكفِّ بعضِ التَّلاميذ، ممَّن يُتَّهمون بقِلَّةِ الفَهم وسوءِ الدَّرس؛ أو لتنهمرَ، بعشوائيَّةٍ فَجَّةٍ، على أقفِيَةِ مَن يُعتقدُ أنَّهم مِنَ المُشاغبين أو المُحرِّضين على بعض الهَرْجِ والمرْجِ في قاعةِ الدَّرس.
يوم دخلَ الأستاذ «محمَّد أبو لبن»، للمرَّة الأولى، على تلاميذ الصَّفِّ الرَّابع الابتدائيِّ، في مدرسة «الزيِّنُّورين»، ليعطيهم دروس اللُّغة العربيَّة؛ فإنَّه لم يكن يحمل عصا! كانت مفاجأةً صاعِقَةً للتَّلاميذ؛ وظنَّنا، بادئ الأمر، أنَّ الأستاذَ نَسِيَ عصاهُ في غرفةِ النَّاظر، أو أنَّه أَوْصى على عصاً من نوعٍ جديد، وأنَّ إعدادَ هذهِ العصا لَمْ يَنْتَه بعد. ثمَّ تأكَّد لنا أنَّ «الأستاذ «أبو لَبن» ليس من «جماعة العصا»، وليس من ناسِ حزبها؛ إذْ هو أستاذُ الابتسامةِ، وأستاذُ البشاشةِ، وأستاذُ الإقبالِ على التَّلاميذِ بِقَلْبِهِ وعقلِهِ وروحِهِ ولَيْسَ بالعصا.
كان الحضور الباسم للأستاذ «أبو لبن»، أوَّل احتكاك لنا به في قاعة الدَّرس؛ إذ غابت عن حصص تدريسه هالة الرُّعب، بل بات موعد الدَّرس فرحةَ انتظارٍ لوصول شيءٍ من سعادة التَّعامل مع المعرفة. أمَّا الميزة الأخرى لدرسِ الأستاذ «محمَّد أبو لبن» فكانت في تشجيعه التَّلاميذ على الإقبال على المادَّة المعرفيَّة التي يَدْرُسُها هوَ معَهَم، ولم يكن ليدرِّسهم إيَّاها، إذ لم تكن أبداً في فرض هذه المادة عليهم. كان الأستاذ «محمَّد أبو لبن»، يدرِّسنا قواعد اللُّغة العربيَّة، وكثيرٌ من التَّلاميذ يعتبرون درس القواعد العربيَّةِ من الأمور المُتعبة والمُعقَّدة والتي تحوي أموراً قد يَصْعُبُ فهمها، أوهي من باب ما يجب حفظه من غير فهم. لكنَّ درس القواعد، عند «الأستاذ أبو لبن»، لم يكن كذلك؛ كان درساً EMBED Unknown ينهضُ على ما يشبه عرضٍ لحكايةٍ، تُقدَّمُ عن موضوع القاعدة اللُّغويَّة؛ وكانت الطُّرفةَ سبيلاً يلطَّفُ من بعض ما في الحكاية من جفاف؛ ثم كان وقوف التَّلاميذ قبالة «اللَّوح الأسود» يستخرجون، بأنفسهم، مِنْ تلك «الحكاية»، أصولَ القاعدة الصرفيَّة أو النَّحويَّة، التي لا بدَّ لهم من معرفتها، لسلامة لغتهم ودقَّة تعبيرهم بهذه اللُّغة.
كان التَّحفيزُ التَّربويُّ، مع التَّعليم، ممارسةً أخرى نوعِيَّة من ممارسات «الأستاذ أبو لبن» في قاعة الدَّرسِ. صحيحٌ أنَّ الأستاذ «محمَّد أبو لبن» معلِّمٌ رائعٌ، والمعلِّمون الرَّائعون كُثر؛ لكنَّه كان، أيضاً، مُرَبٍّ رائع. ثمَّة ضرورة، لا غنىً عنها، لأن يكون الأستاذ مربيَّاً بقدرِ ما هو معلِّم؛ وثمَّة حاجة لا غنى عنها، أيضاً، لأن تكون المدرسة فسحة كبرى للتَّربيَّة، بقدر ما هي مجال واسع للتَّعليم. أما «محمَّد أبو لبن» فكان، وما ظلَّ، معلِّماً رائعاً، ومربيَّاً رائعاً؛ وهذا أهم واحد من أسرار نجاحه في التَّعليم وبروزه في دنيا التَّربية.
