مينة عين المريسة تحكي قصص ومغامرات صياديها (4/1)

زياد سامي عيتاني*

مقدمة

بين (أولاد) “عين المريسة” وبحرها علاقة سحرية، عمرها من عمر صخورها الدهرية، ومينة صياديها، وشمسها الذهبية، وبيوتها القرميدية، وأشجارها الأبدية. علاقة لا يجيدها إلا من تنشق لطائف نسائمها، ورطوبة هوائها، ولامست جسده ملوحة رذاذ أمواجها، وإغتسل بماء عينها العذباء، وتزحلق بأعشابها البحرية، وتدحرج على صخورها وأبحر بقواربها الخشبية، ولعب طفلاً في مغارتها.

على كلّ صخرة من صخورها حفرت حكايات، وقصص، وذكريات ومغامرات بحّارتها وصياديها المكافحين، لم تمحها كلّ العواصف العاتية، ولا الأمواج الغاضبة، ولا تعاقب الزمن والسنين التعبة.

بحرها المتمايل والمتماوج أحياناً، والهائج الثائر أحياناً، كم يختزن من آثار الأسرار والأخبار وهموم ومخاطر الباحثين عن قوت يومهم في هذا الأزرق المتوسطي الكبير.

فهو لهم الصديق الونيس والأنيس، الذي يبادلهم المشاعر والأحاسيس، ويتفاعل مع جوارحهم بما يشبه حركة المد والجزر. وهو بالنسبة لهم ملاذهم الذي يشعرهم بالأمان والسلام، رغم تياراته الجارفة وغدره عندما يعبر عن غضبٍ يحتفظ بسره لنفسه. هو بحرهم بأمواجه العاتية وسيمفونية أصواته وألوانه المتدرِّجة في زرقتها خلال إعتكاره وهدوئه وصفائه، بصيفه وخريفه وشتائه.

سر هذه العلاقة بين صيادي عين المريسة وبحرها كنز مدفون في قعره، لا قدرة لأحد الاقتراب منه…

المنطقة حملت إسم مرساها

“عين المريسة”، التي سميت كذلك نسبة إلى ينبوع ماء عذب كان يجري عند الشاطئ ويصب في البحر، حيثُ ترسو مراكب الصيادين المتأهبة دوماً للإبحار والغنيمة من خيرات البحر المتوسط.

على الجهة الغربية لمدينة بيروت بمحاذاة شاطىء البحر، كانت قرية صغيرة من قرى ضواحي بيروت، قبل أن تصبح واحدة من أرقى مناطقها. وهذه القرية كانت تعرف بـ “دار المرسي”. وإسمها مشتق من الميناء المتواضع الذي كانت ترسو فيه الزوارق والمراكب الصغيرة المخصصة لصيد الأسماك، ثم صار يطلق عليها إسم “عين المرسي” لوجود عين ماء عذب كان يستقي منها أبناء القرية، وكانت تجري عند الشاطئ وتصب في البحر، حيثُ ترسو مراكب الصيادين المتأهبة دوماً للإبحار والغنيمة من خيرات البحر المتوسط.

إذن، إسم “عين المريسة” كما يؤكد المؤرخ الدكتور عصام شبارو يرتبط بكلمتين “عين” و”مرسى”. فخليج “عين المريس” الذي ردمته أشغال وصلة كورنيش البحر في الفترة بين 1973 و1978، كان لقرون خلت “المرسى” الطبيعي لقوارب البحارة وصيادي الأسماك، وكان من الطبيعي لوقوع العين والمرسى في موقع واحد، أن يطلق “عين المرسى” الذي تحرف مع مرور الزمن، فأصبح “عين المريسة” ودخلت “الاسطورة” في تسمية هذه المنطقة، بعدما اطلقت بلدية بيروت اسم “دار المريسة” على الشارع الذي يمتد من “العين” الى الجامع وهو الشارع الذي يمثل الواجهة البحرية للمنطقة، على أن كلمة “دار” كانت ولا تزال تطلق على كثير من البيوت القرميدية المحاطة بالبساتين الواسعة في هذه المنطقة قبل زوالها.

وقد إشتهر أبناء تلك القرية بشجاعتهم وبسالتهم في الدفاع والذود عن قريتهم من محاولات الإعتداء عليها من قبل القراصنة، الذين كانوا يستخدمون ميناءها للنهب والسلب، وكان آخرهم القرانصة اليونان في العام 1827.

ومع تمدد بيروت خارج سورها وضم الضواحي إليها، صارت قرية “عين المرسي” تعرف بمحلة “عين المريسة”، إستسهالاً للفظ، وصارت تشهد إزدياداً في أعداد القاطنين فيها من العائلات.

قرية الصيادين

لم تكن “عين المريسة” قبل العام ١٨٤٠ سوى إحدى ضواحي بيروت التاريخية، كونها كانت تقع ظاهر بيروت، (أي خارج سورها)، أسوة بباقي المناطق التي كانت تحيط بالمدينة.

وكانت المنطقة عبارة عن أراض وبساتين وجلول زراعية، حيث اهتم الأهالي والقاطنون فيها بزراعة أراضيها بمختلف الخضار والفواكة الموسمية، وعمدوا إلى حفر الآبار وسحب مياهها وتجميعها في برك شُيّدت جانبها لريّ مزروعاتهم. وعند الحصاد، كانوا يبيعون محصولهم في باطن بيروت، التي كانوا يسلكونها عبر الأزقة الضيقة والوعرة، إما سيراً على الأقدام، أو بواسطة البغال والحمير. لذلك، لم تقطن “عين المريسة” في تلك الفترة سوى العائلات التي عملت بالزراعة، فكانت قرية زراعية بإمتياز.

وفي وقت لاحق، وبحكم الموقع البحري، لمنطقة “عين المريسة” المقرون بالخليج الطبيعي المحاط بصخورها الممتدة داخل مياه البحر، بأشكال متعرّجة، وغير منتظمة، حيث يمثل الخليج أقدم المعالم التاريخية لهذه المنطقة البحرية الشاطئية، صارت “عين المريسة” مقصداً للصيادين لوجود ذلك الخليج الذي تحول مع مرور الزمن إلى مرسى للصيادين، فإستحقت المحلة أن يطلق عليها “قرية الصيادين”.

وقد شكّل هذا الخليج حالة نادرة وملفتة، تتمثل بثلاثة موانئ طبيعية خُصّص ميناءان منها لقوارب الصيادين، هما: الميناء الرئيسي (كان قائماً مكان مسبح “الجمل” و”النورماندي”، والذي ردم سنة ١٩٧٣ مع بدء عملية تشييد وصلة الكورنيش) وميناء “الفاخورة” (عرف بهذا الإسم لوقوعه بجانب “الفاخورة”، (أي مصنع صغير لصناعة الفخار)، والتي أزيلت سنة ١٩٣٥ عند تشييد مبنى آل فاخوري. وتشكّل من هذين الميناءين ميناء “عين المريسة”، وهو أول الموانئ البيروتية، الذي تحوّل مركزاً للصيادين ومرسى لمراكبهم، مع الإشارة في هذا المجال إلى أن ميناء “الفاخورة”، هو أول ميناء مسجّل في بيروت.

يتبع…

________

*إعلامي وباحث في التراث الشعبي. عضو جمعية تراثنا بيروت.

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website