صحيفة سويسرية تصف في عام 1929، تطوّر بيروت في حقبة الانتداب

أعدّ المادة وترجمها: نبيل شحاده*

“جورنال دو جنيف” هي صحيفة ليبيرالية يومية سويسرية, بدأت بالصدور باللغة الفرنسية في عام 1826, واستمرت الى عام 1998, حيث اندمجت مع مجموعة صحف أخرى في صحيفة واحدة اسمها “Le Temps”.

نشرت الصحيفة في عدد يوم الرابع من تشرين الثاني / نوفمبر من عام 1929, وكان لبنان آنذاك خاضعا للانتداب الفرنسي, مقالا كتبه مراسلها (1) الذي وصل الى بيروت بالبحر زائراً لينقل الى قرائه في القارة الأوروبية مشاهداته وانطباعاته, و اعجابه الكبير بالازدهار والحيوية الكبيرة التي تعيشها بيروت في مجال الاعمار والتطور.

اخترنا وترجمنا لكم مجموعة من فقرات المقال التي تضيء على مجموعة من النقاط الهامة, و منها موقع المدينة ودورها الاقتصادي المنشود, إضافة الى اثمان التطوير الذي أدى الى تغيير وجه المدينة, وما رافقه من فساد خرّب اثاراً مهمة بسبب الجشع, وتقديم المصالح المالية على كل ما عداها, حتى ولو كان تاريخ و تراث المدينة.

“هل ترى هذه النقطة الوردية في الأفق التي بدأت بالظهور من بين الأمواج؟. هذه بيروت”. يخبرنا القبطان.

في الواقع ، بيروت ليست وردية. انها بيضاء مثل كل مدن البحر الأبيض المتوسط. وما هو وردي هو الشاطئ الذي تقع عليه والجبل الذي ينتصب خلفها, وربما يكون أيضًا هو النور الرائع الذي تستحم به, والذي يعطي جوًا احتفالياً للبلد كله.

نحن الآن قبالة بيروت, وشيئان يلفتان الأنظار على الفور. الأول, على اليمين, وهو مجموعة المباني الرائعة للجامعة الأمريكية التي تقوم على شاهق فوق البحر؛ والآخر, فجوة هائلة في وسط المدينة, في شارع اللنبي الذي يؤدي مباشرة من الميناء إلى المسرح. ولأسباب مختلفة, فإن هذان الأمران أساسيان في الواقع, و لا يمكن للروح أثناء الإقامة في بيروت,ان تنفصل عنهما أبدًا.

خلال الحرب ، أمرَ جمال باشا قائد الجيش التركي هنا, بقبضته الحديدية تحديث بيروت, و من دون أن يزعج نفسه باعتبارات عاطفية عبثية, أخذ مسطرة وقلم رصاص ورسم خطين مستقيمين على مخطط للمدينة يبدأن من السراي الكبير , حيث يقيم, ويصلان إلى الميناء. بين هذين السطرين لم يكن ليبقى اي منزل قائماً. وما أمر به حصل.

عندما وصل الإنجليز, ثم الفرنسيون بعد انتهاء الحرب, وجدوا في قلب المدينة اكواما من الخراب. ولكن في كل مصيبة شيء جيد. وهذا التدمير السابق مكّن الإدارة الفرنسية من جعل بيروت مدينة نظيفة وأنيقة وصحية (2).

حمّى البناء التي انتشرت في كل مكان, استولت على السكان بشكل لا يُصدّق حقًا. المدينة أصبحت مواقع بناء وسقالات. منازل جديدة تظهر فجأة في الضواحي وكذلك في وسط المدينة. طريق جادة الافرنسيين التي يرتفع فيه النصب التذكاري للحرب (3), هو بداية طريق يسير الى جانب البحر لمسافة عدة كيلومترات, وهو سيصبح من أجمل وجهات مشاهدة البحر الأبيض المتوسط.

الازدهار هنا هو أكثر من رائع, رغم ان الطبيعة لم تقصد ان تكون بيروت مدينة كبيرة. ميناؤها متوسط, وضيّق, ومعرّض لرياح بحرية. وفيه تتحرك القوارب بصعوبة. لذلك يجب بذل المزيد من العمل لجعل هذا الميناء في وضع يمكنه من أداء دور المعبر نحو بلاد ما بين النهرين التي تعتمد عليه بازدياد.