اعتاد الأساتذة، زمنذاك، تسمية مُقَدَّمٍ بين التَّلاميذ، كان يطلق عليه لقب «عريفٍ» للصَّفِ؛ وكانت مهمة «العريف»، أن يعاون الأستاذ في تسيير بعض أمورِ الصَّف التَّنفيذيَّةِ، وخاصَّةُ لجهة ضبط المشاغبين. وكانتِ العادة أن يختار ناظرُ المدرسة «عريف الصّف» من بين المشاغبين أنفسهم؛ فيربح النَّاظر، بهذا، مشاغباً إلى جانب الإدارة؛ كما يربح من قد يساعده في التَّفاهم مع جماعة الشَّغب، من التَّلاميذ، باعتباره واحداً منهم. أمَّا «الأستاذ محمَّد أبو لبن»، وكان، فضلاً عن كونِهِ معلماً للعربيَّة، ناظراً مسؤولاً عن بعض صفوف المدرسة، فلم يكن يلجأ إلى هذه الطَّريقة في اختيار «عريف الصَّف»! كان «الأستاذ أبو لَبَن» لا يأبه لقاعدة انتخاب «العريف» من جماعة المشاغبين، بل يعمد إلى تعيين «العريف» من بين الحاصلين على العلامات العاليَّة في التَّحصيل الدِّراسي، عند مطْلَعِ كُلِّ شَهْرٍ؛ فكنَّا نتنافسُ، فيما بيننا، لنحصل على الدَّرجات، ليكون الفائز بالدَّرجةِ الأعلى عريفاً للصَّفِّ؛ فأصبحت المعرفة، في إدارة «الأستاذ أبو لَبَن»، وسيلةً لإظهار الذَّات، وباتَ التَّفوُّقُ طريقاً لممارسة القيادة.
لم يقف الأستاذ «محمَّد أبو لبن» عند هذا الحدِّ من التَّفاعل الإيجابيِّ والمُنتِج مع تلاميذه؛ بل إنَّهُ كَسَرَ ما كان سائداً، في كثيرٍ من الأجواء المدرسيَّةِ وقتذاكَ، من قناعٍ الهالة الزَّائفة، والتي يمكن أن تكون قميئةً، التي كان يستخدمها بعض المعلمين ليظهروا بوجه المعلِّم الزمِّيت العَبوس؛ وكان هذا الكَسْرُ حين أُضيفت إلى مهامِّه التَّدريسيَّة للُّغة العربيَّة، مهمَّة أن يكون مُدَرِّبَ الرِّياضةِ البَدَنِيَّةِ والألعاب!! فإن كنَّا نستخرج قواعد اللُّغة معه، في قاعة الدَّرسِ، عبر حكايات ومغامرات؛ فنحن نسعى إلى النَّشاط والمرح معه، عبر الرَّكض والتَّنافس على رمي الكرة، في ملعب المدرسة. وليس هذا فحسب، بل بات «الأستاذ أبو لَبَن» واحداً من «جماعتنا»، يعتزُّ بعلاقته بنا وعلاقتنا به؛ فلا يتوانى عن إحضار «الكاميرا» معه إلى المدرسة، ليلتقط لنَّا الصُّوَر التَّذكاريَّة في قاعة الدَّرسِ وباحة الملعب؛ بل كثيراً ما كان «الأستاذ محمَّد أبو لَبَن» يجمعنا في حصَّة الرِّياضة والألعاب، ويعلمنا الأناشيد المدرسيَّة والوطنيَّة؛ ولا يتوانى الإنشاد أمامنا بثقة وانطلاق وحبور.
تعلَّمت، ورفاقي، من «الأستاذ محمَّد أبو لَبَن» أنَّ المدرسة فعلَ حياةٍ حيٍّ، وليست بؤرة تلقين وتعليم وحسب. لقد تعلَّمتُ من «الأستاذ محمَّد أبو لَبَن»، ومارستُ في مسيرتي التَّعليميَّة، أنَّ الأستاذ وجودٌ فاعلٌ في حياة تلاميذه، وليس وجودَ قهرٍ وتسلُّطٍ. تعلَّمت من «الأستاذ محمَّد أبو لَبَن» أنَّه لا يمكن أن يكون ثمة تعليماً حقيقيَّاً فاعلاً ومُنْتِجاً باإيجابيَّةٍ، من غير ما تربية منفتحة؛ وأنَّ خير التَّعليم ما كان تَعَلُّماً ومعرفةً لاكتشافِ مناهجِ تحصيلِ المعرفةِ.
الأهمّ، أنَّ «الأستاذ محمَّد أبو لَبَن» مارَسَ هذا كلُّه، بنجاحٍ ووعيٍّ، منذ أكثر من ستِّين سنةٍ؛ ولذا فقد نجحَ في الانتقالِ مِنْ منزلق التَّعليمِ إلى رحاب التَّعلُّمِ؛ كما نجحَ في إطلاقِ تلاميذ له إلى دنيا العيش، مُزَوَّدين بمناهج كَسْبِ المعرفةِ وليس بِمُجَرَّدِ مَحْدوديَّةِ معلوماتِها.
أُستاذي، «مُحَمّد أَبُو لَبَن»؛ بعد مرور أكثر من ستِّين سنة من تخرُّجي في «صفِّ» تدريسِك لي، لا يَسَعني إلاَّ أنْ أؤكِّدَ انتسابي إلى مَدْرَسَتِكَ التَّدريسيَّةِ ومنهجِكَ التَّربويِّ؛ ولا يسعني إلاَّ أنْ أقولَ لك، وللتَّاريخِ، إنَّك كُنْتَ سَبَّاقاً في حَقْلِ التَّربيةِ؛ كما أَنتَ، إلى اليومِ، مِثالاً رائداً في مجالاتِ التَّعليم.
________
*رئيس المركز الثقافي الإسلامي