مدينة بيروت من خلال عيون الرحالة المسلمين (1)

أعد المادة وترجمها: نبيل شحاده*

لا يختلف اثنان على ان الأهداف الأساسية للرحالة عبر التاريخ, كانت التعرف على بقاع جديدة وما فيها من قيم إنسانية و معتقدات وتقاليد ومعالم وانشطة اقتصادية, رغم ان بعضهم كان في مهمات رسمية ودوّن في مراسلاته ما يمكن اعتباره ثروة تاريخية.

هذه الكتابات تبقى دائما مصدرا لمعلومات ثمينة واحيانا نادرة, و تفيدنا في استكمال صور بيروت التاريخية, ومعرفة مظاهر الحياة التي كانت سائدة فيها او تطورها مع اختلاف ازمان هؤلاء الرحالة.

في هذه السلسلة, سوف نبحر في مطالعة دراسة رائعة كتبها الباحث التركي “فرات كوسكو” في مجلة كلية العلوم الاجتماعية في جامعة سينوب التركية, تحت عنوان “مدينة بيروت من خلال عيون الرحالة المسلمين (1890-1914)”, لأنها بحسب وصفه:” بيروت واحدة من أكثر المدن الملونة في لبنان, بل حتى في الشرق الأوسط, من حيث التنوع الديني والحضاري”, ويضيف ان ” بيروت, التي كانت تقريبًا قرية في بداية القرن التاسع عشر, أصبحت في نهايته, واحدة من المدن الساحلية الرئيسية للإمبراطورية , و برزت بين المدن التي كانت تتنافس على ان تكون الميناء التجاري للمنطقة”.

سوف انقل لكم تباعا ومترجما الى العربية, بعض الفقرات المهمة التي وردت في كتب رحّالة مسلمين متنوعي الأصول, ومختلفي الثقافات. وحلقة اليوم, ستكون عن موقع بيروت وجغرافيتها ومناخها وعمارتها, على ان نعود في حلقات لاحقة لتغطية بقية المواضيع من نفس المقال وتشمل السكان والتركيبة الديموغرافية والتعليم والثقافة والحياة الاجتماعية وحياة الناس.

نبدأ بما كتبه العالم والأديب و المؤرخ الهندي شبلي نعماني (1892) في “كتاب السفر الى الأناضول وسوريا ومصر “(1) عن جغرافية بيروت وقارن بين المدينة القديمة والضواحي الجديدة التي نشأت حولها فيقول: بيروت هي مدينة ساحلية ومحطة انطلاق الى كل سوريا. وهي تُعتبر أيضًا مركز الثقافة والحضارة في هذه المنطقة. الجزء القديم من المدينة متهالك ومتداع للغاية والشوارع ضيقة ومليئة بالحفر. والمنازل فيها مسطحة وخانقة. لكن الجزء الجديد من بيروت, فهو متألق للغاية وجميل المظهر. تكثر فيه المطاعم والفنادق والمقاهي, وقد جُدّد بناء أحد المقاهي في وسط البحر وله منظر رائع.

الطقس الرطب هنا اتعبني وابطأ حركتي إلى حد ما. ومع ذلك يقول الجميع إن الهواء هنا مفيد جدًا للصحة الى حدٍ, اعتاد الناس القدوم من أماكن أخرى الى هنا لتغيير الهواء وتحسين صحتهم.

يسود اعتقاد بين مسؤولي الدولة (العثمانية) ان طقس بيروت مفيد للأمراض. ولذلك يأتي العديد من الموظفين والمديرين إلى بيروت. على سبيل المثال, في 27 كانون الأول 1890 , أُرسل محافظ دير الزور, محمد صلاح الدين أفندي, إلى بيروت لمدة شهرين لتلقي العلاج من مرض المّ به.

وممن جاء أيضا الى بيروت, محافظ بازارجيك محمد أفندي, ضابط شرطة دمشق حسين قنديلي, محافظ منطقة باياس إلفان بك, محافظ منطقة بني صعب نجيب نادر أفندي, ومحافظ إشارة محمود صلاح الدين بك, ومدير السجلات في طرابزون محمد أمين أفندي. هؤلاء عدد قليل من الضباط الذين اُرسلوا إلى بيروت للعلاج, اما في وثائق الأرشيف, فيُلاحظ أن عددا اكبرا من المسؤولين من جميع أنحاء الإمبراطورية اُرسلوا الى هنا للعلاج أو تغيير الهواء”.