سيخبرك الحزينون هنا, أن هذا العمل له نكسات, وهناك الكثير من التكهنات وربما الخوف. وتحوّل الليرة التي كانت عملة ذهبية, إلى عملة ورقية مساوية للفرنك الفرنسي (4), أعطى السكان المحليين الذين علّمتهم التجارب على مر القرون, وجعلتهم يرتابون, ويشعرون دائما أنه من الأفضل وضع الأموال في العقارات بدلا من قيَم متقلبة.

كما يجب ادراك, ان تطور هذه المدينة بسرعة, قد يجردها من بعض ملامحها الخلابة. قد لا تصدق انك موجود في الشرق. فهذه الشوارع الواسعة, تشبه مثيلاتها في نابولي أو مرسيليا أو برشلونة, و لكن من دون المظاهر الإسلامية, و الطرابيش التي يضعها كل السوريين بلا تمييز.

والتحول الفوضوي لبيروت القديمة إلى مدينة غربية له جانب سلبي آخر, وربما يكون أكثرها خطورة هو تدمير الذكريات التاريخية. فهذه التربة غنية بشكل غير عادي, وما عليك سوى الانحناء وحفر حفرة صغيرة لتعثر على أعمدة أو تيجان من جميع العصور.

تعرضت هذه المدينة للدمار عدة مرات بسبب الزلازل وموجات المد البحري. وفي كل مرة أُعيد بناؤها ومن المواد التي بقيت في مكانها.

وهكذا ، في منطقة المنتدى الروماني, وُجدت آثارٌ متراكمة من ثلاثة عصور على الأقل سليمة, و يمكن التعرف عليها. ولكن , لسوء الحظ, هذه المنطقة الاثرية هي أرض مملوكة لمتمولين, و عندما قررت الإدارة ترك كل هذه الاثار الرائعة في مكانها, صرخ أصحاب الاراضي وكأنهم يُذبحون. فعادت الإدارة التي لديها من المشاغل ما يكفي, عن قرارها وتنازلت لهم.

بهذه الطريقة, حدثت في منتصف القرن العشرين, أكثر أعمال التخريب المتعمدة والواضحة في كل العصور أمام أعيننا. شُتتت الأعمدة, وبدأت اعمال البناء حسب الطريقة المتبعة هنا بإحداث ثقوب كبيرة في الأرض بواسطة ضواغط, وصبّ الإسمنت المسلح فيها. في وقت كان صديقي لويس بلونديل, في جنيف, يبحث باستخدام عدسة مكبرة عن قطعة حجرية رومانية في أسس بنك كريدي سويس. هذا ما يفعلونه في آسيا, على الأرض القديمة للحضارات المتراكمة!

لكن الحياة أقوى من التخريب البشري. ندمر ذكريات العصور القديمة ولكنها تعود وتولد من جديد تحت أقدامنا.

كانت بيروت تحت حكم الإمبراطورية الرومانية, والتي كانت تسمى آنذاك بيريت, واحدة من أكبر المدن الجامعية في الشرق. اشتهرت كلية الحقوق بها, على وجه الخصوص, وهنا درّس بعض الفقهاء المشهورين في العصور القديمة اليونانية اللاتينية. ومع ذلك, فإن بيروت في طريقها لأن تصبح مرة أخرى مركز التعليم العالي الذي كانت عليه من قبل. ولحسن الحظ ، الطلاب في المدينة ليسوا فقط من لبنان وسوريا, بل يأتون من جميع أنحاء الشرق, لأنه باستثناء القاهرة وإسطنبول, لا يوجد جامعة مماثلة لتلك الأميركية في بيروت.

اكتشفت بيروت بعد عشرين قرنًا, تقاليدها وسبب وجودها, وأصبحت أوكسفورد وكامبريدج شرق البحر المتوسط.

____

هوامش:

(1) لم نعرف اسم المراسل كاملا باستثناء الحرفين الأولين من اسمه واسم عائلته ( WM ).

(2) يتجاهل الكاتب هنا, ان الانتداب الفرنسي, تابع اعمال الهدم بشراسة كبيرة واستهدف خاصة المساجد والمعالم الإسلامية والاثار العثمانية في المدينة, كما وضع كل الاوقاف الإسلامية تحت سيطرته وادارته المباشرة.

(3) يقصد الكاتب, نصب الجندي الفرنسي المجهول وقد نُقل لاحقاً إلى منطقة الكرنتينا.

(4) تمكنت فرنسا من سحب الذهب من لبنان وسوريا بواسطة “بنك سوريا ولبنان الكبير” كما ذكرَ الدكتور مسعود الضاهر في كتابه ” تاريخ لبنان الاجتماعي 1914 – 1926″

________

*باحث في تاريخ بيروت/ عضو جمعية تراثنا بيروت.

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website