طرق وأدوات الصيد
خلال رحلة صيادي “عين المريسة” اليومية في “الواسع” تمتزج خيوط الشمس الذهبية مع خيوط شباك الصيد الزرقاء، التي ورغم الطرق البدائية المعتمدة في رميها وسحبها، فإنها تحفظ جزءاً كبيراً من تراث تلك المهنة العتيقة، وتروي عبر خيوطها فصولاً لا تمحى من ذاكرة البحر التي لا تنضب.
شباك صيد الأسماك بالنسبة للصيادين هي الأساس لإيقاع الأسماك في فخها. وهي عبارة عن مجموعة من الألياف المنسوجة على شكل شبكة، وكانت تصنع هذه الألياف من الأعشاب والكتان ثم القطن قديماً، يضاف إليها “الفلين”، ومع التطور أصبحت تصنع من مادة “النايلون”.
فعند غروب شمس كل يوم، إيذاناً بإقتراب حلول ظلام الليل، يرمي الصيادون الشباك في عرض البحر ويمدونها في المنطقة البحرية المخصصة لهم، ويبقونها حتى ساعات الفجر الأولى، حيث أن تلك الفترة حالكة السواد، مما يجعل الرؤية عند الأسماك منعدمة، مما يسهل عملية وقوعها في المصيدة، طيلة ساعات الليل.
وفي الصباح الباكر، يبحر “الصيادة” بمراكبهم بإتجاه المكان الذي رموا فيه شباكهم، و”المُعَلَّمة” بعوامة من الفلين، حيث يبدأون بزنودهم القوية عملية سحب الشباك الشاقة لثقل وزنها من البحر، بما علق بها من أسماك، و”تستف” في “القفف” وسلال القش بطريقة فنية إحترافية متناسقة وتوضب بشكل متراكم بإنسيابية لا يجيدها إلا الصيادة أنفسهم…
فبحسب خبرة “الصيادة” تتفاوت ساعات النهار والليل في صلاحيتها للصيد، إذ أن من غرائز السمك الإقتراب من الشواطئ بعد غروب الشمس باحثاً لنفسه عن طعام يأكله أو عن مكان آمن يرقد فيه.
فإذا ما بدأت الشمس في البزوغ تراه يهرع من جديد إلى داخل البحر حتى لا يكشف أمره ولا يبقى على الشواطئ إلا صغير السمك الذي يستطيع أن يظهر بسرعة بين ثنايا الصخور. لذلك، يجوز القول بصفة عامة أن الصيد في الليل خير من الصيد بالنهار. وهذا ما يؤمن به الصيادون وما يعمل به العديد منهم، حيث يباشرون الصيد بعد أن يرخي الليل سواده.
فمن يشاهد من على الشاطئ إنتشار المراكب في البحر، يشعر نفسه أنه يشاهد لوحة سريالية لناس يسهرون على شرفات بيوت عين المريسة القرميدية، في ليلة قمرية مضيئة، وكأن المراكب البحرية هي إمتداد للنجوم المتلألئة في السماء.
في حين أن الواقع ليس كذلك على الإطلاق، فالساهرون من الصيادة على سطح البحر على ضوء قناديل “اللوكس” ليسوا في رحلة إستجمام، بل في رحلة كفاح لا يدرون إذا يعودون صباحاً إلى “المينة” مظفرين، أم أن البحر سيغدر بهم…
ولأن صيد السمك يجذب لصيادة “العين” الخير والرزق، فإنهم لم يكتفوا فقط الصيد بواسطة الشباك، بل لجأوا إلى طرق وأدوات الصيد التقليدية المختلفة التي تحتاج إلى مهارات خاصة، والتي مازالت مستخدمة إلى اليوم.
ومن تلك الأدوات نذكر:
-“الأقفاص”
تصنع هذه الأقفاص من الأسلاك المعدنية التي تلتف بشكل دائري، مع الإبقاء على فتحة من الأعلى بشكل ضيق وممتد إلى الداخل.
بعد إختيار المنطقة البحرية يضع الصياد مزيجاً من الأعشاب البحرية المختلفة داخل القفص وعلى أطرافه كطعم لجذب الأسماك، ثم يغطس في الماء حتى يصل الى القعر ويختار مكاناً لتثبيت القفص، حيث يترك القفص في الماء مدة لا تقل عن الساعة حتى تدخل إليه الأسماك التي ما أن تشدها رائحة العشب البحري حتى تسبح نزولاً وتدخل من خلال الفتحة إلى القفص لكي “ترعى” العشب، إلا أن هذه الأسماك تبقى عالقة داخل القفص ولا تتمكن من الخروج منه مجدداً.
بعدها يرجع الصياد لتفقد أقفاصه فيرفع الى مركبه تلك التي دخلت إليها الأسماك فيفرغها ويعيدها ويبدل أمكنة الاقفاص الفارغة، وهكذا دواليك حتى ينتهي من صيده.
-الجرجارة:
هي عبارة عن خيط تربط به عدة “سنانير” فيها ريش أبيض، و توضع “الجرجارة” في الماء في الوقت الذي يكون فيه المركب يسير في عرض البحر.
-البولس:
هي عبارة عن خيط مربوط به عدد من “السنانير” يوضع بهم طعم من السردين او القريدس لجلب الأسماك للتمكن من إيقاعها بالفخ، ومن ثم إصطيادهم بعدما تكون قد علقت ب”السنارة”.
خاتمة
إنها علاقة (أولاد) “عين المريسة” مع البحر، التي هي علاقة عشق أبدي، علاقة ضاربة في عمق الزمان بتضاريسه المتعرجة، علاقة محفورة تفاصيلها على كل صخرة من صخوره، ومدفونة أسرارها في قعر البحر، التي لم تمحها لا الأمواج العاتية ولا التيارات الصرصرة…
فهم مجاورون للبحر، لا بل متصلين به، كأنهم ولدوا لأجله، أحبوه وتعلقوا وإرتبطوا به، وتوارثوا حرفة الصيد وركوب مخاطره وهم صغاراً جيلاً بعد جيل بالفطرة والإعتياد، ليواصلوا ويحافظوا على تراث الأجداد والأباء بكل أمانة، حتى صارت هذه العلاقة تجسد تاريخهم وعاداتهم وتقاليدهم وحكاياتهم ومروياتهم الأصيلة المتجذرة، التي تتناقلها الأمواج على نطاق واسع وأمد طويل بإنسيابية تشبه حركة المد والجزر، دون أن تتأثر بكل تغييراتها…
تمت السلسلة، مع الشكر لكل الأحبة المتابعين.
_____
* إعلامي وباحث في التراث الشعبي. عضو جمعية تراث بيروت.