وننتقل الى فقرة ثانية مأخوذة من كتاب “رسائل عراقية من بيروت إلى الكويت” (2) للحقوقي والسياسي والكاتب من اصل كردي والنائب عن بغداد في مجلس المبعوثان, بابان زاد إسماعيل حقي بك (1908) والذي اصبح لاحقا وزيرا للتعليم العثماني لمدة قليلة. فهو وصف جغرافية بيروت بدقة, وكرّر تقريبا ما قاله شبلي نعماني حول الجزء القديم المُهمل من بيروت قائلاً:” مباني بيروت القديمة مرتفعة و مقوّسة. وفيها رائحة كريهة لأن شوارعها ضيّقة وقاتمة ومغطاة في اغلب الأحيان”.

اما عن الجزء الجديد فوصفه بالتالي:”مباني بيروت الجديدة حجرية وأنيقة, وشوارعها عريضة وواسعة. وينتشر في شواطئها الصخور فتشكل طوقا طبيعياً لها. لا توجد مياه راكدة في المنطقة, و على الرغم من اعتدال الطقس, الا أن درجة الحرارة في الصيف تتراوح بين 30 و 35 درجة, و يصعب معها تحّمل الرطوبة الزائدة.

من الضروري الاعتراف بأن موقع المدينة جميل , ومحيطها النظيف يريح سكانها, فضلاً عن غابة الصنوبر المنعشة, التي يمكن اعتبارها متناغمة مع مدينة بيروت”.

يتابع “بابان زاد” كلماته حول المعالم الجغرافية للمدينة على النحو التالي: “من المناظر غير المرئية في جهة رأس بيروت, موقع الروشة, الذي يسمونه أيضا مغارة الحمام, ويتألف من صخور عالية جذابة ومذهلة على الشاطئ الذي عَمل فيه التآكل والنحت بفعل ضربات الأمواج المستمرة, وشكّل تجاويف في غاية الشاعرية, وخلق مناظر طبيعية فريدة من نوعها لا تشبع من النظر اليها.

ومن السمات البارزة الأخرى لبيروت أنها تقع على سفح الجبل, فيستفيد سكان المدينة من الهواء النقي للجبال ومن تجارتهم اليومية في المدينة, حيث ينتقلون في الصيف إلى منتجعاتهم الجبلية بسهولة, مثل (سكان إسطنبول) الذين يعبرون في كل يوم مضيق البوسفور “.

الشاعر والروائي وكاتب الرحلات والمفكر والمترجم”علي سعاد” (1911) وصف في كتابه “رحلاتي إلى سوريا والعراق ونجد والحجاز”(3) كروم العنب والبساتين التي شاهدها في بيروت قائلا : “على طول الطريق ,حدائق صغيرة وبسيطة على اليسار, والبحر على اليمين. وفي هذه الحدائق كانت أشجار التوت المخصصة لديدان القز, وكروم العنب, وأشجار التين ومزروعات اخرى. مشهد شاطئ البحر كان جذابا , مع صخوره المنحوتة وضربات الأمواج الصغيرة المتألقة”.

الأديب والطبيب العثماني من اصل مقدوني,”جناب شهاب الدين” الذي زار بيروت بعد الرحالة الذين ذكرناهم بوقت بعيد, وصف في كتابه ” انطباعات عن بيروت وفلسطين ونابلس في 1918 ” (4) المعالم الجغرافية لبيروت على النحو التالي: “الجبال والشمس والبحر. هذه هي العظائم الثلاث التي تلخّص بيروت. في الأفق الغربي, تموجات البحر الأزرق, و في الأفق الشرقي تلال مذهبة ومشرقة,يقوم على الوانها الارجوانية والزرقاء, ابنية حجرية بيضاء وانيقة: ها هي بيروت!

(1) Şibli Numani – Anadolu,Suriye,Mısır Seyahatnamesi

(2) İsmail Hakkı Babanzade – Beyrut’tan Kuveyt’e Irak Mektupları

(3) Ali Suad- Suriye, Irak, Necid ve Hicaz Seyahatlerim

(4) Cenab Şahabeddin – Beyrut, Filistin ve Nablus İzlenimleri 1918

________

*باحث في تاريخ بيروت/ عضو جمعية تراثنا بيروت

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website