“لويس إينولت” هو صحفي وروائي ومترجم فرنسي, اصدر كتاب “البحر المتوسط, جزره و سواحله” في باريس في عام 1863. ولأن في عروقه تسري دماء من ملوك البحر النرويجيين كما قال, فقد استغل “القليل من الحرية” اثناء عمله وانطلق في رحلة ملأ بها “رئتيه برائحة نسيم البحر البارد”. هذا البحر الذي قال عنه لاحقاً:”لقد جلت كل شواطئه, وزرت كل جزره, وعبرت كل مضائقه, ويمكنني أن ألخص كل انطباعاتي في كلمة واحدة: كلما رأيتها, كلما أحببتها أكثر!” .
موقع و جاذبية
يصف ” إينولت”بيروت بأنها واحدة من المدن قرب جبال لبنان, التي يصح وصفها بذلك, ولها “طابع عالمي لافت للنظر”. ويتابع ان “جمال موقعها, والمرافق المختلفة فيها التي تُلّبي جميع متطلبات الحياة ساهمت بشكل كبير في جذب الناس اليها من جميع أنحاء أوروبا, وحتى من أميركا؛ جلب كل منهم حس الأناقة والرفاهية من بلاده, ومن هذا التنافس بين الشعوب, انبثقت واحدة من أكثر المدن جمالاً في العالم”.
معجزة بيروت
بيروت من المدن النشطة و الحيّة, كبرت و توسعت وذاع اسمها في ارجاء المعمورة, و هي ان تعرضت لكارثة او نكبة, فسرعان ما تقوم منها وتُعيد بناء نفسها بقوة و عظمة, و هذا ما انتبه اليه “إينولت” فقال:”حققت بيروت, عجائب مرتجلة في أقل من ثلاثين عامًا. كان من الممكن أن تستغرق هذه الإنجازات قرونًا في كل مكان آخر. هناك فيلات رائعة, وبيوت جميلة, وحدائق واسعة, وزهور وعطور؛ وهي المركز التجاري لواحدة من أكثر مناطق العالم نموّاً, وفيها حركة ونشاط أذهلا العثمانيين, جعلا من بيروت, باريس سوريا؛ باريس التي تقع عند سفح جبل لبنان وعلى شواطئ البحر المتوسط”.
صخب المدينة
ضجيج وصخب واصوات ترتفع في الأسواق. كلها دلائل واضحة على حيوية أسواقها و ازدهار اقتصادها, مما جعلها مقصدا ومسكنا للكثيرين من الأوروبيين وأبناء البلاد المجاورة. وفي ذلك يوضح لنا “إينولت” بالتفصيل ما سمع و رأى:”هناك عدد قليل من المدن في آسيا حيث للأوروبيين اهتمامات جدية واتصالات واسعة, اما في بيروت, فالجزء الذي يحدّ الميناء, له نفس ملامح الصخب في أسواق مدينة لندن عند الظهيرة.
ضوضاء, وضجة, وخليط لا يمكن للمرء ان يتخيله. الحمالون المنحنون تحت اثقالهم, يصرخون بأصوات يائسة وسط الزحام لعلهم يستطيعون المرور بسرعة كافية, والبغال لا تتوانى عن صدم العابرين, المعرّضين ايضا للدهس من الجِمال. الاف الأصوات, تختلط وتندمج, وسط غبار كثيف يتصاعد من الشوارع الجافة, ,ويلفّ البحارة والتجار والسياح من أنحاء العالم الأربعة: ترى اليونانيين في ثيابهم البيضاء وستراتهم الحريرية الزرقاء وقبعاتهم الحمراء. والأرمن في جلابيبهم الرمادية وعمائهم السوداء, واليهود في ثيابهم البالية, والرهبان بصنادلهم البسيطة, وتجار حلب, والدروز في عمائمهم الأرجوانية, والأتراك في ازيائهم النظامية. وهناك نساء إنجليزيات وجوههن شاحبة, يرتدين أحدث صيحات الموضة الباريسية, لكن مع قبعات خضراء ومظلات زرقاء, ويلبسن فساتين واسعة, ويمشين وكأنهن أرواح سامية داخل سحابة خفية, تحت حجاباتهن البيضاء”.
أسواق وخانات ومسارح
تمتعت أسواق بيروت منذ زمن بعيد بجاذبية مميّزة, اغوت الزائرين و المشترين ممن قصدوها : ” كانت شوارع الاسواق مغطاة بقطع قماش كبيرة, معلقة من سقف الى آخر, وهنا يبدو أن جميع منتجات أوروبا وآسيا المرتبة في هذا السوق, قد اجتمعت لاغواء المشترين. خان كبير بهندسة معمارية بسيطة كان بمثابة ثكنة للقوات التركية, ومسرح جميل حيث تُغنى الأوبرا الإيطالية, يشهد على الذوق الموسيقي لهذه المدينة الصغيرة”.
آثار وفسيفساء
عبر التاريخ كانت بيروت مدينة عظيمة, وما بقي من اثارها يدل على ذلك, فيقول “إينولت”: “على مسافة ما من هذه المؤسسة الحديثة للغاية, نجد أنقاض مدرج قديم, تصل آخر منشآته إلى البحر. وإلى جانب ذلك, فالمدينة محاطة بآثار قديمة رائعة. وخلال إقامتنا السريعة في بيروت, اكتشفنا بالقرب من الميناء, لوحة فسيفساء حتما كانت ستُسعد تجار التحف”.
________
*باحث في التاريخ/ جمعية تراثنا بيروت